البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : الأدب العربي بين أمسه وغده    قيّم
التقييم :
( من قبل 1 أعضاء )

رأي الوراق :

 ياسين الشيخ سليمان 
27 - سبتمبر - 2008
بسم الله الرحمن الرحيم
الأدب العربي بين أمسه وغده
    " الأدب العربي بين أمسه وغده " ، بحث نشره عام (1364هـ - 1945م)   دكتور طه حسين بك ، كما كان يلقب وقتها، في العدد الأول من المجلد الأول من مجلة "الكاتب المصري"[1] التي كان يرأس تحريرها في ذلك الحين . ولما كان هذا البحث ذا أهمية من جهة موضوعه ، وذا أهمية كذلك من جهة حرفة مؤلفه ؛ فقد رأيت أن نشره في الوراق ، بعد ثلاثة وستين عاما من نشره أول مرة يجعل من يطلع عليه يتبين حال الأدب العربي اليوم ، وهل هي كما تنبأ بها طه حسين ، ويتبين قبل ذلك نظرة طه حسين إلى الأدب العربي وتاريخه وإلى الآداب الأخرى .
   وقد قمت بنقل نص البحث من العدد الأول من مجلة " الكاتب المصري " ، فلدي نسخة منه . وسوف أقوم بنشره بعون الله في الوراق على دفعات . أما التعليقات الواردة في الحواشي فهي من إعدادي .


[1] صدرت هذه المجلة بعيد نهاية الحرب العالمية الثانية  في تشرين اول عام   1945عن دار الكاتب المصري بالقاهرة ، وكانت هذه الدار مملوكة لعائلة يهودية مصرية . وقد أسس المجلة طه حسين ، ثم انقطعت عن الصدور في أيار من عام 1948 . في هذا الرابط توجد اعداد المجلة المذكورة للتحميل http://www.al-kalimah.com/data/2008/7/1/EgyptianWriter.html
 
 1  2 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
فكرة نيرة وموضوع هام    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
صباح الخير أستاذنا ياسين الشيخ سليمان :
قرأت سريعاً بفضل الرابط الذي ضمنته مقدمتك بحث طه حسين في المجلة المذكورة ( الكاتب المصري ) والذي يشكل مشروعاً ونظرة متكاملة يلقيها على الأدب والتراث وواقع الثقافة الغربية وموقفه من كل منها . إن طرح هذا الموضوع للنقاش هو مسألة بمنتهى الأهمية نظراً لما يمثله طه حسين وللدور الهام والمؤثر الذي لعبه في نشأة وتكوين التيار الحداثي في الفكر والأدب العربي . سيكون هذا الملف ، الذي أتوقع وأتمنى أن يحظى باهتمام السراة والأصدقاء ، من جهة ، امتداداً لملف " في سبيل النهضة " الذي طرحه الأستاذ محمود الدمنهوري يوماً والذي لم يأخذ حظه الوافي من النقاش نظراً لصعوبته ، واستكمالاً للمواضيع التي طرحها الأستاذ زين الدين هشام عن دور الإستشراق وخصوصاً في ملفه الأخير عن كتاب " الاستشراق " لإدوارد سعيد ، من جهة أخرى . تمنياتي لك بالتوفيق وشكراً لك مجهودك الرائع .
*ضياء
28 - سبتمبر - 2008
رعاية الفكر    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
أستاذتنا الكريمة العزيزة ضياء حفظك الله ورعاك ، وكل عام وانت والعائلة بخير ، وكذلك سراة الوراق وأصدقائه ،
إنك بحق من رعاة الفكر النير ، وعلى اهتمام كبير بما له من القيمة العظمى في نهضة الأمم . وأشكرك على تعليقك المشجع ؛ فهو يشعرني بأن ما أقوم به ذو قيمة وفائدة ؛ فبارك الله علمك وأدبك وخلقك المثالي .
*ياسين الشيخ سليمان
28 - سبتمبر - 2008
الأدب العربي بين أمسه وغده 1    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
 
    لست أدري أكان الناس يُلقون على أنفسهم في أعقاب الحروب الماضية مثل ما أخذوا يلقونه على أنفسهم من الأسئلة في أعقاب الحرب العالمية الأولى وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية . فلم تكد الحرب العالمية الأولى تدنو من غايتها حتى أخذ الناس يتساءلون عما يمكن أن يكون لها من أثر في الحياة الأدبية وفيما ينتج الأدباء من شعر ونثر. ثم لم تكد الحرب العالمية الثانية ترسل نُذرها إلى الأرض حتى أعاد الناس إلقاء هذه الأسئلة على أنفسهم . ولكل سؤال جواب ، كما قال جميل لصاحبته بثينة . ومن أجل هذا أخذ الناس يتنبئون بما ستصير إليه الحياة الأدبية من قوة أو ضعف ، ومن رقي أو انحطاط ، ومن تطور في بعض فنونها ينتهي به إلى النمو أو ينتهي به إلى الانقراض أو ينتهي به إلى تحول خطير أو يسير .
    وقد كذبت الحوادث كثيرا من هذه  النبوءات وصدّقت منها كثيرا ، وانتهى بعض الأدباء الفرنسيين الممتازين إلى أن يجيب على سؤال من هذه الأسئلة ألقي عليه في أثناء الحرب العالمية الثانية بأنه لا يعلم أن للحرب أثرا في الأدب أو أن للأدب أثرا في الحرب . وليس هذا الجواب إلا نوعا من أنواع الشك وفنّاً من فنون التردد الذي يقضي به الاحتياط على من يريد أن تكون أحكامه صائبة غير مسرفة في تجاوز الحق . فليس من سبيل إلى ان ننكر أن للأحداث الجسام والخطوب العظام أثرها البعيد في حياة الناس . ومتى تأثرت حياة الناس تأثرت آدابهم ؛ لأن هذه الآداب آخر الأمر ليست إلا تعبيرا عن هذه الحياة وتصويرا لها ، فإذا تغير الأصل تغيرت الصورة ، وإذا تغير المعنى تغيرت العبارة التي تؤديه .
    ولو أن اليونان بلغوا من التعمق ما بلغنا والتمسوا من العلم ما نلتمس ، لجاز أن يسأل بعضهم بعضا عما كان يمكن ان تحدثه الحرب الميدية[1] من الأثر في آدابهم ، ولكان من الممكن أن يتنبأ بعض الفقهاء من أدبائهم بأنها ستحدث آثارا بعيدة جدا لا في الأدب اليوناني وحده ولكن في أكثر الآداب التي سينتجها الناس على اختلاف العصور وتباين الظروف . ولكان من الممكن أن يتنبأ بعض الفقهاء من أدبائهم بأن هذه الحرب الميدية ستدفع الشعر التمثيلي إلى التطور دفعها عنيفا ، وستنتج للإنسانية كلها آيات ايسكولس وسوفوكل وأوريبيد[2] ، وبأنها ستدفع أحاديث القصاص دفعا عنيفا إلى التطور ، فتنتج لهم تاريخ هيرودوت[3] ، وتنشئ للإنسانية فنّاً من أجلّ الفنون الأدبية خطرا وهو فن التاريخ ، وتنشئ لليونان أنفسهم نثرهم الفني البديع  ، وتضع لهم أصول الفلسفة اليونانية الرائعة التي أنتجت سقراط ومن جاء بعده من تلاميذه النابهين . ولو كان اليونان يبحثون عن مثل ما نبحث عنه ويتقصون من الأمر مثل ما نتقصى ، لجاز ان يتساءلوا عما سيكون لحرب البيلوبونيز[4] من أثر في حياتهم الأدبية والعقلية ، ولكان من الممكن أن يتنبأ المتنبئون بأنها ستنتج لهم فقه التاريخ وفلسفته كما نراهما في كتاب توسوديد[5] ، أو ستحول فن التمثيل التراجيدي إلى هذا اللون الفلسفي الذي نراه عند اوريبيد ، وستمكن أرستوفان[6] من إنتاج آياته الكوميدية الخالدة ، وستحول سفسطة السفسطائيين اليسيرة إلى هذه فلسفة العميقة التي كان أرستوفان يهزأ بها وبزعيمها سقراط في قصة السحاب . ولكن اليونان لم يكونوا يحبون مثل هذه النبوءات ، وإنما كانوا يحبون نبوءات أخرى يسيرة تمس آمالهم وأعمالهم ، وكانوا يلتمسون هذه النبوءات كما كان العرب يلتمسونها عند السوانح والبوارح[7] من الطير ، وفي آيات أخرى كانوا يذهبون في تفسيرها وتأويلها المذاهب ، فإذا احتفلوا بهذه النبوءات سافروا في التماسها سفرا قاصدا أو غير قاصد ، فطلبوها عند " أبللون "[8] في " دلف "[9] أو عند غيره من الآلهة في معابدهم تلك التي كانوا يلقون فيها الوحي على الأصفياء من الرجال والنساء . فأما مستقبل الأدب ومصير الفن فأشياء لم يكونوا يحفلون بها ولا يفكرون فيها . وحسبهم أن يستمتعوا بما ينتج الأدباء لهم من آيات الشعر والنثر ، وبما ينتج أصحاب الفن لهم من روائع التصاوير والتماثيل والبناء .


