نص الرحلة - 4 كن أول من يقيّم
وتطاولتُ إلى السّور المُشرف وقد فضل في علم الحرب وحفظ أبوابه المقفلات، فما وقفنا على باب إلا وجدناه لم يترك خلفه لصاحب المفتاح تلخيصاً لما أبداه من المشكلات، وما أحقّه بقول القائل: فـضائله سورٌ على المجد iiحائطٌ | | وبالعلم هذا السّور أضحى مُشرِفا | ثم حملوا عليه وظنّوا في طريق حملتهم نصرا، ونصبوا دَسْت الحرب ولم يعلموا بأنه قد طبخ لهم على كل باب قِدرا، فلا وأبيك لو نظرته يوم الحرب وقد تصاعدت فيه أنفاس الرجال لقلتَ: {ونُفخ في الصُّور ذلك يوم الوعيد}، وإلى المحاصرين وقد جاؤوا راجلاً وفارساً ليشهدوا القتال لقلتَ: {وجاءت كلّ نفس معها سائقٌ وشهيد}، وإلى كواكب الأسنّة وقد انتثرت، وإلى قبور الشهداء وهي من تحت أرجل الخيل قد بُعثرت، وإلى كرّ الفوارس وفرّها لقلتَ: {علمتْ نفسٌ ما قدّمتْ وأخّرت}، وإلى نار النفط وقد نفطت من غيضها، وإلى ذكور السّيوف وقد وضعت المنايا السود وتعذّرت من شدّة الدماء لكثرة حيضها: ومن العجائب أن بيضَ سُيوفهم | | تـلدُ المنايا السّودَ وهي iiذُكورُ | وإلى فارس الغبار وقد ركب صهوات الجوّ ولحق بعنان السماء، وإلى أهداب السهام وقد بكت لمّا تخضّبت بالدماء. وإلى كل هارب سُلب عقله، وكيف لا وخصمه له تابع، وإلى كل مدفع وما له عند حكم القضاء دافع، وإلى قامات أقلام الخط وقد صار لها في طروس الأجسام مَشْق، فاستصوبتَ عند ذلك رأي من قال: عَرِّجْ رِكابَكَ عن دمشقَ ونظرتُ بعد ذلك إلى العشير وقد استحلّ في ذي الحجّة المحرّم، وحمل كل قيسي يمانياً وتقدّم، فخرج النساء وقد أنكرن منهم هذا الأمر العسير، فقلتُ: وغـيـرُ بِدعٍ iiللنّسا | | ءِ إذا تنكّرتِ العشيرُ | وتصفّحتُ بعد ذلك فاتحة (باب النَّصر)()، فعوّذته بالإخلاص وزدتُ لله شكراً وحمداً، وتأمّلتُ أهل البلد وهم يتلون لأهل البلد في سورة الفتح وللمحاصَرين: {وجعلنا من بين أيديهم سدّا}، كم طلبوا فتحه فلم يجدوا لهم طاقة، {وضُرب بينهُم بسُورٍ له بابٌ، باطنُه فيه الرَّحمة وظاهرُه من قبله العذابُ}. ونظرتُ إلى ما (تحت القلعة)() من أسواق التجّار، فوجدتُ كلاً قد محت النار آثاره، وأهله يتلون: {قُلْ ما عند الله خيرٌ من اللّهو ومن التّجارة}. فمنهم من شأنه على صاحبته وبنيه، وآخر قد استغنى بشأن نفسه، فهم كما قال الله: {لكلّ امرىء منهم يومئذ شأنٌ يُغنيه}، فوقفتُ أنشد في تلك الأسواق وقد سُعِّرت: ألا موتٌ يباعُ فأشتريهِ. ونظرتُ إلى المؤمنين الرُّكّع السُّجود، وهم يتلون على من ترك في بيوتهم أخدوداً من وقود النار وقعد لحربهم في ذلك اليوم المشهود: {قُتل أصحابُ الأخدود * النّارِ ذات الوَقود * إذ هُم عليها قُعود * وهُم على ما يفعلون بالمؤمنين شُهود}. هذا وكم مؤمن قد خرج من دياره حَذَرَ الموت، وهو يقول النجاة وطلب الفرار، وكلّما دعاه قومه لمساعدتهم على الحريق ناداهم وقد عدم الاصطبار: {ويا قومُ مالي أدعوكُم إلى النّجاة وتدْعُونني إلى النّار}. ونظرتُ إلى ضواحي البلد وقد استدّت في وجوههم المذاهب، وما لهم من الضيق مخرج، وضاقت عليهم الأرض بما رحُبت لما غُلق في وجوههم (باب الفَرَج)، فقلتُ: اللهم اجعل لهم من كلّ همّ فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، ولعدم أموالهم من كل عُسر يُسراً، ولانهتاك مخدراتهم من كل فاحشة ستراً، ولقطع الماء عنهم إلى كل خير سبيل، فأنت حسبُنا ونعم الوكيل. |