مفهوم الأمن في القرآن الكريم (3) كن أول من يقيّم
الأمن ثمرة من ثمرات الإيمان السبب الأول لوجود الأمن في هذه الأمة -وهو شرط في نفس الوقت- هو الإيمان. والأمر في غاية الوضوح، هناك علاقة بين الإيمان والأمانة والأمن، وهذه الألفاظ الثلاثة تنتمي لنفس المادة. والأصل الذي يتفرع منه كل شيء هو الإيمان، والإيمان يعطي الأمانة ويعطي أداء الأمانة و"لا إيمان لمن لا أمانة له" (رواه الإمام أحمد)، والله أمر بأداء الأمانات وحرم خيانة الأمانات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(الأنفال:27)، وكل المسؤوليات أمانات، فما نسميه اليوم بالمسؤولية هو أمانة. وهناك الأمانة العظمى التي أشارت إليه الآية الكريمة بالنسبة لآدم وبنيه (أي للإنسان) في الآية المشهورة ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾(الأحزاب:72). هذه أمانة الاستخلاف العامة، فالأمانة العامة هكذا على إطلاقها هي أمانة الاستخلاف في الأرض، فبنو آدم غيرُهم مسخر لهم، وكل ما سواهم يخدمهم، وهم عليهم أن يخدموا الله عز وجل وأن يعبدوا الله جل جلاله. هذه الأمانة (أمانة الاستخلاف) تليها أمانة أخرى أعظم منها وهي أمانة "الشهادة على الناس" بالنسبة لهذه الأمة خاصة؛ لأن الأمم السابقة ما حمّلت تبليغ الدين فرضا، نعم، كان نفلا وكان مطلوباً من المسلمين قبل مجيء الرسول الخاتم،صلى الله عليه وآله وسلم، لأن جميع من مضى من المؤمنين كانوا مسلمين أنبياء وغير أنبياء، لكن لم يكونوا مكلفين فرضاً بالتبليغ إلا في هذه الأمة فقد انتهى إرسال الرسل وانتهت النبوات، وصارت الأمة كلها مكلفة بما كان مكلفاً به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولذلك جعلها الله في مستوى معين: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾(البقرة:143)، هذه الأمانة إلى جانب الأمانة الأخرى، كلها إنما تؤدى على حقيقتها بالإيمان، إذا وجد الإيمان أُدّيت، وإذا لم يوجد فلا تؤدى هذه الأمانات، وهذه الأمانة على عمومها تحتها أمانات: فالصلاة أمانة والزكاة أمانة، وتربية الأولاد أمانة... وكل تكليف من تكاليف الشرع أمانة من الأمانات، والله يأمر بأداء الأمانات بصفة عامة، وكلها مسؤوليات -بتعبير اليوم- يجب أن تؤدى، وإنما تؤدى على وجهها الصحيح بسبب الإيمان، فالهدف من الإيمان أن تؤدى الأمانات على أحسن وجه، وفي الحديث: "لا إيمان لمن لا أمانة له" (رواه الإمام أحمد). وعندما يوجد الإيمان وتؤدى الأمانة يأتي الأمر الثالث بصورة طبيعية وهو حال: يجد المؤمنون أنفسهم فيها، قلباً وقالباً: قلباً من حيث ما يشعرون به هم من طمأنينة وسكينة وراحة بال، ويشعرون بالراحة الكاملة نتيجة الإيمان وأداء الأمانة أو بالتعبير الآخر: الإيمان والعمل الصالح، ومن حيث القالبُ يجدون ما يسمى بـ"السَِّلم" -وهو نوع من الأمن-؛ فالأمن محله القلب أساساً، والصورة التي ينتجها ما في القلب في الخارج هي "السلام". فالأمن إذن نتيجة وليس فعلاً يمكن أن نفعله، وإنما هو نتيجة طيبة ونعمة من الله ،عز وجل، يتفضل بها علينا إذا آمنا وهو الشرط الأول، وإذا عمِلنا الصالحات وهو الشرط الثاني، وذلك ما نص عليه الوعد السابق ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ (النور:55). فيأتي الأمن نتيجة ما سبق، ويأتي نتيجة أسباب معينة، ويأتي نتيجة حصول شروط معينة على رأسها الإيمان الصحيح والعمل الصالح، فإذا وجد هذا بالنسبة إلى الفرد، وبالنسبة إلى الجماعة جاءت هذه النتيجة وإلا اختفت. ولا بأس من الإشارة في هذا المقام إلى سبب آخر من أسباب الاستمرار تشير إليه الآية الأخرى في سورة النحل، قال عز وجل: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾(النحل:112)، حين اختفى الإيمان واختفى العمل الصالح واختفى الشكر وحل محله شيء آخر سماه القرآن ﴿كَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ﴾، وهذا الأمر سنفصل فيه الحديث بعد قليل عندما نتحدث عن موانع حصول الأمن، لكن هاهنا الإشارة إلى أن كفران النعمة يسلب نعمة الأمن، فالله عز وجل يعطي الأمن لكن عندما لا يقع الشكر على هذه النعمة فإنها تنقطع. فالأمن يأتي بشروط محددة تفضلاً من الله على كل حال، ويأتي بالإيمان وبالعمل الصالح، لكن هل يستمر أو لا يستمر؟ والجواب عن ذلك هو أن الأمن يستمر بشكر النعمة وينقطع بكفران النعمة، وهنا نأتي إلى النظرة الأخرى التي هي في موانع الأمن فما الذي يمنع الأمن أن يكون بالقلوب وفي الحالة العامة للأمة. |