[1] ميديا : منطقة في شمال غربي إيران .  استولى عليها الإسكندر 330 ق.م  . إليها تنسب الحرب الميدية بين اليونان والفرس .
[2] ايسكولس وسوفوكل وأوريبيد أعظم كتاب التراجيديا الإغريقية .
[3]يلقب  بأبي التاريخ (484 ق.م - حوالي 425 ق.م). هيرودوتس   Herodotus  معروف بفضل كتابه تاريخ هيرودتس الذي يصف فيه أحوال البلاد والأشخاص التي لاقاها في ترحاله حول حوض البحر الابيض المتوسط. إن موضوع كتابه الأساسي هو الحروب بين الإغريق والفرس الميديين .
[4] هي الحرب بين اسبارطة وأثينا . والبيلوبونيز شبه الجزيرة التي في الشطر الجنوبي من بلاد اليونان ، وتعرف أيضا باسم " موره".
[5] مؤرخ إغريقي من مدينة أثينا، عاش ما بين 465 و 395 ق.م، كان حاكما عسكريا وشارك في "حرب البليبونيز"  (بين إسبرطة وأثينا ) ، وكتب تاريخها.
 
[6] عاش (حوالي448-حوالي385 ق م) كان أعظم الكوميديين في عصره على الإطـلاق لما تمتـع به من فكاهة مدمرة وسخرية قاسية .
[7] والبوارح من الطير، كما ذكر أبو الفرج في "الأغاني " : (ما جاء من ميامنك إلى مياسرك فولاك مياسره. والسوانح ما جاء من مياسرك فولاك ميامنه) . وكانت العرب تتشاءم أو تتيامن بها .
 
[8] وهو إله النور والجمال والفنون عند الأغارقة .
[9] Delphi وهو اسم اشهر معابد أبوللون .
*ياسين الشيخ سليمان
28 - سبتمبر - 2008
الأدب العربي بين أمسه وغده 2    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
والشيء الذي لا شك فيه أن الحرب الميدية صدمت الشرق الآسيوي ببلاد اليونان ، وأن هذه الصدمة العنيفة المتصلة قد أثارت في عقول اليونان وقلوبهم وأذواقهم شررا أذكى نارهم العقلية المقدسة ودفعها إلى التوهج الذي ملأ الأرض علما ونورا . وان حرب البيلوبونيز صدمت اليونان بأنفسهم أولا وبأقطار أوروبية أخرى ثانيا ، فكشفت لهم عن ذوات أنفسهم وأظهرتهم من خلالها على ذات النفس الإنسانية أو على بعض النواحي من ذات النفس الإنسانية ، فأحسوا وشعروا وفكروا كما لم يكونوا يشعرون ويحسون ويفكرون ، ثم صوروا وعبروا كما لم يكونوا يصورون ويعبرون . وتستطيع ان تقول مثل هذا بالقياس إلى حروب الإسكندر ، ثم بالقياس إلى ما كان بين خلفائه من الحروب ، ثم بالقياس إلى حروب الرومانيين في إيطاليا وفي غير إيطاليا من أقطار الشرق والغرب . كل هذه الحروب أثرت في الآداب القديمة تأثيرا عميقا ، وأنتجت للإنسانية آيات أدبية خالدة ما نزال نستمتع بها إلى الآن ، وستستمع الإنسانية بها حتى يرث الله الأرض ومن عليها . وأي رمز لذلك أبلغ من ان الإلياذة والأوديسا[1] إنما هما نتيجتان لحرب لا يكاد التاريخ يعرف من أمرها شيئا ، وهي حرب طرواده .
   ومثل هذا يمكن ان يقال بالقياس إلى أدبنا العربي القديم . فلو تكلف العرب المعاصرون لظهور الإسلام مثل ما نتكلف من البحث والتفكير والعمق لسألوا أنفسهم عما يمكن أن يكون لظهور الإسلام وما استتبعه من حرب داخل البلاد العربية ومن فتوح خارج هذه البلاد  من التأثير في الأدب العربي ، ولكان من الممكن ان يتنبأ الأذكياء من شباب قريش وشيوخها بأن هذا كله سيذهب بالشعر العربي  مذاهب لم تخطر لهم على بال ، وسينشئ لهم فنونا من النثر مختلفة متنوعة من العلوم والآداب . ولكن شيوخ قريش وشبابها لم يكونوا يفكرون في شيء من هذا ولا يقفون عنده ولا يحفلون بما يتصل به من النبوءات ، وإنما كانوا كاليونان والرومان يأخذون الأشياء من قريب فيستمتعون بما تقدم الحياة إليهم من خير ، ويشقون بما تقدم إليهم من شر . فإذا أبعدوا في التماس الغيب أسرفوا في الإبعاد فالتمسوا الغيب عند السوانح والبوارح من الطير ، وعند الكهنة ومن يتنزل عليهم من الشياطين ، وعند الأنبياء وما يلقى إليهم من وحي وما يهيأ لهم من معجزات . ثم هم كانوا كاليونان والرومان لا يلتمسون الغيب بالقياس إلى حياة العقل والقلب ، وإنما يلتمسونه بالقياس إلى حياة الأجسام في الدنيا وإلى حياة الأرواح في الآخرة . ومع ذلك فليس من شك في أن توحيد الأمة العربية بظهور الإسلام قد أنشأ لها أدبا واحدا ، ووجه هذا الأدب توجيها جديدا . وليس من شك في أن اصطدام العرب بغيرهم من الأمم قد أذكى في نفوسهم وفي نفوس هذه الأمم جذوة الأدب والفن والعلم ، فامتلأت الأرض معرفة ونورا ، بفضل هذا الاصطدام وما نشأ عنه من الاختلاط والامتزاج ، ومن معرفة العرب لغيرهم من الأمم ومعرفتهم لأنفسهم ، ومن تعارف هذه الأمم فيما بينها وتعاونها راضية أو كارهة على ما كانت مضطرة أن تتعاون من شؤون الحياة .
   ومن يدري! لعل القدماء كانوا أدنى منا إلى الحق واقرب منا إلى الصواب وأشد منا إيثارا للقصد والاعتدال ؛ فهم كانوا لا يكلفون أنفسهم ما لا تطيق ولا يحملونها ما لا تحتمل ، وإنما كانوا يتلقون الحياة ويحيونها ، ثم يسجلون ما يستطيعون استكشافه من الحقائق والظواهر . فقدماء العرب قد عرفوا ما كان من تطور الأدب العربي بعد وقوعه . كما عرف قدماء اليونان ما كان من تطور الأدب اليوناني بعد وقوعه . وهم قد سجلوا لنا ذلك تسجيلا مقاربا يسيرا لا تكلف فيه ولا إبعاد . وهم قد عصموا أنفسهم من التورط في نبوءات تصدقها الحوادث حينا وتكذبها أحيانا . وهم قد أراحوا أنفسهم من هذا الشك الذي أتاح لذلك الأديب الفرنسي أن يقول إنه لا يعلم أن للحرب أثرا في الأدب أو أن للأدب أثرا في الحرب . والأمر كله يرجع ، فيما يظهر ، إلى أن الرقي الذي أتيح لنا في حياتنا المادية والعقلية قد دفعنا إلى ألوان من الغرور وخيل إلينا أنا نقدر على شيء كثير مما لم يقدر عليه القدماء . وما دمنا قد استطعنا ان ننهب الأرض بالقطار والسيارة ، وننهب البحر بالسفن تجري على ظهره وتسبح في بطنه ، وننهب الجو بالطائرات ، وننهب الزمان والمكان بهذا كله وبالبرق[2] والراديو ، ما دمنا قد استطعنا ان نقهر الطبيعة ونخترق حجبها ونكشف أستارها ونلغي ما كانت تستطيل به علينا من آماد الزمان والمكان ، فليس ينبغي لغرورنا أن يقف عند حد أو ان ينتهي إلى غاية ، وليس ينبغي لنا أن نتردد في التنبؤ بما سيكون ما دمنا قد استطعنا أن نعرف ما كان . وقد قيل إن التاريخ فن يعين على استكشاف المستقبل بفضل ما يعلم من حقائق الماضي . ونحن قد صدقنا ذلك واطمأننا إليه . وقليل جدا من بيننا أولئك الذين يشكون في أن التاريخ يعلمنا حقائق الماضي ثم يشكون بعد ذلك في أنه يستطيع أن يكشف لنا عن حقائق المستقبل . وأكبر الظن ان هؤلاء القليلين الذين ينظرون إلى التاريخ نظرة ساخرة مشفقة ، ويلحظونه لحظة باسمة مزدرية ، وينتظرون المستقبل كما ينتظرون المجهول – أكبر الظن أن هؤلاء القليلين هم المصيبون ، ولكننا لا نحب صوابهم هذا ولا نكلف به ، بل لا نطمئن إليه ؛ لأنه يضطرنا إلى التواضع ويردنا إلى الاعتدال ، ويحول بيننا وبين الغرور أو بيننا وبين الإغراق في الغرور . وما قيمة الإنسان إذا لم يعبث به الغرور فيخيل إليه أنه قادر على كل شيء ، وأنه من حقه بل من الحق عليه أن يحاول كل شيء !!


