المقدمة الطللية (9) كن أول من يقيّم
رابعاً : أخذ الجاهليون عناصر صورهم من البيئة التي كانوا يعيشون فيها ، وهي سمة مرتبطة بالوضوح والحسية ، بيد أن هذا الوضوح يتوفر لأي عناصر أخرى في الكون ، أما عناصر الصورة الجاهلية ، فأغلبها كان يمثل البقرة والبيضة والجؤذر والرمية والرمح والقطاة والظبية والطفل والنخيل والشمس والسحاب والبدر والأقحوان والرئم وغيرها ، وهي عناصر موجودة في البيئة الجاهلية ، عاش معها الجاهليون وتعاملوا . وقد تأثرت الصورة العذرية بالنمط الجاهلي ، أو أننا نستطيع دون إسراف وصف الصورة العذرية بأنها امتداد في بعض جوانبها للصورة الجاهلية ، قد نجد بعض العناصر الجديدة عند العذريين ، بيد أن الهيكل العام في صورهم بأطرافه وعلاقاته يكاد أن يتشابه ، وأول جوانب تأثير الجاهليين في الصورة العذرية هو أن العذريين استخدموا كثيرا من العناصر والكائنات التي استخدمها الجاهليون في شعرهم وبخاصة الحيوان ، فنجد المجنون يصف محبوبته بأنها مثل الغزال ، يقول : سبى القلب إلا أن فيه تجلدا غزال بأعلى الماتحين ربيب فكلم غزال الماتحين فإنه بدائي وإن لم يشفني لطبيب ( 30 ) أو يقول : إلا إن ليلى كالغزالة في اضحى أو البدر في الظلماء كالتم طالع ( 31 ) أو يقول : كاد الغزال يكونها لولا الشوى ونشوز قرنه ( 32 ) الأبيات السابقة تلخص مدى تأثير الجاهليين في الصورة العذرية ، فقيس يختار حيوانا صحراويا هو الغزال ليشبه به ليلى ، وكذلك الجاهليون كانوا يختارون نفس الحيوان لذات الغرض ، والصور حسية سواء في الأطراف الداخلة في التكوين ، أم في الأثر النهائي لها ، وقد كانت الصورة الجاهلية حسية بهذا المفهوم ، وقد تميزت الصور الثلاثة السابقة بالوضوح الشديد ، وهو ما نحس به أيضا عند الجاهليين . وإذا عرضنا لشعراء عذريين آخرين ، فسنجد ذات الصورة المتأثرة بطبيعة الصور عند الجاهليين ، يقول قيس بن ذريح : كيف السلو ولا أزال أرى لها ربعا كحاشية اليماني المخلق ربعا لواضحة الجبين غريرة كالشمس إذ طلعت رخيم المنطق ( 33 ) أو يقول جميل : سبتني بعيني جؤذر وسط ربرب وصدر كفاثور الرخام وجيد ( 34 ) أو يقول أيضاً : وتبسم عن غر عذاب كأنها أقاح جلتها يوم دجن سماؤها إذا اندفعت تمشي الهوينى كأنها قناة تعلت لينها واستواؤها ( 35 ) ويقول كثير عزة : وتدني على المتنين وحفا كأنه عناقيد كرم قد تدلى فأنعما ( 36 ) أو يقول : كأن دموع العين واهية الكلى رعت ماء غرب يوم ذاك سجيل ( 37 ) من هذه الأبيات وغيرها مما يزخر به الشعر العذري ، نجد الشعراء يستمدون عناصر صورهم من الخبرة الحسية اليومية ، وهي عناصر استمدها أيضا الجاهليون من خبرتهم الحسية اليومية ، فتشبيه الحبيبة بالغزال أو الرئم أو الحديث عن الظبي والخمر والكرم وغيرها تردد في شعر العذريين كما تردد أيضا في شعر الجاهليين . وقد لا يكون تردد نفس العناصر بين العصرين هو نقد للصور أو محاذاة لها ، بل تأثر بالمعجم الشعري الغزلي في العصر الجاهلي ، فلا شك أن العذريين قد أضافوا لهذه الصور القديمة طابعاً جديداً مميزاً وضح في تفصيلهم بعض الصور القديمة ، ووضح أكثر في العاطفة التي غلفت هذه الصور ، وهي عاطفة قد لا نستطيع تعيين موقعها في الصور ، إلا أننا نلمسها في أثر الصور النهائي في نفس القارئ أو السامع ، والمقاربة في التشبيه هي أيضاً إحدى السمات التي ميزت الصور العذرية كما وجدناها ميزت الصور الجاهلية . ونجد أخيراً من سمات التأثير الجاهلي على الشعر العذري هذه الصور المفردة التي أخذها العذريون ، |