البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الجغرافية و الرحلات

 موضوع النقاش : يوم أحرقت دمشق    قيّم
التقييم :
( من قبل 2 أعضاء )
 زهير 
30 - أكتوبر - 2008
هذه قصة إحراق دمشق على يد الملك الظاهر برقوق في ذي القعدة من سنة 791هـ وهي رواية شاهد عيان قدر الله له أن يزور دمشق إبان تلك الجريمة النكراء، ووصف كل ما جرى لدمشق، وهو ابن حجة الحموي (ت 837هـ) وكان في الرابعة والعشرين من العمر أثناء قيامه بهذه الرحلة، ونص الرحلة مدرج ضمن كتابه (ثمرات الأوراق) عقب رحلته إلى بلاد الروم التي سجل فيها فتوحات الملك المؤيد شيخ لبلاد الروم، والتي سأفرد لها موضوعا مستقلا:
يستوقفنا بداية أن ابن حجة الحموي يلقب برقوق بالملك الناصر، وهو لقب ابنه فرج، ولم أجد من لقب برقوق بالملك الناصر غير ابن حجة في هذا النص، ولا شك أبدا في أن الحديث هنا عن الملك الظاهر برقوق، وقد توسع المقريزي في ذكر تفاصيل هذه الجريمة في كتابه (السلوك) المنشور على الوراق، وسأنشر كلامه في تعليق مفرد في آخر الرحلة، ويستوقفنا في الرحلة أن ابن حجة يتحدث بإسهاب عن (فوار أبي نواس) وهو نافورة كانت ربما في مكان النافورة اليوم عند الباب الشرقي للجامع الأموي، والمعروف أن النهر الذي كان يصل إلى الجامع هو نهر بانياس - باناس- فقط .
 كما يستوقفنا حديثه عن نهر في دمشق سماه (نهر حمص) ولم أعثر على ذكر لهذا النهر في أي من كتب التراث ؟ والمعروف أن انهار دمشق بلغت مشتقاتها (68) نهرا، وربما أكثر.
وأما كتاب (ثمرات الأوراق) نشرة الوراق، فيعج بالأغلاط المطبعية والتصحيفات، وسقوط الكلمات، بل والسطور، وقد تبين لي أنها نشرة تختلف عن نشرة المرحوم محمد أبو الفضل إبراهيم، لذلك اعتمدت في هذا النقل نشرة محمد أبو الفضل إبراهيم، إلا ما تيقنت فيها خطأه، ونبهت على  ذلك في الهامش، وسوف أقوم لاحقا (إن شاء الله) بإلحاق هوامش لبعض الكلمات والأعلام التي تفتقر للتوضيح.
 1  2  3 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
نص الرحلة - 4    كن أول من يقيّم
 
وتطاولتُ إلى السّور المُشرف وقد فضل في علم الحرب وحفظ أبوابه المقفلات، فما وقفنا على باب إلا وجدناه لم يترك خلفه لصاحب المفتاح تلخيصاً لما أبداه من المشكلات، وما أحقّه بقول القائل:
فـضائله سورٌ على المجد iiحائطٌ وبالعلم هذا السّور أضحى مُشرِفا
 
ثم حملوا عليه وظنّوا في طريق حملتهم نصرا، ونصبوا دَسْت الحرب ولم يعلموا بأنه قد طبخ لهم على كل باب قِدرا، فلا وأبيك لو نظرته يوم الحرب وقد تصاعدت فيه أنفاس الرجال لقلتَ:  {ونُفخ في الصُّور ذلك يوم الوعيد}، وإلى المحاصرين وقد جاؤوا راجلاً وفارساً ليشهدوا القتال لقلتَ: {وجاءت كلّ نفس معها سائقٌ وشهيد}، وإلى كواكب الأسنّة وقد انتثرت، وإلى قبور الشهداء وهي من تحت أرجل الخيل قد بُعثرت، وإلى كرّ الفوارس وفرّها لقلتَ: {علمتْ نفسٌ ما قدّمتْ وأخّرت}، وإلى نار النفط وقد نفطت من غيضها، وإلى ذكور السّيوف وقد وضعت المنايا السود وتعذّرت من شدّة الدماء لكثرة حيضها:
ومن العجائب أن بيضَ سُيوفهم تـلدُ  المنايا السّودَ وهي iiذُكورُ
 