[1] إلياذة  Iliad ينسبها اليونان إلى هوميروس الشاعر الملحمي اليوناني : ملحمة يونانية في 24 نشيدا تروي أخبار حرب طروادة بين الإغريق والطرواديين . والأوديسا( Odússeia) Odesey   منسوبة لهوميروس أيضا ، وهي ملحمة شعرية في 24 نشيدا كالإلياذة ، ولكنها تروي قصة عودة أحد أبطال الإلياذة ووفاء زوجته له طول مدة غيابه عنها .
[2] المقصود بالبرق : التلغراف .
*ياسين الشيخ سليمان
28 - سبتمبر - 2008
الأدب العربي بين أمسه وغده 3    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
    من أجل هذا كله تساءل المعاصرون عن اشياء كثيرة ، من بينها مستقبل الحياة الأدبية وما عسى أن تكون الاتجاهات التي سيدفع إليها بحكم هذه الأحداث الجسام التي خلطت الشرق بالغرب والشمال بالجنوب وقاربت بين الأجيال المتباعدة ، والغت هذه الحواجز التي كانت تحجز بين الأمم والشعوب ، وغيرت كثيراً من صور الأشياء ، ثم غيرت كثيراً من قيم الأشياء ثم غيرت كثيراً من تأثرنا بهذه الصور وتقديرنا لهذه القيم وحكمنا بعد ذلك على ما هو كائن ، وترقبنا بعد ذلك لما سيكون فأما المقتصدون من الأدباء الاوروبيين فيشكون كما شك ذلك الأديب الذي أشرت إليه آنفاً ، أو يحتاطون في الحكم ويعتدلون في التقدير ويحسبون حساباً لهذه الأشياء اليسيرة الضئيلة التي لا نعرفها والتي قد يكون لها أثر في حياتنا العاملة ثم في حياتنا العاقلة . وليس من شك في أننا قد علمنا أشياء كثيرة ، ولكن ليس من شك في أننا لم نؤت من العلم إلا قليلاً، وفي أن مانجهله أكثر جداً مما نعمله ،وليس من شك كذلك في أننا قد حققنا من الرقي شيئاً كثيراً في حياتنا العاملة والعاقلة، ولكن ليس من شك في أن ما حققناه من ذلك ضئيل جداً بالقياس إلى ما ينتظر أن نحققه .
 وهذا الذي ينتظر أن نحققه قد يفاجئنا بعضها مفاجأة وعلى غير انتظار،وقد يتهيأ لنا بعضه عن أناة وريث وبعد سعي وجد واستعداد، فإذا كانت طبيعتنا تدفعنا إلى الغرور والمغامرة فإن عقلنا ينبغي أن يضبط هذا الغرور ويحد هذه المغامرة ، ويأخذنا بشيء من التوسط في القول والعمل جميعاً، فليس من المستحيل أن نحاول التنبؤ بما سيكون عن مستقبل الحياة الأدبية ،ولكن ليس من الصواب أن نندفع في ذلك جامحين في غير تحفظ ولا احتياط .
  وربما كان من اصطناع الدقة والحذر أن أسجل منذ الآن أني لم أتنبأ بشيء ، لأني لا أملك الوسائل التي تبيح لي هذا التنبؤ، وإنما أحاول أن أنظر إلى أدبنا العربي المعاصر نظرة عامة أتتبع فيها بعض حقائق تطوره في العصور الماضية وأتوسم فيها بعض الممكنات لتطوره في هذه الأيام المستقبلة . فأنا أنظر إلى أدبنا العربي بين أمسه القريب والبعيد، وبين غده القريب دون البعيد. وما أزعم لهذه المحاولة إحاطة ولا شمولاً ، وإنما هي محاولة مقاربة تتجنب الإمعان والتعمق ، لأن الإمعان والتعمق يحتاجان إلى كتاب لا إلى فصل مهما يكن هذا الفصل طويلاً .
   وفي تاريخ أدبنا العربي ظاهرة لعله أن يشارك فيها غيره من الآداب الكبرى قديمها وحديثها، ولكنها تستبين فيه على نحو أوضح وأجلى مما تستبين في غيره من الآداب، فقد عمر الأدب اليوناني القديم قروناً طوالاً ثم ألقى بينه وبين الناس ستاراً، فلما استأنفت الأمة اليونانية الحديثة حياتها المعاصرة أنشأت لنفسها أدباً مهما تكن الصلة بينه وبين الأدب القديم فهو ليس جزءاً منه ولا استمراراً له . فالأدب اليوناني القديم إذن حي بنفسه ، أريد أنه لايستمد حياته من أمة حية ، تنمية وتقوية وتضيف إليه، وإنما يستمد حياته من هذه الشخصية القوية التي وهبها له اليونان القدماء، فنحن حين نقرأ آثار هوميروس أو بندار[1] أو أفلاطون لانفكر في الأمة اليونانية المعاصرة ولا نصل هذه الآثار القديمة الخالدة بما تنتجه من الشعر والنثر،وإنما نقرأ هذه الآثار وغيرها ونفكر في الأمة اليونانية القديمة التي أنتجتها،ونوشك أن نعتقد أن الصلة بيننا وبين هذا الأدب القديم والأجيال التي أبدعته ليست أضعف من الصلة بين الأمة اليونانية المعاصرة وبين ذلك الأدب وتلك الأجيال . وربما كان من المحقق أن بعض البيئات الأدبية والفنية في غرب أوروبا وفي فرنسا خاصة أشد اتصالاً بالأمة اليونانية القديمة وتراثها الأدبي والفني والفلسفي من الأمة اليونانية المعاصرة نفسها. فلست أعرف مثلاً أن الأمة اليونانية الحديثة قد أهدت إلى العالم الحديث شاعراً كراسين[2] أو كاتباً كجيرودو[3] أو شاعراً كاتباً كبول فاليري[4] . وكل هؤلاء وغيرهم من أدباء الغرب الحديث يعيشون مع الأمة اليونانية القديمة ويذوقون أدبها وفنها وفلسفتها، ويحيون هذا الأدب والفن وهذه الفلسفة على نحو لم تصل إليه الأمة اليونانية الحديثة بعد . ومثل هذا يمكن أن يقال بالقياس إلى الأدب اللاتيني . فهذان الأدبان العظيمان يستمدان حياتهما الخالدة من قوتهما الذاتية، إن صح هذا التعبير . وهذه الخصلة هي التي تميزهما بين الآداب التي استطاعت أن تقهر الدهر وتكفل لنفسها الخلود.

