الأديب الشهير أحمد حسن الزيات (1) ، الذي كان صاحب مجلة الرسالة ومديرها ورئيس تحريرها ، كتب في العدد الثالث عشر منها مقالا بعنوان :" آفة اللغة هذا النحو" ، ينقد فيه علم النحو القديم ، ويصفه بأنه يصعب على الطلاب فهمه ، ويتخذ من أحد كتب النحو ، واسمه " شرح الكفراوي على متن الأجرومية " والذي كان من مقررات منهج التدريس في الأزهر في ذلك العهد ، مثالا على كتب النحو الصعبة الفهم على الطلاب . فهذا الكتاب كان " شديد الكلف بالإعراب " كما وصفه الزيات ، "وكان يأخذ الطالب المبتدئ أخذا عنيفا قبل أن يعلمه كلمة واحدة من أقسام الكلام ." . وتحدث الزيات عن وجوه الإعراب العديدة للجملة الواحدة وعن كثرة طرق التخريج النحوية العجيبة وكثرة الحيل البارعة التي يستخدمها النحاة لتبيان صحة كل وجه من الوجوه ، ثم يخلص إلى القول : " جنى هذا النحو الفوضوي على الناشئين فعمى عليهم وجوه الأدب ، ثم فتح لهم من الجدل اللفظي والتخريج اللغوي أودية وشعابا يقصر دون غايتها الطرف . فعندهم كل صواب يمكن أن يُخطّأ ، وكل خطأ يمكن أن يُصوب ، وكل كلام على أي صورة يجب أن يُفسر أو يُؤول! اخرق القواعد، واقلب الأوضاع ، وانطق اللفظ على أي حركة ، واستعمله في أي معنى ، فإنك واجد ولا شك من هؤلاء من يلتمس لك وجها من وجوه (البسملة) السبعة ، أو مخرجا من مخارج ( باب الإعراب ) الثلاثة!(2) وذكر الزيات في مقاله شيخا عرفه لما كان يطلب العلم قال : " عرفت أيام الطلب شيخا قد ابتلي بهذه الشعوذة ، فحشا جسمه بهذا العبث النحوي حتى ليرشحه من جلده ، ويرعفه من أنفه ، ثم يتكلم فيتعمد اللحن القبيح ، فإذا أنكر عليه منكر انفجر عن هذا الهوس فذكر لكل خطا وجها ، ولكل وجه علة ، ثم يقول في تفيهق وزهو : ( لولا الحذف والتقدير ، لفهم النحوَ الحمير) " . ويبدو من كلام الشيخ المتفيهق المذكور أنه لا يعجبه أن يكون النحو سهلا على الأفهام أبدا .. ثم ذكر الزيات طرائف عجيبة مما سمع عمن أغرموا بالتخريج النحوي واستساغة كل وجه من وجوه الإعراب . وهذه واحدة من تلك الطرائف التي ذكرها : ".. وحدثوا أن ممتحنا من هذا النمط ، كتب في ورقة طالب راسب : " لا يصلح " ثم ظهر لأمر خارج عن إرادته أنه ناجح ، فكتب تحت هذه الجملة : " قولي لا يصلح ، صوابه يصلح ولا زائدة " .(3) وقد بين الزيات في مقاله السبب الذي من أجله وجدنا علم النحو العربي مليئا بالتناقض والشذوذ وتعدد الأوجه والمذاهب قال : " وتباين المذاهب إنما هو أثر لاختلاف اللهجات في القبائل ، فقد كان رواة اللغة يرودون البادية ويشافهون الأعراب ، فيدونون كلمة من هنا وكلمة من هناك ، فاجتمع لهم بذلك المترادفات والأضداد ، وتعدد الجموع والصيغ للفظ ، واختلاف المنطق في الكلمة ، والنحاة مضطرون إلى أن يمطوا قواعدهم حتى تشمل هذه اللحون ، وتستوعب تلك اللغات ، فأغرقوا القواعد في الشواذ ، وأفسدوا الأحكام بالاستثناء ، حتى ندر أن تستقيم لهم قاعدة ، أو يطرد عندهم قياس ." . إن ما قاله الأديب الزيات عن اضطرار النحاة إلى مط قواعد اللغة لهو قول مصيب تمام الإصابة ؛ فقد ظن