بين موسيقانا والموسيقى الغربية (1) كن أول من يقيّم
أريد ، وقبل كل شيء ، أن أشكر الأستاذ عبد الحفيظ لإدراجه هذا العزف الرائع والمميز لسوناتا بيتهوفن في هذا الملف لأنه جعلنا على اتصال حسي مباشر وواقعي مع الموضوع الذي نتحدث عنه
كان الأستاذ ياسين الشيخ سليمان قد طرح في بداية مشوارنا مع هذا الموضوع السؤال التالي :
السلم الموسيقي ، هذا الذي يبدو وكأنه نشأ مع نشأة المخلوقات ، ما الذي جعله يختلف بين شرق وغرب؟ أهو تباين الفلسفات العقلية ، أم هو تباين العواطف والمشاعر والأحاسيس؟ أم هو كلاهما؟.
وسؤال أخير خطر لي ؛ لأن المشاركات تتحدث عن موسيقات موسيقيين غربيين : ما الذي يجعل من موسيقى شعب من الشعوب تنتشر وتعم لتصبح عالمية؟ ولماذا اشتهرت الموسيقى الأوروبية أو الغربية عموما بأنها عالمية ، في الوقت الذي ما زالت الموسيقى العربية ، مثلا ، تراوح مكانها؟ هل الشكل الفني للموسيقى هو السبب أم أن السبب تباين الثقافات والفلسفات بين العرب وغيرهم ، وهل هناك أسباب أخر؟ وشكرا لكم .
وكنت قد عثرت على بحث هام في مجلة حوار التي كانت تصدر في بيروت ( العدد السادس 1963 ) كتبه الأستاذ : أحمد الجندي ، يخدم غرض هذا الملف تماماً ، رغم قدمه ، ويجيب على بعض هذه الأسئلة أقتطع منه الفقرات التالية :
بين موسيقانا والموسيقى الغربية
نحن كعرب نعيش اليوم في أزمة موسيقية : التاريخ الموسيقي الذي نضمه مشوش لأن مصادره الحديثة مشوشة مضطربة ، والتاريخ الذي ورثناه أيضاً مختلط مبعثر لو رجعنا إلى أساسه لأعجزنا إيجاده كاملاً . أما تاريخنا الحديث فينبع مما ينتجه عبد الوهاب صاحب المدرسة المصرية الحديثة ، وفي سوريا ولبنان يسيطر اللون الفيروزي الذي يقدمه لنا الأخوان رجباني ويلتقي معهما فيه وديع الصافي وغيره .
لا تصح المقارنة بين الموسيقى العربية والغربية من وجهة التطور ، لقد شرعنا مؤخراً في عملية التطوير على حين أن التطور قد تناول الموسيقى الغربية منذ عصر النهضة أو منذ باخ على وجه التحديد .
منشأ الموسيقى الغربية :
لقد تناول العلماء والفلاسفة الغربيون الموسيقى بالبحث واشهر من بحث في فلسفة الموسيقى هو شوبنهاور فكان أكثر العلماء والفلاسفة توفيقاً في تحليل فلسفة الموسيقى والكشف عن أسرارها الغامضة والتعمق في أغوارها لإدراك كنهها ومصادرها ، كما توفق لربط الفنون الجميلة كلها والموسيقى خاصة بالإرادة : أي إرادة الحياة .
يجعل شوبنهاور فلسفة العالم مرتبطة بالإرادة كما يجعل العقل والمنطق مرتبطين بها ، لأن العقل والمنطق وسيلتان تستخدمهما الإرادة في تنفيذ غايتها .والتعبير الفني سواء عن طريق الموسيقى أو اللغة هو توضيح عن إرادتنا ، ولن يستطيع هذا التعبير إلا الفن . ولكن الفنان يستعين من أجل التعبير بأشياء خارجة عن ذاته إلا في الموسيقى ، لأن أداة التعبير الموسيقي مادتها النغمة ، وهي داخلة في صلب الموسيقى وليست خارجة عنها . إن فنان البناء يستعين بالقواعد الهندسية والحجارة والشاعر يلجأ إلى الكلمات والأوزان ، لكن للموسيقى كما يرى شوبنهاور تفرداً واستفلالاً هو : عدم الاستعانة بما هو خارج عنها . ولذا سمى شوبنهاور الموسيقى بفن الفنون لأن الفنون الأخرى برأيه تعبر عن ظلال الإرادة أما الموسيقى فيجىء تعبيرها عن الأصل فوراً .
والموسيقى عند شوبنهاور وأصحاب الاختصاص جميعاً تتألف من عنصرين أساسيين هما : عنصر الهارموني أو التوافق وعنصر الميلودي أو اللحن . فالهارموني إنماهو عزف عدة أصوات في وقت واحد ولكن الأذن لا تسمع من هذه الأصوات المتعددة إلا صوتاً واحداً مركباً . هده الأصوات المركبة في صوت واحد ، أو هذه الطبقات اللحنية تبدأ بصوت فرعي هو أغلظ صوت ، ثم ترق وتصبح رفيعة شيئاً فشيئاً إلى أن تنتهي إلى أعلى وأرق الأصوات . فالصوت الأول الغليظ هو صوت الباص والصوت الرفيع الأخير العالي هو الميلودي . وقد أمكن لعلم الموسيقى ان يحصر الأصوات الفرعية بين الباص والميلودي ويحددها باثني عشر صوتاً ، بين كل صوت وآخر مسافة محدودة معلومة .
والمهم فيما تقدم أن شوبنهاور قد طبق المعنى الموسيقي الهارموني على نظرية التطور فجعل بدء الخليقة هو بدء النغمة أي الباص لأن الباص هو أصل التآلف الموسيقي ومبدؤه . وأعلى الأصوات الميلودي يمكن أن نقارنه بنهاية مرحلة التطور في الحياة ، أي الإنسان .
إن هذا العالم الموسيقي الذي يبدأ بالباص وينتهي بالميلودي يشتمل في داخله على أصوات جزئية هي أشبه عند شوبنهاور بهذه المخلوقات الثانوية التي تقع ما بين الأرض والإنسان . فهنالك الكتلة الأرضية ثم المعدن ثم النبات ثم الإنسان : وكذلك في العالم الموسيقي فإن الطبيعة تبدأ بطبقة الباص الصوتية ثم " التينور" ثم "الألطو" ثم "السوبرانو "، وهذا هو السلم الطبيعي للمادة الموسيقية .
ويتبين أن رأي شوبنهاور فيه شيء من تكلف الفلاسفة ، إلا أنه مع هذا يعطينا فكرة صحيحة عن التدرج الصوتي للسلم الموسيقي الطبيعي ، وهو بالوقت نفسه يتضمن معنى التطور الذي يتناول كل شيء في الطبيعة .
|