[1]  pindar  أحد أهم شعراء الإغريق (القرن الخامس قبل الميلاد) . له أشعار قصصية غنائية .
[2] جان راسين أشهر شاعر كلاسيكي فرنسي ، عاصر لويس الرابع عشر وكان الشاعر الرسمي للملك . نشأ فقيرا وتربى تربية دينية ثم اشتهر واغتنى وانهمك في حب السلطة ، وبعد ذلك تزهد وعاد إلى الدين في أواخر عمره .
 Jean Giraudoux   [3] أديب وكاتب مسرحي فرنسي شهير(1882- 1944) .
[4] Paul Valery أديب وشاعر فرنسي شهير (1871- 1945).
*ياسين الشيخ سليمان
28 - سبتمبر - 2008
الأدب العربي بين أمسه وغده 4    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
    أما أدبنا العربي فقد عمر بضعة عشر قرناً إلى الآن، واختلفت عليه في أثناء هذه القرون خطوب كثيرة متباينة وجهته ألواناً من التوجيه وأخضعته لضروب من التطور، ولكنه مازال حياً قوياً يستمد حياته وقوته من شخصيته العظيمة، ويستمد حياته وقوته من هذه الأجيال التي لاتزال حية محتفظة بفضل من قوة، والتي لاتزال ترعاه وتكلؤه وتنفخ فيه من روحها كما تستمد منه قوة وأيداً فهي تمنحه وتأخذ منه ، وهي تعيش عليه وتعيش له وتعيش به، شأنها معه كشأنها مع مايقوم حياتها المادية من الأرض والجبال والأنهار . فالحياة الزمنية للأدب العربي لم تنقطع ، ويظهر أنها لن تنقطع ، والصلة بينه وبين الأجيال المعاصرة في بلاد الشرق العربي من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلنطي وفي بيئات عربية متفرقة هنا وهناك في أقطار العالم القديم والعالم الجديد ـ هذه الصلة مازالت قائمة متينة خصبة،كالصلة التي كانت بين الأدب العربي وبين الأمة العربية أيام المتنبي وأبي العلاء . ونتيجة هذا كله أن في تاريخ أدبنا العربي ظاهرة قوية بينة شديدة الوضوح، تمكننا من أن نلاحظها ملاحظة مباشرة ، ونستقصي أطوارها استقصاء حسناً . فنحن نستطيع أن نبدأ هذه الملاحظة منذ أواخر العصر الجاهلي ، وأن نساير الأدب في هذه الطرق الطويلة العسيرة المتنوعة الملتوية التي قطعها مسرعاً مرة مستأنياً مرة أخرى متثاقلاً مرة ثالثة أثناء هذه القرون الطويلة، حتى انتهى إلينا مثقلاً بهذا التراث العظيم المختلف المتباين، الذي يشتد بين أجزائه وعناصره التباين والاختلاف .
    ونحن نستطيع أن نبدأ هذه الملاحظة من أنفسنا في هذا العصر الذي نعيش فيه، وأن نساير الأدب العربي مصعدين معه في التاريخ كأنما نعود أدراجنا ، سالكين معه نفس هذه الطرق ، متبينين فيه هذا التراث الذي تختلف أجزاؤه وتتباين عناصره ، حتى نبلغ أول الإسلام وآخر الجاهلية ، ونحن لا نخشى أن تنقطع بنا الطريق في الزمان والمكان أثناء مسايرتنا لأدبنا العربي سواء أبدأنا مع تاريخه حين يبدأ في الزمن القديم ، أم بدأنا مع تاريخه من النقطة التي ينتهي إليها في عصرنا الحديث .
   فالظاهرة التي يمتاز بها أدبنا والتي تمكننا من درسه وتتبع أطواره، هي أنه قديم جداً وحديث جداً قد اتصل قديمه بحديثه اتصالاً مستقيماً لا انقطاع فيه ولا التواء، ففيه خصائص الآداب القديمة، وفيه خصائص الآداب الحديثة، وفيه ما يمكننا من استخلاص حديثه من قديمه، وما يغنينا عن كثير من الفروض .
    أدبنا العربي كائن حي، أشبه شيء بالشجرة العظيمة التي ثبتت جذورها وامتدت في أعماق الأرض، والتي ارتفعت غصونها وانتشرت في أجواء السماء، والتي مضت عليها القرون والقرون ومازال ماء الحياة فيها غزيراً يجري في أصلها الثابت في الأرض وفي فروعها الشاهقة في السماء .
    فلنتتبع هذا الأدب تتبعاً يسيراً مقارباً، لنرى كيف تطور في أول عهده، ولنتبين كيف يمكن أن يتطور فيما يستقبل من الأيام .
    وأخص ما نلاحظه في حياة أدبنا العربي منذ أقدم عصوره أنه يتألف من عنصرين خطيرين لايحتاج استكشافهما إلى جهد أو عناء.أحدهما داخلي يأتيه من نفسه ومن طبيعة الأمة التي انتجته. والآخر خارجي يأتيه من الشعوب التي اتصلت بالعرب أو اتصل العرب بها، ويأتيه من الظروف الكثيرة المختلفة التي أحاطت بحياة المسلمين وأثرت فيها على مر العصور. ولنتفق على أن نسمي هذين العنصرين: التقليد ، والتجديد .
 فأدبنا العربي تقليدي ليس في ذلك شك، له طابعه العربي البدوي القديم لم يخلص منه قط ، ولن يستطيع أن يخلص منه آخر الدهر على رغم مابذل الأدباء وماسيبذلون من الجهود الهائلة المضنية. مذهبنا في تصور الأشياء وتقديرنا في أنفسنا قد يختلف باختلاف العصور والأقطار والظروف، ولكن مذهبنا في تصوير هذه الأشياء مهما يختلف فسينتهي دائماً عند طائفة من الأصول التقليدية لاسبيل إلى التحول عنها ؛ لأن التحول عنها قتل لهذا الأدب وقطع للصلة بينه وبين العصر الحديث وانحراف به عن طريق الحياة المتصلة التي تسلكها الآداب الحية، إلى طريق الحياة المنقطعة التي سلكها الأدب اليوناني والأدب اللاتيني . وقل ما شئت في تعليل الاحتفاظ بهذه الأصول القديمة وإخفاق المحاولات التي همت أن تعدل عنها أو أن تغيرها.
