إنسانية أنطوان تشيخوف قرأت مؤخرا ترجمة لرائد القصة القصيرة، أنطوان تشيخوف، ما شدني في مسيرة حياته، أشياء عديدة أذكر منها : الأول : جمعه بين مهنة الطب زوجته الشرعية، والكتابة الأدبية عشيقته، كما يقول. الثاني : تناقضه الواضح بين حياته المرحة، وبين قصصه الساخرة في ظاهرها، والتي تحمل مسحة كبيرة من الحزن. الثالث : علاقته الحميمية مع عائلته، مع كل أفرادها، أبوه باف ، وأمه، وإخوته : ألكسندر، إيفان، نيقولاي ...وأخته ماريا، مع أصدقائه.. الرابع : نكرانه للفضاضة التي يتعامل بها الناس، فكان يواجهها بسخرية لا مثيل لها. الخامس : كان يحب أن ينصح الآخرين، وبخاصة إخوته، بأسلوب القدوة، فكان أن جاهد نفسه بأن يكون مثاليا، حتى يقتنع بآرائه الآخرون، عكس أسلوب والده الوعظي المعتمد على العنف اللفظي والجسدي، وبمناسبة ذكر والده باف، فإن له ذكريات سيئة يذكرها أنطوان عن والده، ..الضرب المبرح الذي يتلقاه منه كلما تأخر عن أداة الصلاة في الكنيسة، وعمله المرهق في حانوت أبيه لساعات طوال، تاركا الدراسة والواجبات المدرسية، ...إنها حياة متعبة، ولكنه لم يواجه أباه، بالعكس من ذلك، وعندما كان أبوه يعمل طيلة الأسبوع، ولا يرى عائلته إلا يوما واحدا، كان أنطوان يعتني بها، فيوفر لها المال اللازم، من خلال ما كان يتقاضاه مسبقا عما يكتبه لبعض المجلات والجرائد. أما عن خط سيره في حياته، فيمكن أن يلخص في مرحلتين رئيستين : المرحلة الأولى : مرحلة الفقر والحرمان والقن (أو الرق الذي أقطر آخر قطرات دمه يوم أصبح طبيبا على حد تعبيرأنطوان تشيخوف)، لم يكتب خلالها إلا من أجل تأمين قوت عائلته، التي لم تجد لا أين تسكن ولا ماذا تأكل. كان يشتكي دوما من تحديد عدد السطور(بمائة سطر) التي لا يجب أن يتجاوزها في قصصه الساخرة، مقابل مبلغ زهيد، فكان يسخر من أصحاب المجلات والجرائد، كيف كانوا يقومون بدور الرقيب، فيحذفون أهم المقاطع، ولذا فإن النقاد يعتبرون أن ما وصلنا من أدب أنطوان تشيخوف قليل بالمقارنة مع ما كان يمزقه، بسبب الإحباط،(في إحدى مسرحياته) أو الرفض ، أو مقص الرقيب. المرحلة الثانية : مرحلة الانفراج والتحسن على المستويين الاجتماعي والثقافي، فكان أن صار طبيبا معروف، وكاتبا مشهورا، تحت اسم مستعار (أ . تشيخونتي)، لا يحب أن يعرف الناس من هو، رجل يحب الظـل، ويحب أن تكون قصصه واقعية تصور الواقع كما هو بكل بساطة وعمق، حيث أنك عندما تقرأ قصصه للوهلة الأولى يخيّل إليك أنك تقرأ قصة بسيطة، لا حبكة فيها ولا إثارة..ولكنها تترك فيك بعض التساؤلات، التي لن تجد لها إجابة إلا إذا أعدت قراءتها عدة مرات، فتكتشف عمق النص بأفكاره، التي تلامس شغاف العقول (إن صح التعبير)، تتكلم عن الواقع، ولكنها لا تعيد رسمه كما هو، بل تحاول أن تنهض همم الرجال والنساء الكسالى على حد تعبير أنطوان تشيخوف، ولا أدل على ذلك عندما تقرأ قصته الموسومة بـ المستكينة. إن أنطوان تشيخوف شخصية إنسانية فذّة يندر أمثالها في الأدب العالمي، إنه رجل رسالة (بغض النظر عن محتواها)، والفن رسالة والأدب كذلك، كانت قصصه جادة في ثوب السخرية بمسحة حزينة، تخفي وراءها مرارة الواقع الذي عاشه أنطوان تشيخوف، فلو لم يمت في 1904م، بسبب مرض السل (الذي عانى منه طويلا)، لقتلته الحرب العالمية الأولى بعد عشر سنوات، هكذا قال أحد أصدقائه (ماكسيم جوكي على ما أظن). في الأخير، لا أريد أعطي صورة، توحي بأنني أتحدث عن نبي موعود أو مهدي منتظـر، وإنما هذه بعض الانطباعات التي تركتها فيّ ترجمة هذا الرجل، حيث ركّزت على الجوانب الإيجابية في حياته، في رأيي، ولكم أن تقدّموا ملاحظاتكم حول هذه الشخصية. |