بعض أولئك النحاة أن قواعدهم لا تخطيء ، فجعلوها حكما على اللغة ، فساروا باللغة سيرا يناقض طبيعتها ، ويغاير مبدأ نشأتها وكيفية تطورها ، ومدى اختلاف لهجاتها . ويشبه ما فعله النحاة في اللغة ما فعله العروضيون في الأوزان الشعرية وبحورها ، فهم قد حكموا على بعض الشعراء الذين سبق ظهورهم ظهور الخليل بمئات السنين ، حكموا عليهم بأنهم وقعوا في الخلل في الأوزان والقوافي دون أن يأخذوا في حسابهم ما كان يمكن أن يطرأ على التفاعيل من تغيير حتى استقرت على حالها . وكثيرا ما قرأنا عن خلافات عديدة بين العروضيين حول القصيدة الواحدة من أي بحر هي . ونعود إلى مقال الأديب الكبير الزيات لنذكر أنه رأى للنحو القديم مجالا يعمل فيه يفيد في بحث اللهجات في اللغة ، ودرس القراءات في القرءان ، أما أن يستخدم لضبط اللغة وتقويم اللسان ، فهو استخدام مشكوك في منفعته عنده كل الشك . في الفقرات الأخيرة من المقال ذكر الأديب الزيات أن الكتب المدرسية في عصره نجحت بعض النجاح في تجريد " نحو" عام يكاد يسير في وجه واحد . ونعى الزيات على من سماه بالفريق الضئيل الشأن من بقايا الثقافة القديمة في مصر والعراق قال : " .. لا يزالون يظنون أنا مجبرون على إخضاع ألسنتنا وأقلامنا لتلك اللهجات البالية ، فيقعد بهم تخلف الذهن وضعف الملكة وكلال الذوق ، عند هذه البقايا الأثرية ينبشون عنها قبور البلى ، ثم ينشرونها كالشوك في طريق الأدباء الموهوبين ، ويتبجحون بأن هذا اللغو هو اللغة ." . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) أحمد حسن الزيات (1303هـ - 1885م / 1383هـ- 1968م) ) مصري ، من كبار الأدباء الكتاب وأرباب النهضة الثقافية الأدبية والصحفية في مصر والعالم العربي . ( ينظر في الموسوعة الحرة على الشبكة وغيرها من المواقع ) . (2) وجوه البسملة في الكتاب الذي تحدث عنه الأستاذ الزيات عددها تسعة راح الكفراوي يجيزها فأجاز منها سبعة ومنع اثنين . والوجهان الممنوعان عنده هما جر الرحيم مع رفع الرحمن ، وجر الرحيم مع نصب الرحمن . وقد ذكر نظما في الوجهين الممنوعين قال : أن ينصب الرحمن أو يرتفعا | | فالجر في الرحيم قطعا iiمنعا | . أما (باب الإعراب ) ومخارجه الثلاثة ، فأمرهما هو أن (باب الإعراب ) أول عنوان في الكتاب ، وقد أخذ الشارح يعرب العنوان بطرق ثلاثة كلها عنده جائزة قال : " قل بابُ الإعراب بالرفع أو بابَ الإعراب بالنصب أو بابِ الإعراب بالجر فلن تعدو وجه الصواب في أي حالة ." . والمخارج الثلاثة هي : الرفع : له وجهان : هذا بابُ الإعراب ، أو بابُ الإعراب هذا محله ، والنصب : اقرأ بابَ الإعراب على اعتبار أن اقرأ محذوف ، وأما الجر فعلى أنه مجرور بحرف جر محذوف تقديره : أنظر في باب الإعراب . (3) ومما ذكره الكاتب من الطرائف الطرفة التي تتحدث عن تصحيف قول النبي عليه صلوات الله وسلامه : " المؤمن كيّس فطن " ، فقد صحفه أحدهم ، وكان ضعيف البصر، فقرأه : " المؤمن كيس قطن! " ، وأصر على صحة تلك القراءة وراح يحملها على التشبيه ، وأنها تعني أن المؤمن أبيض القلب كبياض القطن . |