فأنا لاأبحث الآن عن العلل والأسباب،وإنما أسجل الظواهر الواقعة تسجيلاً.لتكن طبيعة اللغة العربية هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول، وليكن القرآن الكريم هو الذي اقتضى ثبات هذه الأصول، ولتكن المحافظة التي يمتاز به الجيل العربي بين الأجيال هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول، ولتكن هذه الأسباب كلها مضافة إلى أسباب أخرى هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول .كل ذلك ممكن ، ولكن الشيء المحقق هو أن الأدب العربي محتفظ بطائفة من الأصول التقليدية لايستطيع أن ينزل عنها أو يبرأ منها .
*ياسين الشيخ سليمان
28 - سبتمبر - 2008
الأدب العربي بين أمسه وغده 5    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
    فلغته المعربة الفصحى مقوم أساسي من مقوماته ، أو هي المقوم الأساسي الأول بين مقوماته، وقد انحرف كثير من الناس في العصور القديمة وفي هذا العصر الحديث من هذه اللغة المعربة الفصحى، فأنتجوا آثاراً فيها لذة وفيها متعة ولكننا لم نعدها أدباً ، ولم نرفعها إلى هذه المرتبة التي نضع فيها هذه الآثار الرائعة والتي نستمد منها غذاء القلوب والعقول والأرواح . وربما كان مما يفسر ذلك ويؤيده أن أدبناالعربي لايهمل الأسماع إهمالاً قليلاً  أو كثيراً ، وإنما يعنى بها أشد العناية، فهو أدب منطوق مسموع قبل أن يكون أدباً مكتوباً مقروءاً وهو من أجل هذا حريص على أن يلذ اللسان حين ينطق به، ويلذ الأذن حين تسمع له، ثم يلذ بعد ذلك النفوس والأفئدة حين تصغي إليه .
   وليس أدل على ذلك من أن العرب في جميع عصورهم لم يعنوا بشيء قط عنايتهم بفصاحة اللفظ وجزالته، ورقيق الأسلوب ورصانته . وقد جعلوا الإعراب واصطفاء اللفظ والملاءمة بين الكلمة والكلمة في الجرس الذي ييسر على اللسان نطقه ويزين في الأدب وقعه أساساً لكل هذه الخصال .
ثم من أصولنا التقليدية في الأدب عمود الشعر، هذا الذي لم يستطع القدماء تحديده ولكنهم حرصوا على أشد الحرص، وهذا الذي لم يستطع أحد من شعرائنا أن ينحرف عنه في حقيقة الأمر مهما يُقَل في مسلم ودعبل وأبي تمام والمتنبي وغيرهم من أصحاب التكلف والتصنع والبديع، فهؤلاء وأمثالهم قد هموا أن يجددوا وجددوا بالفعل في كثير من الأشياء، ولكنهم احتفظوا دائماً ، بفصاحة اللغة وجزالتها، وبرونق الأسلوب ورصانته كما احتفظوا بالأوزان القديمة، فلما جددوا لم يبتكروا إلا أوزاناً يمكن أن ترد إلى الأوزان القديمة على نحو من الأنحاء . ثم لم يستطيعوا على كثرة ماعابوا القدماء وحاولوا الانحراف عن مذاهبهم أن يبرئوا نفوسهم وقلوبهم وفنهم من هذا الحنين الذي فرضته البادية علي شعرائها البادين . وقد كان أبونواس من أشد الناس عيباً للقدماء من الشعراء ومحاولة للانحراف عن مذهبهم في ذكر الأطلال والرسوم، ولكنه ذكر الأطلال والرسوم أولاً، كما ذكرها غيره من الشعراء القدماء ، وحنّ حين حاول التجديد إلى مغاني اللهو والعبث كما كان الاعرابي القديم يحن إلى ديار هند وأسماء. فالحنين قائم عابث بنفس الشاعر وقلبه منبث في فنه كما ينبث الماء في الغصن وإن تغيرت المظاهر والألفاظ. وقد أنكر أبونواس كما أنكر غيره وصف الطرق والإبل؛ ولكن أبا نواس قد وصف الطرق والإبل كما وصفها غيره من المحافظين والمجددين جميعاً[1] . وقد هم ّ الشعراء المجددون أن يتنكبوا ما ألف القدماء من صدق الشعور وإيثار القصد في التعبير واجتناب الإمعان في المبالغة فتكلفوا وبالغوا. ولكن تكلفهم يرد آخر الأمر وعند أيسر التحليل إلى سذاجة القدماء ، كما أن مبالغتهم ترد إلى قصد القدماء واعتدالهم، أو تصبح مصدراً للسخر والاستهزاء .
وقد حاول الموشحون في الغرب أن يحطموا الإطار القديم الذي كان يحيط بالقصيدة، فيزاوجوا بين أوزان وأوزان ، ويخالفوا بين قواف وقواف. ولكن فنهم لم يستطعه أن يعمر طويلاً، ففني في الزجل ، وأصبح لوناً من ألوان الأدب العامي الذي نبتذله مخطئين أو مصيبين .
    فهناك إذن أصول تقليدية في أدبنا العربي قد أشرت إلى بعضها في الشعر ولم أستقصها، وقد استطاعت هذه الأصول أن تغلب الحوادث والخطوب وألوان التطور والانقلاب وتسيطر على شعر المعاصرين في الأقطار العربية كلها. وقد يحاول الشعراء هنا أو هناك شيئاً من التجديد، فلا يُنجحون إنجاحاً صحيحاً إلا إذا استبقوا هذه الأصول التقليدية ولم يبعدوا عنها إلا بمقدار. والنثر مع أنه استحدث بعد ظهور الإسلام وبعد تلاوة القرآن وبعد حدوث الأحداث الجسام، قد اتخذ لنفسه أصولاً تقليدية تقارب أصول الشعر ، فحرص على اللغة المعربة، وعلى الفصاحة والجزالة، وعلى الرونق والرصانة، واستبقى مسحة بدوية تشيع في أثنائه فتسبغ عليه جمالاً ساذجاً لايخلو من روعة وجلال.


