عودة إلى التفسير والتأويل كن أول من يقيّم
تحية طيبة ،
الفرق بين التفسير والتأويل البحث فيه ليس سهلا لدي على الأقل ، لكثرة ما اعتراه من الخلاف ، لذا ، فقد آثرت أن أرجع إلى كتاب الله الكريم ؛ محاولا فهم معنى التأويل الذي ورد فيه .
ولم أقتنع كثيرا بالوجه المعتمد عليه للقائلين بأن التفسير هو التأويل عينه ، فهم قد اعتمدوا نظرية لا برهان قاطعا عليها ، وهي ان الترادف في معاني الألفاظ وارد عندهم مع أن غيرهم قال بخلاف ذلك . والناظر في كتاب الله لن يجد كلمة واحدة تسد مسد أخرى في المعنى تماما .
والتفسير معناه التبيين والتوضيح ، وليس أبين ولا أوضح ولا أكثر إقناعا مما نزل على الرسول الكريم من قرءان . قال تعالى : " ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " . وليس في الناس الأبيناء من يعدل النبي الأكرم ، ناهيك ان يفوقه ، في البيان والتبيين ، ولا في البيان والتبين . والذي يعجز عن التبين يظل بحاجة إلى من يبين له ما عجز عن تبينه ، وهنا يأتي دور المفسرين ليوضحوا لمن يعجز عن التبين ما عجز عنه . فالذي يشكل عليه فهم أمر ما ، ليس بالضرورة ان يكون أمرا لغويا ، يلجأ في العادة إلى من يفسره ويوضحه له . ومن أدوات المفسر النظر والاستنباط تعينه عليهما سعة العلم ونباهة الفكر وذكائه . ومن أحسن التفسير ما وهبه الله تعالى سيدنا إبراهيم عليه السلام من قوة الحجة في تفسير وتوضيح قدرة الله كيف تكون لمن يعجز عن فهمها ، او يدعي ، باطلا ، عدم صوابها ، أو الادعاء بالقدرة على مضاهاتها . قال تعالى على لسان سيدنا إبراهيم : " فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ؛ فبهت الذي كفر.." . ومن التفسير أيضا أن نلجأ للمختص بعلم ما ليفسر لنا ظواهر معينة أغلق علينا فهمها . ففي العلوم الطبيعية مثلا ، يمكننا أن نطلب تفسيرا يوضح لنا كيفية حدوث البرق والرعد ، او الزلازل والبراكين ، او كيف تحدث الانفجارات الذرية... وفي علوم القريض نستفسر عن كيفية معرفة الأوزان الشعرية ..وفي تفسير القرءان نرغب في معرفة معنى " قسورة " مثلا ، وذلك بكلمة أخرى او جملة ، على الأغلب ، تبين لنا ما القسورة.. وهكذا
أما التأويل ، فهو محاولة معرفة أمر مجهول مغيب غيبا مطلقا وغير مقيد بزمن ، وغير مقيد أيضا باستخدام أدوات بلغت من الدقة مهما بلغت . ومن الأمثلة عليه ما قاله العلماء عن الدابة التي تكلم الناس آخر الزمان ، وفتح ياجوج وماجوج ، وكيف هي حقيقة الجنة ...وهكذا
إن سيدنا موسى عليه السلام كان مؤمنا بالغ الإيمان دون ريب ، ولكن اعتراضه على العبد الصالح (في سورة الكهف ) كان نابعا من عدم معرفته بتأويل ، وليس بتفسير ، ما فعله ذلك العبد ، والذي هو نفسه ، أي العبد ، لولا تعليم الله إياه ، لما فعل ما فعل عن أمره هو . قال الله تعالى على لسان العبد الصالح : " وما فعلته عن أمري " ، وقال : " سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " . فالتأويل ، إذن ، محاولة علم المجهول المغيب غيبا مطلقا ، ولا يتم ذلك بأية وسيلة إلا بما يتيحه الله تعالى من علم لبعض الخلق المصطفين . وكون سيدنا موسى من المؤمنين الراسخين في الإيمان ، فإنه يسلم لله تعالى ولا يعصي أوامره دون أن يعرف الحكمة التي من وراء تلك الأوامر الإلهية ، فالراسخ في العلم بربه وقدرته وحكمته تكون هذه الحال حاله. هذا هو الأصل في معنى التأويل ، أما الاستنباط والتدبر والنظر ، والقيام بوضع الفرضيات والنظريات واستخدام العقول والتجارب والبحوث كل ذلك لا علاقة له بالتأويل ولا من بعيد . فأي نظرية أو نتيجة بحث تقطع بتأويل ما فعله العبد الصالح المذكور في سورة الكهف؟! ولو حاول سيدنا موسى مهما حاول ، فلن يعرف على سبيل القطع الحكمة من وراء خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإقامة الجدار ، لولا أن جاءه التأويل من الله تعالى بوساطة العبد الصالح . وكذلك أي علم ، او أية أداة ، يمكنها ان تخبرنا بتأويل الأحاديث ؟! ذلك التأويل الذي كان علما منحه ووهبه الله تعالى يوسف عليه السلام . فالذي قال إنه رأى نفسه وهو يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه ، ثم طلب من سيدنا يوسف أن يؤول له ما رآه ، فكان التأويل أن ذلك الرائي سوف يصلب وتأكل الطير من رأسه . وهذا علم علمه الله تعالى سيدنا يوسف ، ولولاه لما كان التأويل صحيحا . فلو كنت أنا المؤوِّل مثلا او أنت ، لقلنا للرجل : سوف يأتيك الخير والرزق الكثير ، وسوف تكون كريما في الإنفاق ، هكذا ، أو ما يشبه ما قلناه ، دون علم ولا بصيرة ، فأين الثرى من الثريا! بل أين الباطل من الحق!