وإلى فارس الغبار وقد ركب صهوات الجوّ ولحق بعنان السماء، وإلى أهداب السهام وقد بكت لمّا تخضّبت بالدماء. وإلى كل هارب سُلب عقله، وكيف لا وخصمه له تابع، وإلى كل مدفع وما له عند حكم القضاء دافع، وإلى قامات أقلام الخط وقد صار لها في طروس الأجسام مَشْق، فاستصوبتَ عند ذلك رأي من قال:
عَرِّجْ رِكابَكَ عن دمشقَ
 
ونظرتُ بعد ذلك إلى العشير وقد استحلّ في ذي الحجّة المحرّم، وحمل كل قيسي يمانياً وتقدّم، فخرج النساء وقد أنكرن منهم هذا الأمر العسير، فقلتُ:
وغـيـرُ بِدعٍ iiللنّسا ءِ إذا تنكّرتِ العشيرُ
وتصفّحتُ بعد ذلك فاتحة (باب النَّصر)([1])، فعوّذته بالإخلاص وزدتُ لله شكراً وحمداً، وتأمّلتُ أهل البلد وهم يتلون لأهل البلد في سورة الفتح وللمحاصَرين:  {وجعلنا من بين أيديهم سدّا}، كم طلبوا فتحه فلم يجدوا لهم طاقة، {وضُرب بينهُم بسُورٍ له بابٌ، باطنُه فيه الرَّحمة وظاهرُه من قبله العذابُ}.
ونظرتُ إلى ما (تحت القلعة)([2]) من أسواق التجّار، فوجدتُ كلاً قد محت النار آثاره، وأهله يتلون:  {قُلْ ما عند الله خيرٌ من اللّهو ومن التّجارة}.
فمنهم من شأنه على صاحبته وبنيه، وآخر قد استغنى بشأن نفسه، فهم كما قال الله:  {لكلّ امرىء منهم يومئذ شأنٌ يُغنيه}، فوقفتُ أنشد في تلك الأسواق وقد سُعِّرت:  ألا موتٌ يباعُ فأشتريهِ.
ونظرتُ إلى المؤمنين الرُّكّع السُّجود، وهم يتلون على من ترك في بيوتهم أخدوداً من وقود النار وقعد لحربهم في ذلك اليوم المشهود: {قُتل أصحابُ الأخدود * النّارِ ذات الوَقود * إذ هُم عليها قُعود * وهُم على ما يفعلون بالمؤمنين شُهود}.
هذا وكم مؤمن قد خرج من دياره حَذَرَ الموت، وهو يقول النجاة وطلب الفرار، وكلّما دعاه قومه لمساعدتهم على الحريق ناداهم وقد عدم الاصطبار:  {ويا قومُ مالي أدعوكُم إلى النّجاة وتدْعُونني إلى النّار}.
ونظرتُ إلى ضواحي البلد وقد استدّت في وجوههم المذاهب، وما لهم من الضيق مخرج، وضاقت عليهم الأرض بما رحُبت لما غُلق في وجوههم (باب الفَرَج)، فقلتُ: اللهم اجعل لهم من كلّ همّ فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، ولعدم أموالهم من كل عُسر يُسراً، ولانهتاك مخدراتهم من كل فاحشة ستراً، ولقطع الماء عنهم إلى كل خير سبيل، فأنت حسبُنا ونعم الوكيل.


([1]) باب النصر كان من أبواب دمشق القديمة جنوبي القلعة، عند مدخل سوق الحميدية.
([2]) تحت القلعة محلّة مشهورة في العهد المملوكي، يفصّل بوصفها أبو البقاء البَدري أدناه.
*أحمد
8 - نوفمبر - 2008
نص الرحلة - 5    كن أول من يقيّم
 
هذا وكم نظرتُ إلى سماء رَبْع غربت شمسه بعد الإشراق، فأنشدتُ وقد ازددتُ كرباً من شدّة الاحتراق:
فديناكَ من رَبْعٍ وإن زِدتنا كرباً = فإنك كنت الشّرق للشّمس والغَربا
 