[1]  لأبي نواس في ذكر الديار والأطلال  والرسوم أشعار أنقل بعضا منها من الموسوعة الشعرية الظبيانية في إصدارها الثالث :
حَيِّ الدِيارَ إِذِ الزَمانُ زَمانُ       وَإِذِ الشِباكُ لَنا خَوىً وَمَعانُ
يا حَبَّذا سَفوانُ مِن مُتَرَبَّعٍ       وَلَرُبَّما جَمَعَ الهَوى سَفوانُ
وَإِذا مَرَرتَ عَلى الدِيارِ مُسَلِّماً       فَلِغَيرِ دارِ أُمَيمَةَ الهِجرانُ
وله :
بِصَوتِ أَخي الحِجازِ فَهاجَ شَوقي       لِمَن طَلَلٌ بِرامَةَ لا يَريمُ
وله ايضا :
لِمَن طَلَلٌ عاري المَحَلَّ دَفينُ       عَفا آيُهُ إِلّا خَوالِدُ جونُ
كَما اِقتَرَنَت عِندَ المَبيتِ حَمائِمٌ       غَريباتُ مُمسىً ما لَهُنَّ وُكونُ
دِيارُ الَّتي أَمّا جَنى رَشَفاتِها       فَيَحلو وَأَمّا مَسُّها فَيَلينُ
وله كذلك :
لِمَن طَلَلٌ لَم أُشجِهِ وَشَجاني       وَهاجَ الهَوى أَو هاجَهُ لِأَلوانِ
*ياسين الشيخ سليمان
29 - سبتمبر - 2008
الأدب العربي بين أمسه وغده 6    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
   ومع أن كثيراً من فحول النثر قد كانوا متأثرين بالثقافات الأجنبية أو منحدرين من أصول أجنبية ، فقد حرص النثر على أصوله التقليدية حرصاً شديداً، واستمد أكثر هذه الأصول من الشعر الذي اتخذه لنفسه إماماً أول الأمر ثم نافسه وغالبه بعد ذلك. وقد تكلف الكتاب كما تكلف الشعراء ، واستعاروا من الشعراء بديعهم وتصنعهم، ولكنهم خضعوا لمثل ما خضع له الشعراء من الاختيار بين التجديد المقتصد والإسراف الذي ينتهي بهم إلى السخف والازدراء. وأمر النثر في العصر الحديث كأمر الشعر من هذه الناحية ؛ فكما أنك لاتسمع قصيدة ولاتقرؤها إلا رجعت بها إلى أصولها التقليدية الأولى وإلى الإطار التقليدي الذي يحيط بها ويمكنها من الثبات والاستقرار ومن الجريان على الألسنة وحسن الموقع في الأسماع والقلوب، فأنت لاتقرأ كتاباً ولا فصلاً إلا رجعت بما تقرأ إلى الأصول التقليدية القديمة وذكرت هذا الكتاب أو ذاك من كتاب العصر القديم .
   مازال الأصل في الكتابة كالأصل في الشعر: تخير اللفظ الفصيح الرصين الجزل، للمعنى الصحيح المصيب ، والملائمة بين اللفظ واللفظ وبين المعنى والمعنى في كل مايكون هذا الانسجام الخاص الذي يستقيم له الشعر والنثر في لغتنا العربية الفصحى ، مع الحرص كل الحرص على الإعراب ، والإيثار كل الإيثار للألفاظ الصحيحة التي تقرها معاجم اللغة المعروفة وحدها إن كان الكاتب محافظاً غالياً في المحافظة ، أو التي جاءت في قصائد الشعراء ورسائل الكتاب وإن لم ترد في المعجمات إن كان الأديب سمحاً معتدلا . وقد يجترئ الكاتب فيستعير من لغة الشعب أو من لغة العلم الحديث أو من بعض اللغات الأجنبية كلمة أو كلمات إن كان من المجددين الغلاة في التجديد . وقد يبلغ بهذا اللغو أقصاه ، فينحرف بأسلوبه نحو العامية المبتذلة بعض الانحراف ، أو نحو مذهب من مذاهب الأوروبيين في القول . ولكنه على ذلك كله متحفظ محتاط لايخرج بالعربية عن أصولها ، وإنما يريد أن يغنيها وينميها ويعرف ما يضيفه إليها من الألفاظ والأساليب.
فالعناصر التقليدية في أدبنا إذن قوية شديدة القوة ، مستقرة ممعنة في الاستقرار مستمرة على الزمن، وهي التي ضمنت بقاء الأدب العربي هذه القرون الطوال ، وهي التي ستضمن بقاءه ما شاء الله أن يبقى . ولكن هناك عناصر أخرى توازن هذه العناصر التقليدية وهي التي سميتها آنفاً عناصر التجديد . وهذه العناصر التجديدية هي التي منعت الأدب العربي من الجمود ، ولاءمت بينه وبين العصور والبيئات ، وعصمته من الجدب والعقم والإعدام، ومكنته من أن يصور الأجيال المختلفة التي اتخذته لها لساناً ويتيح لها أن تعبر فيه عن ذات نفسها .
   فأدبنا العربي كغيره من الآداب الحية ، بل كغيره من كل الظواهر الاجتماعية ، مكون من هذين العنصرين اللذين كان " أوجست كونت "[1] يسمي أحدهما ثباتا واستقرارا ، ويسمي ثانيهما تحولا وانتقالا . والذي يمتاز به أدبنا العربي من الآداب الحية الأخرى هو أن التوازن لم ينقطع بين هذين العنصرين ، ولم ينشأ عن انقطاعه جمود الأدب وتفرقه بتغلب عنصر التحول والتطور . وليس هناك من شك في أن أحد هذين العنصرين قد تفوق على صاحبه بين حين وحين في القوة ، فكان الأدب في بعض العصور مسرعا إلى التطور ممعنا فيه ، وكان في بعضها الآخر مؤثرا للثبات حريصا عليه . فقد تفوق عنصر التطور بعد ظهور الإسلام بنحو نصف قرن ، حين نشأ الجيل الجديد من العرب ، واتصل بالأمم الأجنبية منتقلا إليها ومستقرا في أرضها غازيا أو مرابطا أو عاملا في مصالح الدولة أو مستعمرا . وانتقلت هي إليه في عقر داره في الحجاز ونجد ، سبيا وموالي ، تعمل له وتقوم على خدمته وتعلمه من شؤون الحضارة والثقافة ما لم يكن يعلم . في هذا الوقت دفع العرب إلى حياة جديدة في كل شيء . ولم يكن الأدب بطيئا في الاستجابة لهذا التجديد ، فتطور الشعر في ألفاظه وأوزانه وأساليبه وفي معانيه وموضوعاته ، ونشأت فيه فنون لم تكن من قبل ، واستحدث النثر خطبا مطولة وقصصا مفصلة ، ورسائل موجزة مجملة . ثم كثرت أحداث السياسة ؛ فتطورت النفس العربية بدوافع جاءتها من داخل ، واشتد الاتصال بين الأمم الإسلامية فتطورت النفس العربية ونفوس الأمم الأخرى المستعربة بدوافع جاءتها من خارج . ثم قوي الاتصال ، فلم يقصر على المجاورة والمعاشرة والمعاملة والتعاون على شؤون الحياة المادية ، وإنما قرأ العرب ما كان عند غيرهم ، وقرأ المستعربون ما كان عند العرب ، ونشأ عن قراءة أولئك وهؤلاء هذا التطور الخطير الذي تمتاز به العصور العباسية في القرن الثاني والثالث والرابع .
   ولست محتاجا إلى أن أفصل هذا التطور أو  أطيل القول فيه فإن دقائقه معروفة تدرس للشباب في الجامعة وللتلاميذ في المدارس الثانوية ، وإنما ألاحظ أن من أهم الأسباب التي دفعت إلى هذا التطور الاتصال الدقيق المستمر بين الثقافة العربية الموروثة من جهة وبين ثقافات الأمم المغلوبة المستعربة من جهة أخرى . فقد اتصلت ثقافة الهند والفرس واليونان والأمم السامية وبعض الأمم المتأثرة بالثقافة اللاتينية في أسبانيا ـ اتصلت كل هذه الثقافات اتصالا يختلف قوة وضعفا ويتفاوت سعة وضيقا ويتمايز سرعة وبطئا . ونتج عن هذا الاتصال هذا الأدب العربي المختلف والمعقد والذي تجاوز الشعر والخطابة والرسائل إلى فنون من العلم والفلسفة وألوان من المعرفة تشبه ما كان العالم يعيش عليه في القارات الثلاث بين حروب الاسكندر وقيام الدولة العربية . فالدولة الإسلامية لم ترث سياسة اليونان والفرس وحدها ، وإنما ورثت حضارتهم أيضا ، وورثت معها ما كان عند هذه الأمم من ثقافات متباينة ، نقلتها كلها إلى اللغة العربية ، وصبتها كلها في القالب العربي ، بحيث يمكن أن يقال إن الحضارة الإنسانية التي كان يغلب عليها الطابع اليوناني قد غلب عليها الطابع العربي في القرون الأربعة الأولى من الهجرة . ثم حدثت الأحداث وتتابعت الخطوب ، وأقبل المغيرون من الغرب يحملون الصليب ، وأقبل المغيرون من الشرق يحملون الجهل والوحشية، وتأثر العقل العربي الإسلامي بهذه الأحداث ، فلم يمت ولكنه اضطر إلى شيء من الوقوف ، وتفوَّق عنصر الثبات والاستقرار على عنصر التحول والتطور . ومهما يكن من شيء فقد دفع الأدب العربي إلى التطور في القرون الأربعة الأولى بحكم الاتصال اليسير بين الأمم أولا ثم الاتصال الدقيق المنظم بينها ثانيا .
 
