إن الجندي المجهول ليس هو ذلك القبر الذي يزار ولا النصب التذكاري الذي توضع عليه أكاليل الزهور وتعزف بجنبه سنفونيات النصر ولا حتى تلك الأقصوصة اوالحدوثة لذلك الجندي الذي حمل السلاح في ساحة شرفهم واستمات وقتل واقبر .وزعموا بادعاءاتهم انه مجهولا واستنكروا هويته وقوميته وهم يعلمون. يعرفونه حق المعرفة انه العربي المسلم البطل الشجاع.الذي اخذ قهرا الى هناك .ودفع به إلى الصف الأول كدرع واق في الجبهة الأولى من القتال لصد الموت عنهم .وتغنوا كثيرا بهذا الانتصار الباهر وجحدوا فضله على الآخرين .وسموهم بالغرباء الاقلة المجهولون .بعد أن عرفهم التاريخ وسجل أسمائهم في كتاب من ذهب. سال عنهم أوليائهم ودويهم الفقراء الرعاة الفلاحون وبضجة كبرى هزت أرجاء المعمور.ولا زال سجلهم لم يطو بعد بل ظل وأمسى في طي التناسي والكتمان بالإسرار على الإنكار. وانه الشرف العظيم والاعتزاز الكبير بالفخر أن يكون هذا البطل منا من امتنا.جادت به بطن فلاحة بأحد البوادي.و أصبح رمزا للتضحيات والمثل العليا. يضرب به الأمثال ويقتدى به. طلع فجرا لصباح بنوره الوضاح على أزقة ودروب الحارة الضيقة ولاح .بعد رحيل الرجل الغريب.والذي حمل معه آلاما وهموما أخرى أضافها إلى قاموس أحزانه. فتحت أبواب المنازل العتيقة .وخرج منها بعض الشغيلين مسرعين في مشيتهم لم يلحظوا التغيير أو أن الوقت داهمهم وهم غير مبالين للهواءالعليل المنعش الذي يستنشقونه وقد عم الأجواء.وفي هذه الصبيحة المباركة شهدت الحارة حيوية ونشاطا لا عهد لها به.إذ تجمع الناس جماعات وفرادى هنا وهناك يتكلمون بثرثرة. منهم العاطلون والمتقاعسون ...ففي الجماعة الأولى انضم إليهم صاحبهم والذي خرج متأخرا من بيته واضعا يديه في جيوبه وهو يقول : وبطريقته المعهودة ويتبعها بقهقهات عالية. إني رايتهم وهم ينظفون ويكنسون . فقاطعه احدهم قائلا : من رأيت ? أجاب المتهور.كنت اطل من النافذة ورأيت العمال أصحاب النظافة يدفعون عربات وهم الذين نظفوا الحارة. تلقفه آخر : اسكت يا متهور ماعهدنا عليك صدقا .لم اسمع أي حركة ولا ضجيج في حينا ليلا.لأني لم انم مبكرا.ودار بينهم نقاش حاد.في زاوية الزقاق وقفت جماعة أخرى يتكلمون وتسمع ضجيجهم من بعيد. قال قائل منهم وهو يصرخ في وجههم : ألا تؤدون أجرة عملي وأجرة الرجال الذين استاجرتهم لتنظيف الحارة .وقال من كان معه :وهل استشرت معنا ? من خول لك القيادة ? .إن الحي نظيف الآن.ولم يكن متسخا من قبل كما تزعم أنت. كان بالقرب منهم شيخ مسن يجلس على كرسي خشبي قصير متكئ على حائط هش ويداه المرتعشتين تمسك بعصا كعكازة يرتكز عليها في مشيته .يظهر على تقاسيم وجهه الشاحب حكايات الماضي الغريب .قام الشيخ الهرم من مكانه بصعوبة كبيرة منحني الظهر يمشي بخطوات ثقيلة فيها تعثر ووهن اتجاه الجماعة. وتوقف عن المشي وكاد أن يسقط. أطال النظرفي وجوههم وأمعن جيدا بعينين وقد مسحت منهما بريق الطفولة والشباب والكهولة.وتكلم بصوت ضعيف متقطع :ألا تستحيون أليست فيكم مروءة ألا يوجد فيكم رجل واحد ينصحكم وينهاكم تبا لكم من أطفال غضب الشيخ كثيرا والكل لزم الصمت مطأطئي الرؤوس بخجل وحياء من الشيخ الوقور الذي يحترمه الجميع والذي لم يبق لهم من تراث الماضي والتاريخ إلا هو.ازداد حجم الجماعة وانضم إليها الجميع ملتفين حول الشيخ وهو يلوح بعصاه إلى أعلى ولا يكاد يرفعها قائلا : قولوا لي لم تسألون وتلحون في سؤالكم عمن قام بتنظيف الحارة ألا تفهمون بأنها رسالة موجهة إليكم. الهدف هنا هو ماذا ستفعلون انتم هل ستنتظرون مرة أخرى من سيقوم لكم بعملكم ويقدم لكم المساعدات. انظروا إلى ما آل إليه حالكم. لقد قضيت عمرا معكم يا أبنائي ومع آبائكم وأجداد كم وما رأيت قط قوما أمثالكم هيا تسامحوا تصافحوا تعاشروا تجاوروا...اعملوا صالحا. اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون . سالت الدموع وانسكبت على وجنتي الجميع وارتموا في أحضان بعضهم البعض متسامحين. واصفح الصفح الجميل وادفع بالتي هي أحسن. تشاوروا في أموركم . إن الجد في الجد والحرمان في الكسل. كانت كلمات الشيخ الكبير دروسا وإرشادات ونصائح هزت أركان مشاعرهم اجتذبها من أعماقهم غيرت كل مكوناتهم إلى ما هو أفضل وأحسن. وعاش أصحاب القرية في وئام وسلام متآخين متضامنين متعاونين والفرحة تغمر قلوبهم. ودارت الأيام هز القرية خبر مفجع رحيل الشيخ المعلم الوقور المحبوب إلى الرفيق الأعلى. كانت الصدمة كبيرة والفاجعة اكبر يتلقاها أهل القرية.أعلنوا الحداد وبكوا كثيرا وهيئوا لفقيدهم اكبر موكب جنائزي عرفته المنطقة. وجاء الناس من كل حدب وصوب وسار وراء الموكب عدد غفير من الناس غصت بهم المنطقة يرجون رضا الله ورضوانه. هناك على الربوة وبالقرب من أشجار الزيتون المطلة على الطريق التي يمر منها الموكب وقف الرجل الغريب وقفة صمت وسكون وتأمل. انه الجندي المجهول وعلامات البشر تظهر على محياه وقد علا وجهه الوضاح ابتسامة عريضة . وهو يقول : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ...عشت كريما ومت كريما. إلى الجنة يا معلمنا الحبيب. اتبعنا الله بك مسلمين آمين. ورب كلمة طيبة وموعظة تخرج من فم رجل مسكين...نم هادئا مطمئنا قرير العين فوطن العروبة سيبقى علمه خالدا خفاقا مرفرفا في الآفاق يشدوا بتقاسيم سنفونيات النصر للبطل العربي المسلم القوي الإيمان , الجندي المجهول...انتهى بقلم : السيد احمد بوتزاط |