القصيدة الجاهلية بنت البيئة العربية التي احتضنتها، فأينما نمتْ قصيدة جاهلية تسببت بيئتها بتشكيلها تشكيلا فنيا، فالأطلال والرحلة وحيوان الصحراء وعراك الثور الوحشي مع كلاب الصيد، والناقة الراحلة الضامرة السريعة، والنعام والظباء وسائر الحيوان وقصصه، مشتفة من البيئة معبرة عنها، نامية بنموها، وقد نوّه بذلك النويهي، وخلّفهُ خُليف، واستضافه ضيف، ونبّه إليه البهبيتي، وكرّ عليه الكفراوي.. وما من أحدٍ من دارسي الأدب الجاهلي إلا ضرب بين البيئة وبناء القصيدة بسهم حلال أو.. وما معلقة زهير إلا صورة بارزة أمامنا في ميدان تحرير الكلام عن القصيد والبيئة .. أطلال أم أوفى .. رحلة الظعائن الأنيقة.. ومجاوزتها لجبل القنان وما به من محل (للنهب والسلب) و(محرم لا يرى في إزهاق الأرواح حاجة..) وكذا الحرب والسلام بطريقة هرم بن سنان والحارث بن عوف.. ومدح الخير ولم الشتات بعد التمزق بسبب الحياة القاسية والجفاف والاقتتال على مساقط الماء ومنابت الكلأ .. وقصيدة عنترة العبسي هي الأخرى وليدة البيئة التي عاشها، والحرمان الذي سعى إلى تغييره وإبراز معالم النجابة، متجاوزا اللونَ والجهلَ بقول الشعر، ومُدبِّرًا للفروسية تدبير المتمكن.. وقصيدة (ودع هريرة) للأعشى بنت البيئة الجاهلية والفطرة السليمة، والجمال البعيد عن التصنع والأصباغ الحضرية..(لستْ كمَنْ يكرهُ الجيرانُ طلعتَها ولا تراها لسِرِّ الجار تختتلُ)، و(سما لك شوق) لامرئ القيس رائعة البيئة التي عرفَ.. في ديار قومه، وفي الطريق إلى استعادة حقه الضائع، الذي تآمرت عليه المناذرة مع كثير من أعداء أبيه، بعد ما ضعفَ سنده.. هذه ملاحظات خاطفة وأنت أخي الناقد العزيز الدكتور حسن تعلمُ كلّ هذا، لكنكَ فتحتَ بابَ النقاش، على صفحات (الوراق) الخصبة بكل جميل وعذب، لتـُنـَمِّيَ ما وضعتَ بذورَهُ مِن شجرِ الجمالِ الفني للشعر الجاهلي.