 


[1]  Ogust kont, ( 1798-1857) " عالم اجتماع وفيلسوف اجتماعي فرنسي أنشأ مذهب الوضعية ، وهو مذهب فلسفي يقول بأن المعرفة تعتمد على التجربة والملاحظة والخبرة ، ولا تعتمد على الميتافيزيقا .
*ياسين الشيخ سليمان
29 - سبتمبر - 2008
الأدب العربي بين أمسه وغده 7    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
   والآن وقد انتهى عصر الوقوف والركود واستؤنف الاتصال بين العالم العربي والعالم الأوربي في أواخر القرن الثامن عشر وقوي واشتد في القرن التاسع عشر ، ثم دق ونظم في هذا القرن الذي نعيش فيه ، ثم ألغيت المسافات الزمانية والمكانية فأصبح الاتصال في كل يوم بل في كل لحظة ظاهرة من الظواهر الطبيعية للحياة المألوفة . الآن وقد كان كل هذا ، ماذا حدث للأدب العربي وماذا يمكن أن يحدث؟ أما الذي حدث فمعروف يقرؤه الناس في الكتب ، ويدرسه التلاميذ في المدارس . وأظهره ما كان من الرجوع إلى الأدب القديم ، وإحيائه بالنشر والإذاعة أولا ، ثم بالتقليد والمحاكاة ثانيا ، وما كان من تعلم بعض اللغات الأجنبية وقراءة ما ينتج فيها من الآثار ، وترجمة بعض هذه الآثار إلى اللغة العربية في غير نظام ولا اطراد ، وما كان آخر الأمر من الإعراض عن الحضارة المادية القديمة والإقبال على الحضارة المادية الحديثة ، واستعارة النظم السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية والقضائية من اوربا ، ثم العدول عن العلم الموروث ومناهج تعليمه ، إلى العلم الحي الحديث ومناهج تعليمه الحية المستحدثة ، وإقرار هذا كله في المدارس والمعاهد ، التي أخذت تكثر وتنتشر في البلاد العربية كلها وفي مصر منها بنوع خاص .
   كل هذا قد غير كثيرا من خصائص النفس العربية ، واضطرها إلى أنحاء من التصور والتصوير لم تكن مألوفة من قبل ، وأخذ عنصر التطور يعمل من جديد ، ولكنه كان تطورا رائعا حقَّا . كان تطورا يسعى في طريقين متعاكستين أشد التعاكس وأقواه . وليس أدل من هذا التطور على قوة الأدب العربي وقدرته على المقاومة ، واستعداده للتغلب على المصاعب والنفوذ من الخطوب . فقد كان إحياء الأدب القديم يدفع العقل العربي الحديث إلى وراء ويقوي فيه عنصر الثبات والاستقرار ، كما كان الاتصال بالأدب بالأدب الأوربي الحديث يدفع الأدب العربي إلى أمام ، ويقوي فيه عنصر التطور والانتقال . والغريب أن العقل العربي الحديث قد ثبت لهذا التعاكس العنيف وانتفع به أشد انتفاع . وكان يخشى في أواسط القرن الماضي وفي أول هذا القرن أن يتم التقاطع بين الاتجاهين ، فيذهب فريق من المتأدبين إلى وراء من غير رجعة ، ويذهب فريق منهم إلى أمام من غير أناة ، ويضيع الأدب العربي بين هاتين الطريقين المتعاكستين ؛ ولكن الأدب ثبت لهذه المحنة واستفاد منها ، كما تثبت الشجرة العظيمة التي أشرت إليها آنفا للعواصف المتناثرة المتدابرة . وليس من شك في أن هذا التعاكس قد كان له صرعى ، فجمد بعض المتأدبين وأسرفوا في الجمود ، ولكنهم قضوا ولم يُعْدوا بجمودهم أحدا ؛ وغلا بعض المجددين من الذين هاجروا إلى أمريكا من سوريا ولبنان ، ولكن غلوهم لم يلبث أن رُدَّ إلى الاعتدال والقصد . والشيء المهم أن الأدب العربي في الشرق الأدنى وفي مصر خاصة قد استقامت له طريقة تحقق فيها التوازن الصحيح بين القديم والجديد ، على نحو ما تحقق في العراق وفي الشام ومصر أيام التطور الذي حدث في القرون الأربعة الأولى ، فاحتفظ بأصوله التقليدية الأساسية ولم يستعص على التطور ، وإنما قبل من الثقافات الأجنبية الحديثة مثل ما قبل من الثقافات الأجنبية أيام العباسيين ، واستحدث من الفنون ما يلائم العصر الحديث كما استحدث من الفنون ما كان يلائم عصر العباسيين . وأول مظهر لهذا هو أن العلم الحديث نفسه قد اتخذ من اللغة العربية لسانا ، وعرض كثيرا من فروعه نفسها في لغة عربية واضحة كما يعرض في اللغات الأجنبية المختلفة . ثم استقر في البلاد العربية ، يدرس في معاهدها ومدارسها باللغة العربية حينا ، وباللغات الأجنبيةحينا آخر . يذهب العرب لطلبه في اوربا وأمريكا ، ويحمله الأوربيون والأمريكيون إلى العرب في بلادهم . وهنا يظهر الفرق الخطير بين الاتصال العربي القديم بالثقافات الأجنبية القديمة ، والاتصال العربي الحديث بالثقافات الأجنبية الحديثة . فقد كان الاتصال القديم ضيقا أشد الضيق ، محدودا لا يكاد ينهض به إلا أفراد يمكن إحصاؤهم . وقد استطاعت كتب التاريخ أن تحفظ أسماء الذين نقلوا إلى العرب ثقافات الهند والفرس واليونان ، وأسماء الذين أساغوا هذه الثقافات وتمثلوها وأذاعوها في فنون الأدب العربي المختلفة . أما في العصر الحديث فليس من سبيل إلى إحصاء الذين يتعلمون اللغات الأجنبية ويعلمونها ، وينقلون منها بالشفاه حينا وبالترجمة حينا آخر . فانتشار العناية بتعلم اللغات الأجنبية خصلة يمتاز بها العصر الحديث . وما نعرف أن العرب في بغداد أو غيرها من الأمصار الإسلامية أنشئوا مدارس لتعلم اليونانية والفارسية أو أرسلوا بعثات منظمة مستمرة إلى بلاد الهند والروم .
   وخصلة أخرى يمتاز بها الاتصال الحديث من الاتصال القديم ، وهي أن الاتصال القديم لم يكن مباشرا في أكثر الأحيان ، وإنما كان يتم بالواسطة ، فالذين كانوا ينقلون من اليونانية إلى العربية مباشرة كانوا أقل من القليل ، وإنما كان النقل من اليونانية إلى السريانية ، ثم من السريانية إلى العربية . ومن هنا وقع كثير من الخطأ والخلط والاضطراب في النقل . ومن هنا صُرف بعض المذاهب الفلسفية اليونانية عن موضعه ، وأضيف بعضها إلى غير أصحابه ، وظهر شيء من الاضطراب في تاريخ الفلسفة الإسلامية وفي الصلة بينها وبين الفلسفة اليونانية . أما الاتصال في العصر الحديث فمباشر قلما يتم بالواسطة ، فالذين يترجمون من الإنجليزية والفرنسية يحسنون هاتين اللغتين ويحسنون اللغة العربية أيضا ، فينقلون عن فهم وبصيرة وفي كثير من الدقة والإتقان . وقد يوجد النقل بالواسطة بالقياس إلى بعض اللغات التي لم ينتشر درسها في الشرق العربي ؛ فقد ينقل الأدب الفرنسي من طريق الفرنسية والإنجليزية ، وقد ينقل الأدب الألماني كذلك من طريق هاتين اللغتين ، ولكن القراء ينظرون إلى هذا النقل في كثير من التحفظ والاحتياط ويقبلونه على أنه ضرورة موقوتة ستزول حين يشيع درس اللغات الكبرى على اختلافها . والنقل بالواسطة عندنا أدق وأصح وأدنى إلى الإتقان من النقل بالواسطة من العصر القديم ؛ فالذين ينقلون كتابا ألمانياًّ من طريق الفرنسية مثلا يضاهون بين ترجمتهم وبين الترجمة الإنجليزية ليتحققوا من أن نقلهم مقارب يمكن أن يساغ . ولم يكن شيء من هذا ممكنا في العصر القديم . ولعلها تكون أجلّ خطرا من الخصال الأخرى ؛ فقد كان القدماء يتصلون بثقافات أجنبية قليلة محدودة ، وكان اتصالهم بها بطيئا ضيقا قليل الإتقان . كانوا يتصلون بثقافة الهند وهي ضئيلة ، وكانوا يتصلون بثقافة الفرس وهي ضئيلة أيضا ، وكانوا يتصلون بالثقافة اليونانية العظيمة الواسعة المختلفة ، ولكن اتصالهم نفسه كان ضئيلا ؛ فهم قد عرفوا الطب والعلم على اختلافه ، وهم قد عرفوا الأخلاق وما بعد الطبيعة ، ولكنهم لم يعرفوا الأدب ولم يعرفوا الفن ، ولم يكادوا يعرفون من السياسة شيئا . أما الآن فنحن نتصل من طريق مباشرة وغير مباشرة بثقافات لا تكاد تحصى .
*ياسين الشيخ سليمان
29 - سبتمبر - 2008
الأدب العربي بين أمسه وغده 8    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
وأيسر ما يمكن أن يقال هو أننا نتصل بالثقافة الإنجليزية والأمريكية والفرنسية والألمانية والروسية ، وقد نتصل بالثقافة الإسبانية والإيطالية ، وقد نقرأ كتبا تنقل إلينا من بلاد اوربا الشمالية ، وأخرى من بلاد أمريكا الجنوبية . وما أكثر ما نقرأ عن بلاد الشرق الأقصى ، وما أكثر ما نقرأ عن بلاد أخرى لم تتحضر بعد ، ولكن الأوربيين قد زاروها واستعمروها وكتبوا عنها ونقلوا إلينا كثيرا من أنبائها . ثم إن ثقافتنا لا تتصل بالثقافات الأجنبية من طريق المكان وحده ، ولكنها تتصل بها من طريق الزمان أيضا . فقد استكشف كثير من تاريخ الأمم ، وعرض علينا في اللغات المختلفة ؛ فنحن نعرف من تاريخ المصريين القدماء أكثر مما كان المصريون القدماء أنفسهم يعرفون من تاريخهم . وليس من شك في أن علمنا بتاريخ المصريين القدماء الآن ، أدق وأعمق وأوسع من علم المصريين في أيام البطالسة بهذا التاريخ . وقل مثل ذلك عن تاريخ اليونان والرومان ، وقل مثله عن تاريخ الفرس والهند ، وماشئت من أقطار الأرض المتحضرة . فلا غرابة إذن في أن هذه الأبواب التي فتحت لنا على مصاريعها ، ونفذت إلينا منها الثقافات الأجنبية المختلفة ، تباعد بيننا وبين ما عرف العرب القدماء من حياة الأمم الأخرى .
وقد استطاع أبو العلاء أن يقول :
                 