وانتهيتُ إلى (الطواقيين)([1])، وقد أسبل عليهم الحريق شدّته فكشفوا الرؤوس لعالم السَّرائر، وكم ذات ستر خرجت بفرق مكشوف ورمت العصائب وبعلها بعينيه دائر.
هذا وكم ناهدات:
أسبلنَ من فوق النُّهود ذَوائبا = فتَرَكن َحبّاتِ القلوبِ ذوائبا
 
ووصلتُ إلى ظاهر (الفراديس)([2])، وقد قام كلٌّ إلى فردوس بيته، فاطلع فرآه في سواء الجحيم، واندهشتُ لتلك الأنفس التي ماتت من شدّة الخوف، وهي تستغيث بالذي {أنشأها أوّل مرّة وهو بكلّ خَلقٍ عليم}.
ونظرتُ إلى ظاهر (باب السّلامة)([3])، وقد أخفت النار أعلامه، ولقد كان أهله من صحّة أجسامهم ومن اسمه كما يقال بالصحة والسلامة.
وإلى (الشلاّحة)، وقد لبست ثياب الحزن وذابت من أجلها الكُبُود، وقعدوا بعد تلك الرّبوع على أديم الأرض ونضجت منهم الجلود، ولقد والله عدمتُ لذّة الحواس الخمس، وضاقت عليّ الجهات الستّ فلم ترقأ لي دمعة، وأكلت الأنامل من الأسف لمّا سمعت بحريق أطراف (السّبعة)، فأعيذُ ما بقي من (السّبعة) بالسّبع المثاني والقرآن العظيم ؛ فكم رأينا بها يعقوب حزن رأى سواد بيته فاصفرّ لونه {وابيضّتْ عيناهُ من الحُزن فهو كَظيم}.
وتغرّبتُ إلى ظاهر (الباب الشرقي)([4]) فتشرّقت بالدّمع من شدّة الالتهاب، فلقد كان أهله من دار عنبه وكرومه الكريمة في جنّتين من نخيل وأعناب. وتوصّلتُ إلى ظاهر (باب كيسان)(1)، فأنفقت كيس الصبر لما افتقرتْ من دنانير تلك الأزهار والدراهم رباها، وسمحت بعد ذلك بالعين واستخدمت فقلت: {بسم الله مجراها}.


([1]) من أسواق دمشق القديمة، ذكره يوسف ابن عبد الهادي في رسالته »نزهة الرّفاق«.
([2]) باب الفراديس من أبواب دمشق الشمالية، بين بابي الفَرَج والسّلامة. يُعرف في أيامنا بباب العمارة، أما محلّة ظاهر باب الفراديس المذكورة فهي اليوم العمارة البرّانيّة.
([3]) من أبواب دمشق الشمالية المعروفة إلى الغرب من باب توما، يُعرف اليوم بباب السّلام.
([4]) الباب الشّرقي وباب كَيْسان والباب الصغير من أبواب دمشق المعروفة.
*أحمد
9 - نوفمبر - 2008
نص الرحلة - 6    كن أول من يقيّم
 
وكابرتُ إلى أطراف (الباب الصغير)، فوجدت فاضل النار لم يغادر منها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فيا لهفي على (عروس) دمشق التي لم تُذكر مع محاسنها أسماء ولا الجيداء، لقد كانت (ستّ الشّام)([1]) فاستعبدها ملك النار حتى صارت جارية سوداء. ولقد وقفت بين ربوعها وقد التهبت أحشاؤها بالاضطرام، وفطم جنين نبتها عن رضاع ثدي الغمام، فاستسقيت لها بقول ابن أسعد حين قال:
سـقى دمشق وأياماً مضت iiفيها مواطر  السحب ساريها iiوغاديها
ولا يـزال جنين النَّبت iiترضعه حواملُ المُزن في أحشا أراضيها
فـمـا  نضا حبّها قلبي iiلنَيْرَبها ولا قـضـى نحبه ودّي iiلواديها
ولا تـسلّيتُ عن سلسال iiربوتها ولا  نـسيتُ مبيتي جار iiجاريها
 