قال تعالى : " ولنعلمه من تأويل الأحاديث " ، وقال ايضا : " وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث " ، وقال : " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث .." ، وقال : " نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين" . ومن الملاحظ ان الآيات السابقة جميعها جاءت بلفظ التأويل وليس بلفظ التفسير . وعلى هذا ، فإن المفسرين الذين سموا كتب تفسيرهم بلفظ التأويل ، قد خلطوا ما بين التأويل والتفسير ، وظنوا الترادف فيهما في المعنى . وسوف أتعرض لهذا في نهاية المقال بإذن الله .
إن ما هو مغيب عنا غيبا مطلقا ، فإننا ، إن كنا عقلاء وذوي نوايا حسنة ، لا يمكننا نفيه دون برهان مبين نقدمه بين أيدينا ، وإلا كنا مثل الذين قال عنهم الله تعالى : " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله.." ، ولو فرضنا جدلا أننا لم نؤمن بوجود شيء ما ، فلا يحق لنا نفي وجوده عقلا .
وقال تعالى : " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ..." . في هذه الآية قولان أو ثلاثة كما هو معلوم ، في تعيين محل الوقف ، وهل هو لازم ، فإذا كان الوقف على لفظ الجلالة لازما كان التأويل من علم الله وحده ، وهو ما أنا عليه شخصيا ومقتنع به مثل الكثرة الكاثرة من المسلمين ، وإن كانت " الراسخون " معطوفة على لفظ الجلالة ؛ فيكون الراسخون في العلم لديهم القدرة على التأويل ، ولكن من علم علمهم الله إياه ، مثل العبد الصالح الذي في سورة الكهف ، لا من عند أنفسهم . وهنا يرد تساؤل : كيف لنا ان نعرف الراسخ في العلم من غير الراسخ فيه؟! هناك وسيلة واحدة ووحيدة ، وهي ان يخبرنا الله به . ومن المحتمل ان يكون الرسوخ في العلم يعني الدرجة العظمى من صدق الإيمان والثبات عليه ، والله اعلم .
وقال تعالى : " وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ، ذلك خير وأحسن تأويلا ." ، فلماذا "تأويلأ" وليس " تفسيرا "؟
الخشية من إنقاص الوزن تحدو بالمؤمن أن يحتاط فلا يقع في إنقاص الوزن ، والسبيل إلى ذلك يكون بترجيح كفة الموزون على معيار الوزن عيانا . وما دام الذي يكتال او يكيل لا يعلم على وجه الدقة أن كفتي الميزان قد اتزنتا تماما ، فما عليه إلا الترجيح كما قلنا ، ولوترجيحا قليلا ، حتى يضمن انه أوفى الكيل ، وحتى لا يقع في الحيرة الناتجة عن الجهل ، فيطلب تأويلا لما يجهله مما ليس بمقدوره معرفته . (فمعرفة أن كفتي الميزان متقابلتين ، أو ان الوزنين متساويين تماما غير ممكن أبدا ) . ويشبه ذلك عمل من يكثر من أداء السنن النبوية في الصلاة ، خشية من أن القيام بالفرض وحده ربما يعتريه نقص او خلل ما ؛ فيعوض ذلك النقص المحتمل بثواب أداء السنن . ومقدار النقص في الميزان أو في صحة الصلاة مثلا ، مهم ، مهما كان ضئيلا ، فالتقي يحسب له حسابا ، وفي باله دائما : " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " ، ولهذا فالخير وحسن التأويل هما المطلوبان ، فإذا أردت أن تؤوّل ، وليس في مقدورك ذلك ، فما عليك إلا ان تقطع حبل الشك بسيف اليقين ، فترجح الميزان حتى تراه راجحا عيانا . وهنا تضمن انك لم تقع في إثم التطفيف في الموازين من أي نوع كانت ، ومهما كان نوع البضاعة الموزونة .
لماذا سمى بعض المفسرين كتابه بلفظ التأويل بدلا من لفظ التفسير :
أظن ان ذلك يعود ، في الغالب ، لأمرين :
الأول : الظن بأن التأويل والتفسير بمعنى واحد ، وهذا غير صحيح ، إذا اعتمدنا على ان لا ترادف مئة بالمئة بين ألفاظ اللغة ومعانيها ، وبخاصة ما يتعلق بلسان القرءان الكريم ، وأن الترادف التقريبي يفيدنا فقط في التفسير والتبيين والتوضيح . فقولنا " جاء " غير قولنا " أتى " ، فلكل واحدة موقعها المناسب ، ولكننا في سبيل التفسير والتوضيح يمكن ان نستخدم واحدة محل الأخرى .
الثاني : حملهم التأويل على معناه الاصطلاحي والذي يعني : صرف اللفظ عن ظاهر معناه . ويساعدهم على ذلك ما روي من أقوال تعني بأن القرءان الكريم حمال أوجه . إن استنباط وجوه عدة لفهم آية معينة لا ينطبق عليه معنى التأويل الذي جاء به القرءان الكريم ؛ لأن الصواب او الحق ربما يتعدد ويصلح كل معنى لحال ، وأين هذا من التأويل الذي هو معرفة المجهول المطلق! وأن معرفة التأويل هي معرفة الحقيقة المطلقة !
|