ما مر في هذه الدنيا بنو زمن إلا وعندي من أنبائهم iiطرف
   ولو قد نُشر أبو العلاء الآن لعرف أن الأطراف التي كانت عنده ، لم تكن شيئا مذكورا بالقياس إلى الأطراف التي نأخذ نحن بها الآن . ومن المحقق أن الإنسانية ستقيس علمها في آخر هذا القرن ، إلى علمنا نحن في هذه الأيام ، فترثي لنا وتشفق علينا كما نرثي نحن لأبي العلاء ونشفق عليه . ومهما يكن من شيء فإن الفروق التي أشرت إلى بعضها ، بين اتصال الأدب العربي القديم بالثقافات الأجنبية القديمة ، واتصال الأدب العربي الحديث بالثقافات الجنبية الحديثة ، خليقة أن تنشيء فروقا خطيرة بين الأدبين في أنفسهما . وإذا كانت هذه الفروق لم تظهر واضحة جلية أثناء القرن الماضي ، فإنها قد أخذت تظهر شيئا فشيئا أثناء هذا القرن الذي نعيش فيه . ولست أدري أين قرأت لبعض الأدباء الفرنسييين أن القرن العشرين بالقياس إلى الحياةالأدبية في فرنسا إنما يبتديء بالحرب العالمية الأولى . وأكاد أقبل هذا التوقيت بالقياس إلى حياتنا الأدبية العربية ، ففي أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن ظهرت المقدمات التي تنبيء بما كان أدبنا مشرفا عليه من تطور خطير . ظهرت آثار الشيخ محمد عبده وقاسم أمين والمويلحي وعبد الله نديم والبارودي وحافظ وشوقي ومطران ، فكان هؤلاء جميعا وكثير من أمثالهم يصورون آخر عصر وأول عصر آخر ، يصورون طورا من أطوار الانتقال ؛ فهم كانوا يحافظون على كره ، ويجددون على استحياء ، ويرون أن الحياة القديمة قد انقضت أيامها وأن فجرحياة جديدة قد أخذ ينتشر في الأفق شيئا فشيئا . ولم يكد هذا القرن يخطو خطوات قليلة حتى ظهر جيل من الشباب نظر إلى الحياة القديمة نظرة سخط عنيف ، ونظر إلى قادة الرأي هؤلاء نظرة حب ورضا وإكبار ، ولكن فيها كثيرا من الإشفاق والرثاء ، وفيها ما يدفع أحيانا إلى الثورة والغضب . فقد كان هذا الجيل من الشباب الناشيء في أول القرن يقف من قادة الرأي موقف الأبناء من الآباء يحبونهم ويكبرونهم ، ولكنهم يثورون بهم ويخرجون عليهم سرا دائما وإعلانا بين حين وحين . والذين يذكرون الأعوام التي سبقت الحرب العالمية الأولى في مصر خاصة ، يذكرون من غير شك تلك الخصومات العنيفة التي ثارت بين الشباب والشيوخ في الصحف وفي الكتب والرسائل . ولعل منهم من يذكر عنف العقاد والمازني وطه حسين بشوقي وحافظ . ولعل منهم من يذكر عنف طه حسين بالمنفلوطي[1] . ولعل منهم من يذكر كل تلك الخصومات التي كانت تثار حول الأدب وحول السياسة وحول حرية الرأي ، في الصحف السيارة اليومية ، وفي المجلات الشهرية  والأسبوعية ، وفي بعض الكتب التي كانت تذاع هنا وهناك . فقد كان هذا كله إنباء في أن تطورا خطيرا يوشك أن يمس الأدب العربي الحديث في أغراضه ووسائله ، وفي تصوره وتصويره ، وفي تقديره للأشياء والناس وحكمه على الأشياء والناس . وفي أثناء هذا الوقت كان التعليم المتواضع يزداد انتشارا وتغلغلا في طبقات الشعب ، وكان الضمير الوطني يزداد يقظة وتنبها ، وكانت المثل العليا في الحياة تتغير في نفوس الشباب تغيرا شديدا ، وكان السلطان في مصر يضيق بذلك ويستعد لمقاومته ، وكان هذا لايزيده إلا استيقاظا وتنبها وإسراعا إلى التطور . ثم كانت الواقعة الكبرى التي هزت العالم كله خمس سنين ، وانجلت عنه الغمرة ، وإذا كثير جدا من شؤونه يتغير في الحياة العقلية والاقتصادية والسياسية ، وإذا مصر خاصة يصيبها من هذا التطور طرف لا بأس به ، وإذا الجذوة المصرية تتوهج فترسل ضوءها وشررها إلى ما حولها من البلاد العربية ، وإذا الأدب العربي يحيا في ذلك الوقت حياة عنيفة خصبة مختلفة لم يعرفها منذ زمن بعيد جدا .
   ثم تتقدم الأعوام شيئا ، وإذا قرارات تتخذ ، ونظم توضع ، من شأنها أن تغيرالحياة الأدبية في الشرق العربي تغييراً خطيراً . فقد كان انتشار التعليم من المؤثرات في تطور الأدب قبل الحرب الأولى ، ولكن انتشار التعليم كان محدودا ينظمه السلطان البريطاني في كثير من البخل والتقطير . ولكن أمور التعليم ترد إلى مصر بعد الحرب ، فيتنوع ويزداد انتشارا ، ويندفع في هذا التنوع والانتشار ويصدر الدستور فيلزم الدولة بإعطاء المصريين جميعا مقدارا من العلم يمكنهم من أن يقرءوا ويفهموا ويضطربوا في الحياة . و تجدّ الدولة في تنفيذ هذا الدستور منجحة حينا مخفقةً حيناً آخر، ولكنها تزيد عدد القارئين  على كل حال.


[1]  لم يتطرق الدكتور طه حسين للخصومة التي جرت بينه وبين الرافعي في وقت مبكر ، وكان سبب اضطرام الخصومة الواضح اتجاه طه حسين الفكري في كتابه " في الشعر الجاهلي " والذي تضمن من بين ما تضمن قوله : " للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي " . وكتاب : " في الشعر الجاهلي" نشر في الوراق حوله ملف طويل بدأه أحد سراة الوراق وهو الأستاذ عبد الرؤوف النويهي وشارك بالتعليق عليه عدد من الأساتذة . ولقد كانت الخصومة بين الرافعي وطه حسين قد بدأت حول القديم والجديد في الأدب ، أو ما يسميه البعض بالأدب الأصيل والأدب الدخيل ثم تحولت لدى الرافعي إلى دفاع عن عقيدة المسلمين .
*ياسين الشيخ سليمان
30 - سبتمبر - 2008
 1  2