هذا وكم خائف قبل اليوم آويناه بها {إلى ربوة ذات قرار}، وكم كان بها مطرب طير خرج بعدما كان يطرب على عُود وطار. وبطل (الجَنْك)([2]) لمّا انقطعت أوتار أنهاره فلم يبق له مغنى، وكسر (الدّفّ) لما خرج نهر (المغنية) عن المعنى، واستسمج الناس من قال:
انـهضْ  إلى الرَّبوة iiمُستمتعاً تـجـدْ مـن اللذّات ما iiيكفي
فـالـطير قد غنّى على عُوده في الرَّوض بين الجنْك والدّفِ
وأصبحت أوقات (الرّبوة) بعد ذلك العيش الخضل واليسر عسيرة، ولقد كان أهلها في ظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة، فعبس بعد ذلك ثغر روضها الباسم، وضاع من غير تورية عطره النّاسم، ولم ينتظم لزهره المنثور على ذلك الوشي المرقوم رسالة من النسيم سحرية، وكيف لا وقد محا سجع المطوّق من طروس تلك الأوراق النباتية.
هذا وكم عروس روض سوّر معصمها النقشَ فلمّا انقطع نهرها صحّ أنها كسرت السّوار، وكم دولاب نهر بطل غناؤه على تشبيب النسيم بالقصب وعطلت نوبته من تلك الأدوار، فوقفتُ أندب ذلك العيش الذي كان بذلك التشبيب موصولاً، وأنشد ولم أجد بعد تلك النوبة المطربة إلى مغنى (الرَّبوة) دخولا:
لِمَ لا أُشبِّب بالعيش الذي انقرضتْ أوقـاتُـه وهـو باللّذاتِ iiموصولُ
 

([1]) ستّ الشام: تَورية باسم بستان كان عائداً لستّ الشّام خاتون، أخت صلاح الدّين.
([2]) الجنك والدّف توريتان باسميّ موقعين بالرّبوة، راجع تفصيلاتهما في نصّ البدري أدناه.
 
*أحمد
9 - نوفمبر - 2008
نص الرحلة - 7    كن أول من يقيّم
 
ونقص (يزيد)([1]) فاحترق، ولا يُنكر ليزيد الحريق على صنعه، وانقطع ظهر (ثورا)([2]) فأهلك الحرث والنسل بقطعه، وذاب (بَرَدى) وحمي مزاجه لمّا شعر بالحريق، ولم يبق في ثغره الأشنب بدُرر حصبائه ما يبلّ الريق. وانقطع وقد اعتل من غيضه (بانياس)، ولم يظهر عند قطعه خلاف ولا بان آس. وجرى الدّم من شدّة الطعن بـ (القَنَوات)، وكُسرت قناة (المرجة)([3]) فذاقت مرّ العيش بعد حلاوة تلك القطوف الدانيات. وكُسر (الخلخال)([4]) لمّا قام الحرب على ساقه، وسقط رأس كل غُصن على (الجبهة)([5]) فهاجت البلابل على أوراقه.
وخرّ نهر (حمص)([6]) خاضعاً وتكدّر بعدما كان يُصفي لنا قلبه، وافتقر أغنياء غصونه من حبّات تلك الثمار فصاروا لا يملكون حَبّة. طالما كان أهله فاكهين، ولكنهم اعترفوا بذنوبهم فقالوا:  {وكنّا نخوضُ مع الخائضين}.


([1]) أحد فروع بَرَدى السّبعة التي تتفرّع في منطقة المَقْسَم، وهو أعلاها ارتفاعاً ويسقي ضاحية الصّالحيّة. سمّي نسبة إلى يزيد بن معاوية، ومن هنا التّورية حول نقصه وجواز حرقه.
([2]) ثورا وبانياس والقنوات أيضاً من فروع بردى المعروفة.
([3]) المرجة أرض خضراء كانت تمتدّ من ساحة المرجة الحاليّة إلى القصر الأبلق (التكيّة اليوم).
([4]) الخلخال من محالّ دمشق المعروفة في العهد المملوكي، فصّلتُ بذكرها في نصّ البدري.
([5]) الجبهة من متنزّهات دمشق في العهد المملوكي، في الطرف الشرقي لساحة الأمويين مع المسبح البلدي ومطعم النّبلاء في أيامنا كما نعتقد، راجع نصّ البدري أدناه.
([6]) نهر حمص هذا المذكور يريد به المؤلف فرعاً من بردى يتفرع منه في منطقة (الوادي التحتاني) شرقي الربوة، في المنطقة المعروفة في أيامنا بكيوان. وكانت المنطقة الواقعة بين مرجة جسر ابن شوّاش (شرقي طاحون الرهبان بكيوان) ومحلّة النيربين تعرف باسم أراضي (حمص) كما يُستخلص من وصف البدري في أواخر القرن التاسع الهجري. راجع نصّه أدناه. وموقع هذه المنطقة اليوم ينطبق على الجزء الأسفل الجنوبي من حديقة تشرين، إلى الشرق مباشرة من جسر تشرين. 
*أحمد
9 - نوفمبر - 2008
نص الرحلة - 8    كن أول من يقيّم
 
