الأدب العربي بين أمسه وغده 4 كن أول من يقيّم
رأي الوراق :
أما أدبنا العربي فقد عمر بضعة عشر قرناً إلى الآن، واختلفت عليه في أثناء هذه القرون خطوب كثيرة متباينة وجهته ألواناً من التوجيه وأخضعته لضروب من التطور، ولكنه مازال حياً قوياً يستمد حياته وقوته من شخصيته العظيمة، ويستمد حياته وقوته من هذه الأجيال التي لاتزال حية محتفظة بفضل من قوة، والتي لاتزال ترعاه وتكلؤه وتنفخ فيه من روحها كما تستمد منه قوة وأيداً فهي تمنحه وتأخذ منه ، وهي تعيش عليه وتعيش له وتعيش به، شأنها معه كشأنها مع مايقوم حياتها المادية من الأرض والجبال والأنهار . فالحياة الزمنية للأدب العربي لم تنقطع ، ويظهر أنها لن تنقطع ، والصلة بينه وبين الأجيال المعاصرة في بلاد الشرق العربي من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلنطي وفي بيئات عربية متفرقة هنا وهناك في أقطار العالم القديم والعالم الجديد ـ هذه الصلة مازالت قائمة متينة خصبة،كالصلة التي كانت بين الأدب العربي وبين الأمة العربية أيام المتنبي وأبي العلاء . ونتيجة هذا كله أن في تاريخ أدبنا العربي ظاهرة قوية بينة شديدة الوضوح، تمكننا من أن نلاحظها ملاحظة مباشرة ، ونستقصي أطوارها استقصاء حسناً . فنحن نستطيع أن نبدأ هذه الملاحظة منذ أواخر العصر الجاهلي ، وأن نساير الأدب في هذه الطرق الطويلة العسيرة المتنوعة الملتوية التي قطعها مسرعاً مرة مستأنياً مرة أخرى متثاقلاً مرة ثالثة أثناء هذه القرون الطويلة، حتى انتهى إلينا مثقلاً بهذا التراث العظيم المختلف المتباين، الذي يشتد بين أجزائه وعناصره التباين والاختلاف . ونحن نستطيع أن نبدأ هذه الملاحظة من أنفسنا في هذا العصر الذي نعيش فيه، وأن نساير الأدب العربي مصعدين معه في التاريخ كأنما نعود أدراجنا ، سالكين معه نفس هذه الطرق ، متبينين فيه هذا التراث الذي تختلف أجزاؤه وتتباين عناصره ، حتى نبلغ أول الإسلام وآخر الجاهلية ، ونحن لا نخشى أن تنقطع بنا الطريق في الزمان والمكان أثناء مسايرتنا لأدبنا العربي سواء أبدأنا مع تاريخه حين يبدأ في الزمن القديم ، أم بدأنا مع تاريخه من النقطة التي ينتهي إليها في عصرنا الحديث . فالظاهرة التي يمتاز بها أدبنا والتي تمكننا من درسه وتتبع أطواره، هي أنه قديم جداً وحديث جداً قد اتصل قديمه بحديثه اتصالاً مستقيماً لا انقطاع فيه ولا التواء، ففيه خصائص الآداب القديمة، وفيه خصائص الآداب الحديثة، وفيه ما يمكننا من استخلاص حديثه من قديمه، وما يغنينا عن كثير من الفروض . أدبنا العربي كائن حي، أشبه شيء بالشجرة العظيمة التي ثبتت جذورها وامتدت في أعماق الأرض، والتي ارتفعت غصونها وانتشرت في أجواء السماء، والتي مضت عليها القرون والقرون ومازال ماء الحياة فيها غزيراً يجري في أصلها الثابت في الأرض وفي فروعها الشاهقة في السماء . فلنتتبع هذا الأدب تتبعاً يسيراً مقارباً، لنرى كيف تطور في أول عهده، ولنتبين كيف يمكن أن يتطور فيما يستقبل من الأيام . وأخص ما نلاحظه في حياة أدبنا العربي منذ أقدم عصوره أنه يتألف من عنصرين خطيرين لايحتاج استكشافهما إلى جهد أو عناء.أحدهما داخلي يأتيه من نفسه ومن طبيعة الأمة التي انتجته. والآخر خارجي يأتيه من الشعوب التي اتصلت بالعرب أو اتصل العرب بها، ويأتيه من الظروف الكثيرة المختلفة التي أحاطت بحياة المسلمين وأثرت فيها على مر العصور. ولنتفق على أن نسمي هذين العنصرين: التقليد ، والتجديد . فأدبنا العربي تقليدي ليس في ذلك شك، له طابعه العربي البدوي القديم لم يخلص منه قط ، ولن يستطيع أن يخلص منه آخر الدهر على رغم مابذل الأدباء وماسيبذلون من الجهود الهائلة المضنية. مذهبنا في تصور الأشياء وتقديرنا في أنفسنا قد يختلف باختلاف العصور والأقطار والظروف، ولكن مذهبنا في تصوير هذه الأشياء مهما يختلف فسينتهي دائماً عند طائفة من الأصول التقليدية لاسبيل إلى التحول عنها ؛ لأن التحول عنها قتل لهذا الأدب وقطع للصلة بينه وبين العصر الحديث وانحراف به عن طريق الحياة المتصلة التي تسلكها الآداب الحية، إلى طريق الحياة المنقطعة التي سلكها الأدب اليوناني والأدب اللاتيني . وقل ما شئت في تعليل الاحتفاظ بهذه الأصول القديمة وإخفاق المحاولات التي همت أن تعدل عنها أو أن تغيرها. فأنا لاأبحث الآن عن العلل والأسباب،وإنما أسجل الظواهر الواقعة تسجيلاً.لتكن طبيعة اللغة العربية هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول، وليكن القرآن الكريم هو الذي اقتضى ثبات هذه الأصول، ولتكن المحافظة التي يمتاز به الجيل العربي بين الأجيال هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول، ولتكن هذه الأسباب كلها مضافة إلى أسباب أخرى هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول .كل ذلك ممكن ، ولكن الشيء المحقق هو أن الأدب العربي محتفظ بطائفة من الأصول التقليدية لايستطيع أن ينزل عنها أو يبرأ منها . |