في عام 1999م صدر لأول مرة ديوان الأحنف العكبري (ت 385هـ) بتحقيق الأستاذ سلطان بن سعد السلطان ، ويضم (825) قطعة، في (4998) بيتا مع المكرر، وكان الظن أن الديوان في عداد الدواوين الضائعة، منذ زمن قديم، وكانت المفاجأة أن نسخته الوحيدة في العالم تحتفظ بها مكتبة الملك فهد الوطنية.
فكيف وصل إليها ؟ وما قصة هذاالاكتشاف المذهل الذي حتم علينا أن نغير من نظرتنا إلى الأحنف، وقدمه لنا بصورة أخرى لم تكن تخطر على بال، وأضاء حقبة مظلمة من تاريخ مدينة عكبرا الراقدة على أطلالها منذ قرون
ويمكن الوصول إلى أطلال مدينة عكبرا وما أبقى منها الدهر على هذا الرابط:
أما الأحنف العكبري فهو أبو الحسن عقيل بن محمد العكبري، النهشلي (1) التميمي المتوفى عام 385هـ وقد اشتهر بالأحنف العكبري لحنف قدميه، والحنف كما قال ابن منظور ( اعوجاج في الرجل وهو ان تقبل إحدى إبهامي رجله على الأخرى) وقال الجوهري في الصحاح: (الأحنف هو الذي يمشي على ظهر قدمه من شقها الذي يلي خنصرها)
قال ابن الجوزي:( روى عنه أبو علي ابن شهاب ديوان شعره). ووصفه الثعالبي بشاعر المكدين وظريفهم. وقال الصاحب ابن عباد: هو فرد (بني ساسان) اليوم بمدينة السلام. وكثير من شعره في وصف القلة والذلة يتفنن في معانيها ويفاخر بهما ذوي المال والجاه).
قرأت في الأسبوع الماضي ديوان الأحنف العكبري وكنت أرى أبا العلاء المعري في كثير من معاني الأحنف ومبتكراته ولا أكون مبالغا لو قلت: (الأحنف العكبري هو المؤسس الحقيقي للمدرسة التي ينتمي إليها أبو العلاء)
وقد رأيت أن في شعره الذي يفيض إنسانية وعذوبة وأدبا رفيعا ما يدعو إلى تحريره من قائمة المكدين (النصابين) وضمه إلى عمالقة الشعر العربي.
ولا نقطع الأمل من العثور على نسخة كاملة لديوانه يوما ما.
وأما هزلياته ومجونه فلا أدري تاريخها، وإلى أي حقبة من حياته تنتمي، لذلك أرى عدم التعرض لها في هذه المختارات. وربما نوهت ببعضها إذا تضمن فائدة تاريخية.
كتبت لأستاذتي ضياء خانم أخبرها عن خيبتي أنني لم أعثر في المجمع عندنا على أي كتاب يتعلق بالأحنف، ثم كتبت لها عن فرحتي أنني عثرت في قوائم الكتب المقتناة حديثا على أول نشرة لديوانه، وهي النشرة التي أصدرها الأستاذ سلطان بن سعد السلطان عام 1420هـ 1999م في (633) صفحة.
يحدثنا الأستاذ سلطان عن مخطوطة الديوان فيقول: وكانت المخطوطة موجودة ضمن مجموعة مكتبة الأستاذ جميل ابو سليمان (رحمه الله تعالى) التي اقتنتها مكتبة الملك فهد الوطنية، وقد جمع الأستاذ جميل مخطوطاته أثناء إقامته في المغرب العربي، ومنها هذا الديوان الذي نجد على ورقته الأولى تعليقا مختصرا باسم صاحب الديوان بخط مغربي، ومع ذلك فنسخة الديوان مشرقية، كتبت في بغداد في 15/ ربيع الأول/ سنة 595هـ بخط النسخ التدويني على ورق مشرقي، لعله من صنع بغداد أيضا ... اما ناسخ الديوان فهو محمد بن علي بن إبراهيم بن محمد الكاتب، ونسخه جيد ومقروء، ويورد بعض اختلافات القراءة في الهامش. وتقع النسخة في (171) ورقة، وقياسها 22 سم × 16 سم، ورقمها (9/ مجموعة أبو سليمان) وجاء في آخرها (قال الحسن بن شهاب بن علي بن شهاب عفا الله عنه: هذا آخر ما وجد من شعر الأحنف العكبري. ووافق فراغ محمد بن علي بن إبراهيم بن محمد الكاتب منه صبيحة الإثنين خامس عشر ربيع الأول من سنة خمس وتسعين وخمسمائة وهو ثالث عشرين من شباط سنة عشر وخمسمائة وألف يونانية ببغداد، والحمد لله دائما وصلى الله على سيدنا محمد والنبي وآله الطاهرين، سهّل الله بعد عسر يسرا
وقد سقطت من أول المخطوطة صفحات ضمت قافية الهمزة ولا نستطيع تحديد عددها، وتلا قافية الباء باقي الحروف خلا حرف الخاء، وفي آخر الديوان اختلطت قافية الميم مع النون. ولا شك ان هناك نصوصا كثيرة ضاعت من شعر الشاعر، ويؤكد هذا وجود بعض القصائد التي حوتها بعض المصادر، ولم ترد في الديوان، ومن ذلك ما ورد في تاريخ بغداد 12/ 301 ويتيمة الدهر (3/ 114) وستأتي في ملحق خاص) وكذلك ورد في الديوان بعض النصوص المتكررة، فيأتي نص من ثلاثة أبيات ثم يأتي النص نفسه وقد زاد على ستة ابيات، فهذا دليل آخر على فقدان جزء من قصائده وأبياته، وربما كان لاعتماد جامع الديوان على الرواية الشفوية دور في ذلك.. وورد في الديوان أن أبا الفرج التميمي كان يدون شعر الأحنف، وكذلك راوي ديوانه الحسن بن شهاب، وكل هذا يوضح لنا مدى اهتمام العلماء والأدباء بشعره وقت حياته