وذبلت عوارض تلك (الجزيرة)([1]) التي كانت على وجنات شطوطه مستديرة، فقلنا بعد (عروس) دمشق و(حماتها) لا حاجة لنا بـ (حمص) و(الجزيرة). فيا لهفي على منازل (الشَّرَف)([2]) وذلك (الوادي)([3]) الذي نَعَق به غُراب البين، ويا شوقي إلى رأس تلك (المرجة) التي كانت تجلسنا قبل اليوم على (الرأس) و (العين)([4]).
هذا وقد اسودّت (الشَّقراء)، فأمست كابية لما حصل على ظهرها من الجَوَلان، وجانبها العكس فأضحت باكية على فراق (الأبلق) و(أخضر) ذلك (الميدان).
يا مولانا، لقد بكى المملوك من الأسف بدمعة حمراء على ما جرى من أهل (الشّهباء) في (الميدان) على (الشّقراء)([5]) حتى كذّب الناس من قال:
قُـل للذي قايسَ بين iiحَلَبَ وجـلّـقَ بمقتضى iiعيانها
ما تلحقُ الشّهباءُ في حلبتها تـعثُّرَ الشّقراءِ في iiمَيدانها
 
فقال لسان الحال:  والله ما كَذَبَ، ولكنّه قد يخبو الزّناد، وقد يكبو
الجَواد، وقد يُصاب الفارس بالعين التي تغمز قناته غمزاً.
ومن ظنّ أنْ سَيُلاقي الحروبَ وألاّ  يُـصابَ فقد ظنَّ iiعَجْزا


([1]) تورية عمّا كان يُعرف بدمشق في العهد المملوكي بجزيرة بين النهرين، وهي مُبتدأ الوادي الأخضر من جهة الشّرق، تمتدّ بين جامع يلبغا وجامع تنكز، أي ما ينطبق اليوم على الجزء الغربي من ساحة المرجة (ساحة الشهداء). حيث كان نهر بردى هناك (قبل تغطيته عام 1866 م) ينقسم إلى قسمين تتشكل بينهما جزيرة. راجع وصف البدري لها. وبقيت المحلّة إلى أواخر العهد العثماني، قُبيل نشوء ساحة المرجة في عهد التنظيمات، واشتهرت بها في القرن الحادي عشر الهجري قهوة بين النّهرين، التي كانت من أجمل متنزهات دمشق، وصفها الرّحالة الفرنسي جان تيڤنو  Jean Thévenot عام 1664. راجع كتابي: »وصف دمشق في القرن السابع عشر«، ص 77.
([2]) الشّرفان رابيتان على جانبي بردى، من البحصة شرقاً إلى آخر مرجة الحشيش غرباً.
([3]) أي الوادي الأخضر وهو وادي بردى الفوقاني المارّ بالمرجة (غربي ساحة المرجة) والميدان الأخضر (مرجة الحشيش)، والوادي التحتاني المار ببساتين كيوان شرقي الرّبوة.
([4]) كانت في جزيرة بين النهرين عند رأس الوادي عين تُعرف بعين القصّارين، غارت قديماً.
([5]) توريات بحلب الشّهباء، والميدان الأخضر ووادي الشقراء مما يلي دمشق غربيها مباشرة. وقوله: ما جرى من أهل الشهباء، يعني انحياز الحلبيين إلى برقوق ضد دمشق.
*أحمد
9 - نوفمبر - 2008
نص الرحلة - 9    كن أول من يقيّم
 
ودخلتُ بعد ذلك إلى البلد، فوجدتُ على أهله من دروع الصبر سكينة، فقلت: يا ربّ مكّة والحَرَم انظر إلى أحوال أهل المدينة. ولكن ما دخلت بها إلى حمّام إلاّ وجدته قد ذاق لقطع الماء عنه حِماماً، وعلم القوّام والقاعدون بأرضه أنها {ساءت مُستقرّاً ومقاماً}، وتُلي على بيت ناره:  {قُلنا يا نارُ كُوني بَرداً وسَلاماً}، فحسن أن أنشده قول ابن الجوزي:
والحارُّ  عندك iiباردٌ والنّهرُ أمسى مُنقطعْ
والـعينُ لا ماءَ فيها مـا حِـيـلةُ iiالقوّامْ
 
وأتيتُ بعد ذلك إلى (الجامع الأمويّ)، فإذا هو لأشتات المحاسن جامع، وأتيته طالباً لبديع حسنه فظفرت بالإضاءة والاقتباس من ذلك النور الساطع. وتمسّكت بأذيال حسنه لمّا نشقتُ تلك النفحات السحرية، وتشوّقت إلى النظم والنثر لمّا نظرت إلى تلك الشذور الذهبية، وآنست من جانب طوره ناراً فرجع لي ضياء حسّي، واندهشت لذلك الملك السليماني وقد زُهي بالبساط والكرسي، وقلت:  هذا ملكٌ سَعِدَ من وقف في خدمته خاشعاً، وشقي من لم يدس بساطه ويأته طائعاً، ولقد صدق من قال:
أرى  الحُسنَ مجموعاً بجامع iiجِلَّقٍ وفي صدره معنى الملاحَة مشروحُ
فـإن  يـتـغالى بالجوامعِ iiمعشرٌ فـقُـل  لهم (بابُ الزِّيادة) iiمفتوحُ
 
معبدٌ له قصبات السبق ولكن كُسرت عند قطع الماء قناته، ورأيته في القبلة من شدّة الظمأ وقد قويت من ضجيج المسلمين أنّاته، وخفض (النَّسر)([1]) جناح الذلّ وودّ بأن يكون النَّسر الطائر، وطُمست مُقَل تلك المصابيح، فاندهش لذلك النّاظر.
هذا وكم نظرتُ إلى حجر مكرّم ليس له بعد إكسير الماء جابر، واختفت نجوم تلك الأطباق التي كانت كالقلائد في جِيد الغَسَق، ومرّت حلاوة نارها بعد ما ركبت {طبقاً عن طبق}. وأصبح دَوْحُه وهو بعد تلك النّضارة والنّعيم ذابل، وكادت قناديله وقد سلبت لفقد الماء أن تقطع السلاسل. ولم تُشر الناس بأصابعها إلى فصوص تلك الخواتم المذهّبة، ولم يبق على ذلك الصحن طلاوة بعد الماء وحلاوة سكبه الطيّبة. وتذكّر المنبر عند قطع الماء أوقاته بـ (الرَّوضة)، وتكدّرت أفراحه لمّا ذكر أيامه بتلك (الغيضة)، وأنشد لسان حاله([2]):
ولو أن مُشتاقاً تكلّف فوقَ ما في وُسعه لسَعى إليكَ iiالمِنبرُ


([1]) تورية بقبّة النّسر الشهيرة في جامع دمشق الأموي.
([2]) البيتان للبُحتري، ديوانه 1: 212.
*أحمد
9 - نوفمبر - 2008
نص الرحلة - 10    كن أول من يقيّم
 
وودّت (العروس)([1]) أن تكون مجاورة لحَماتها لتبلّ ريقها برحيق الأمن إذا نظرت إلى عاصي (المحمّديّة)، وقد دخل جنّاتها. ونظرتُ إلى (فَوّار) أبي نواس وقد انقطع قلبه بعد ما كان يثب ويتحرّى، وكاد أن ينشد من شعره لعُدم الماء:  ألا فاسقني خمراً.
ودخلتُ إلى (الكلاّسة) وقد علا بها غُبار الحزن، فتنهّدتُ من الأسف على كل ناهدة، ورثيتُ للنساء وقد فقدنَ بعد تلك {الأنعام} {المائدة}.
واستطردتُ إلى (باب البريد)([2])، فوجدتُ خيول الماء الجارية قد انقطعت عن تلك المراكز، ونظرتُ إلى السّراج الأكبر وقد انعقد لسانه لما شعر من ممدوح الماء بعدم تلك الجوائز.
ونظرتُ إلى أهل الصّلاة وعليهم في هذه الواقعة من الصّبر دروع، وقد استعدّوا بسهام من الأدعية أطلقوها على قسيّ الركوع.
مُريَّشةٌ بالهُدب من جَفن سَاهرٍ مُـنَـصّـلةٌ  أطرافُها iiبدُموعِ
 