قال: (وظل ديوان الأحنف مجهولا تاريخا طويلا، وجاء المؤلفون والباحثون في العصر الحديث، ودرسوا أدب العصر العباسي دراسات كثيرة، ولم يحظ الأحنف العكبري بنصيبه منها، وهم بمنأى عن اللوم، فسبب ذلك أن ما دون ونشر من شعره قليل جدا، لا يتجاوز الأربعين بيتا .. وقد تصفحت فهارس المكتبات في العالم فلم أجد أي إشارة إلى نسخة أخرى، وبحثت في المجاميع الشعرية فلم أعثر على شيء، وواجهت صعوبات شتى في التحقيق إذ الاعتماد على نسخة واحدة يجعل الأمر شاقا وعسيرا، إضافة إلى ما طرأ على النسخة من آفات الكتب، وأسوأها بلل من سائل، لعله حبر، وقع في آخرها، طمس بعض ابياتها وكلماتها، وجاء احد النساخ وحاول التعديل والإصلاح، فلم يوفق في ذلك، فأحدثت تحريفا في تلك الأبيات، ولم يسلم منها إلا القليل، فأثبت رسمها في مواطنها، وأشرت إلى التحريف، ووضعت في نهاية الكتاب صورا من تلك التعديلات من أصل المخطوط ليكون ذلك في متناول القراء. وفي ظني ان إخراج هذا الديوان سيفيد الباحثين، فسوف يضع بين أيديهم شاعرا كبيرا مبدعا وليس في هذا مبالغة او تجاوز، فقد حظي شعراء أقل منه شانا بدراسات مختلفة وبحوث متعددة، وما تجدر الإشارة إليه أنه قد يرد في الديوان ابيات مخلة بالعقيدة وأصناف المجون والسخف ووصف الخمر وشربها، مما لا يرضاه المسلم ولا يقره، ولم أرتض حذفها وطمسها، إذ الأمانة العلمية تقتضي أن أنشر الديوان كما وصل إلينا وفق ما أراده جامعه الحسن بن شهاب رحمه الله، ولأن ما ورد في هذا الكتاب من نصوص تصور لنا الحياة في عصر الشاعر وأوضاع مجتمعه. يقول الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمة تحقيقه ليتيمة الدهر: "ولم أشأ أن أحذف شيئا مما في هذا الكتاب من المجون .... لأنا لا نؤلف كتابا نختار فيه ما نشاء وندع ما نشاء، وإنما نحقق نصا قيده صاحبه في زمن كان الناس فيه اشد تحرجا من هذا الزمن الذي نعيش فيه"
ومع ذلك فقد حذفت بعض الكلمات الصريحة في المجون والفسق، وإنا نستغفر الله تعالى من إثبات تلك النصوص وندعو الله تعالى أن يغفر للشاعر ما زل فيه لسانه وما تاه فيه فكره وعقله).
قلت أنا زهير: وقد استوقفني أن ابن النديم (وهو معاصر للأحنف) عد عكبرا في أمصار الخوارج، فقال في (الفن الثامن من المقالة السادسة) تحت عنوان (فقهاء الشراة): (هؤلاء القوم كتبهم مستورة قل ما وقعت لأن العالم تشنأهم وتتبعهم بالمكاره ولهم مصنفون ومؤلفون في الفقه والكلام وهذا المذهب مشهور بمواضع كثيرة منها عمان وسجستان وبلاد أذربيجان ونواحي السن والبوازيج وكرخ جدان وتل عكبراء وحزة وشهرزور فمن فقهائهم المتقدمين. جبير بن غالب .. إلخ)
كما استوقفتني في كتاب (طبقات الحنابلة) لابن أبي يعلى قصيدة نادرة، استعار كاتبها أبياتا من قصيدة لابن الرومي، وهو يؤنب فيها عرب طورسينا لمساهمتهم في بناء كنيسة للنصارى في عكبرا، بينما ديوان الأحنف يشهد أن عكبرا كانت في عصره مدينة عامرة باليهود والنصارى، والأديرة والمدارس والحانات ؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 - رجح المحقق أن الأحنف من قبيلة نهشل التميمية، قال: ولم تذكر المصادر ذلك، وإنما ورد في شعره ما يثبت ذلك فهو يقولك
يا ليتني كنت من أنباط دسكرة بديرقنَّى ولي صفر الدنانير
ولم أكن نهشليا من بني مضر وكنت أنسب في أبناء سابور
ويقولك
وبيت من المجد الرفيع سمكتهُ ثفت لي أثافيه تميم وخندف
ونراه يستنجد ويستغيث بعشائر تميم ليخففوا عنه المعاناة والمشقة، فهم أقرب الناس إليه، وأسرعهم إلى نجدته فيقول:
يا للعشائر من تميم iiانجدوا |
|
رجلا أضيم ولم يزل نجدا | وهو شديد الاعتزاز بهذا النسب، يفخر به ويشيد ويقول:
أنا ابن الألى شادوا العلى من عشيرة |
|
عـديـدهـمُ في الـنـائـبات كثير | ويكرره في قوله:
وإن لي نسبا في العرب فصّحني |
|
بين النبيط و (....). | ويرثي لنفسه إذ عاش بين قوم أعاجم، لا ينتسبون إلى ربيعة ولا مضر فيقول:
لقد دُفعت إلى قوم إذا انتسبوا |
|
فلا ربـيعة تؤويهم ولا مضر | |