ونظرتُ إلى الريّان من العلم وقد اشتدّ لفقد الماء ظماه، وتبلّد ذهنه حتى صار ما يعرف من أين الطريق إلى باب المياه.
ومشيتُ بحكم القضاء إلى (الشُّهود)([3]) فوجدتُ كلاًّ منهم قد راجع سهاده وطلّق وسنه، وتأمّلتُ أهل (السّاعات) وقد صار عليهم كل يوم بسنة، ونزلتُ في ذلك الوقت من (السّاعات) إلى الدَّرَج في دقيقة، فانتهيتُ إلى مجاز طريق (الفوّار)([4]) فوجدتُه كأن لم يكن له حقيقة.
كم وردتُه وهو كأنه سِنان يطعن في صدر الظما، أو كشجرة كدنا نقول إنها طوبى لمّا ظهرت وأصلها ثابت وفرعها في السّما، أو مغترف بيده الماء وقد أفاض عليه عطاياه فيضاً، فرفع له لأجل ذلك فوق قناته راية بيضا، أو عمود وفاء أشارت الناس إليه بالأصابع، أو ملك طالب السماء بودائع، حتى كأن إكليل الجوزاء له من جملة الودائع، أو أبيض طائر علا حتى قلنا إنه يلتقط حبّات النجوم الثواقب، أو شجاع ذو همّة عالية يحاول ثأراً عند بعض الكواكب، فخفض لفقد الماء مناره وخفي بعد ما كان به أشهرَ من عَلَم، وجدع أنفه وطالما ظهر وفي عرنينه شَمَم، فقلتُ:
لـستُ أنسى الفوّار وهو iiينادي غِيض مائي وعَطَّل الدَّهرُ حالي
فـتـمـنّـيتُ  من لهيبي بأنّي أشـتري غيضَهُ برُوحي iiومالي


([1]) تورية بمئذنة العروس الشهيرة في الأموي، وهي المئذنة الشمالية. تطلّ على الكلاّسة المذكورة أدناه. أما الفوّار فتورية عن فوّارة جيرون شرقي الجامع، النّوفرة في أيامنا.
([2]) تورية عن باب البريد، وهو الباب الغربي للجامع الأموي المُفضي إلى المسكيّة سابقاً.
([3]) الشّهود تورية بمصاطب الشهود جنوبي الأموي، أما باب السّاعات فتسمية كانت تُطلق على باب جيرون الشرقي بالأموي، وقبلها كانت تُطلق على باب الزّيادة القبلي.
([4]) تقدّم ذكره، فوّار باب جيرون إلى الشرق من الجامع الأموي، يُعرف اليوم بالنّوفرة.
*أحمد
9 - نوفمبر - 2008
نص الرحلة - 11    كن أول من يقيّم
 
فلا والله ما كانت إلاّ أيسر مدّة حتى رجع الماء إلى مجاريه، وابتسم ثغر (دمشق) عن شنب الريّ بعدما نشف ريقه في فيه.
هذا وقد خمدت نار الحرب وقعدت بعد ما قامت على ساق وقدم، وبطلت آلتها التي كان لها على تحريك الأوتار وجسّ العيدان نغم. واعتُقل الرُّمح بسجن السِّلم وعلى رأسه لواء الحرب معقود، وهجعت مُقَل السيوف في أجفانها لمّا علمت أن الزّيادة في الحدّ نقص في المحدود.
وفاضت غُدران الرّحمة على رياض الأمن فظهر لها من المسرّة نباتٌ حَسَن، فالحمد لله الذي أذهب عنا الحَزَن.
وبعد، فالمعذرة من فهاهة هذه الرسالة التي هي في رياض الأدب باقليّة، والصّفح عن طولها وقصر بلاغتها بين يدي تلك المواقف السَّحبانية، وليكن محمولاً على متن الحلم كلامها الموضوع، فقد علم الله أنها صدرت من قلب مكسور وفؤاد مصدوع، وذهن ضعيف، وليس لكثير ضعفه عاصم ولا نافع، وراحلة فكرٍ أمست وهي عند سيرها إلى غايات المعاني ظالع:
فسيروا على سَيْري فإنّي ضعيفُكم وراحـلـتي  بين الرَّواحل iiظالعُ
 
هذا وكم تولّد للمملوك في طريق الرّمل من عقله، وكم ذاق من قطّاع الطريق أنكاداً حتى ظن أنه لعُدم النُّصرة ليس له إلى الاجتماع من وصلة. وكلّما زعق عليه غُراب البين تألّم لسهام البين وفقد مصر التي هي نِعم الكِنانة، وأنشد وقد تحيّر في الرّمل لفراق ذلك التّخت الذي أعزّ الله سلطانه:
مـن زَعقة الغُراب بعد iiالمُلتقى فـارقـتُ  مصراً وبها iiأحبابي
وفي طريق الرّمل صرتُ حائراً مـروّعـاً  مـن زَعقة iiالغُرابِ
*أحمد
9 - نوفمبر - 2008
نص الرحلة - 12    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
واستقبل المملوك بعد ذلك بلاد الشّام، فبئس الحال وبئس الاستقبال، فوالرّحمن ما وصل بها إلى مكان إلاّ وجده قد وقعت فيه الواقعة واشتدّ القتال، وحصدوا سُنبل الرّشاد فدرست فلا أعيد لمعيد حربهم دروس، وأداروا رحى الحرب بقلوب كلأحجار فطحنت عند ذلك الرؤوس، وأنشد لسان الحال:
مـن كـلّ عادٍ كعادٍ في iiتجبّره مـن فوق ذات عمادٍ شادها iiإرَمُ
لا يُجمعون على غير الحرام إذا تجمّعوا كحباب الرّاح iiوانتظموا
 
وانتهت الغاية بالمملوك إلى أنه شلح بقرب (الكسوة)([1]) في الشتاء، وانتظرتُ ملك الموت وقد أمسيتُ:
لـي مُهجة في النازعات iiوعبرةٌ في المرسلاتِ وفكرة في هل أتى
 
هذا، والليلُ قد انطفأت مصابيح أنواره وعَسْعَس، حتى أيقنتُ بموت الصُّبح وقلتُ لو كان في قيد الحياة تنفَّس. فذهب المملوك وقد تزوّد عند قسم الغنيمة بسهم فجرح ولم يجد له تعديلا، ولكنه صبر على الألم بعد ما كاد يدمي من الوهم ولم يلق له مجيرا، لمّا قوي ألمه وضعف منه الحيل، إلاّ أنه دخل تحت ذيل الليل، فوصل إلى البلد وقد ودّ يومه لو تبدّل بالأمس، ولم يَسلم له في رقعة الحرب غير الفرس والنّفس، ولكنه أنشد:
ما تفعلُ الأعداءُ في جاهلٍ ما  يفعلُ الجاهلُ في iiنَفْسِه
 
فأعاذ الله مولانا وبلاده من هذه القيامة القائمة، وبدأ به في الدنيا ببراعة الأمن، وفي الآخرة بحُسن الخاتمة.
(ثمرات الأوراق، 381-395)
 
*  *  *


([1]) قرية معروفة (صارت بلدة)، إلى الجنوب من دمشق على طريق حوران.
*أحمد
9 - نوفمبر - 2008
كل الشكر لك أستاذي    كن أول من يقيّم
 
أتقدم بجزيل الشكر على هذه الهدية الاستثنائية من مؤرخنا وأستاذنا البحاثة الدكتور احمد إيبش، وأتمنى لو يحدثنا أكثر عن رواية ابن صصرى لو وجد فسحة من الوقت، وقد عثرت على نص نادر يسمي فيه ابن شداد قنوات دمشق كلها، ويتضمن معلومات نادرة عن دور دمشق وأحيائها، ولكنه بحاجة إلى تحقيق، سوف أنشره لاحقا في موضوع مفرد وليته يحظى بعنايتكم، ولا أدري: هل سبق أن حققتموه أيضا ؟ أكرر شكري وامتناني، وإلى اللقاء، وسلاما من صديقنا الأستاذ محمد الشحي، وهو جواري الآن، وقد بلغته الرسالة بحذافيرها
*زهير
9 - نوفمبر - 2008
 1  2  3