قيمة تلقي علمي العروض والقافية(4) كن أول من يقيّم
مدح العِلْمين ومنهج تعليمهما: لهذه الصعوبات والعقبات التي تزخر بها التآليف العروضية حرص العلماء قديمًا وحديثًا على بيان قيمة هذين العِلْمين، وتيسير عرضهما، وتقديمهما في ثوب قشيب، حسب رؤية كل مؤلف، وطبيعة التوجه الثقافي لعصره. وما أعظم إيجاز العلَّامة الجوهري(ت393هـ) لهذه الفوائد بقوله:"العروض ميزان الشعر، وهي ترجمة عن ذوق الطباع السليمة. وفوائدها ثلاث:إحداها أنه يستعين بها مَن خانَه الذوق. وثانيتها أنه يُعرَف بها مفارقة القرآن للشعر ومباينته له. وثالثتها أنه يُعلَم بها ما يجوز في الشعر مما لا يجوز فيه". وإذا كان الجاحظ قد روي له ذم للعروض فقد روي له أيضًا مدح، جاء في كتاب تحسين القبيح وتقبيح الحسن للثعالبي وفي كتاب زهر الآداب للحصري:" وقد مدح الجاحظ العروض وذمّها، فقال في مدحها: العروض ميزان، ومعراض بها يعرَفُ الصحيح من السقيم، والعليل من السليم، وعليها مَدَار الشعر، وبها يسلم من الأَوَد والكَسْر. وقال ابن جني(ت 392 هـ)مقررًا قيمة العروض:" العروض ميزان الشعر، وبه يُعرف صحيحه من مكسوره، فما وافق أشعار العرب في عدة الحروف والحركات والسكنات، فهو شعر كما أنه شعر. وما خالفه فيما ذكرناه فليس شعرًا، وإن قام ذلك وزنًا عند بعض الناس لم يسمَّ شعرًا حتى يوافقه فيما قدمناه". قال ابن طباطبا في كتابه "عيار الشعر": "الشعر- أسعدك الله- كلام منظوم، بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم، بما خص به من النظم الذي إن عدل عن جهته مجته الأسماع، وفسد على الذوق. ونظمه معلوم محدود، فمن صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى الاستعانة على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه، ومن اضطراب عليه الذوق لم يستغن من تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به، حتى تعتبر معرفته المستفادة كالطبع الذي لا تكلف معه. وللشعر أدوات يجب إعدادها قبل مراسه وتكلف نظمه. فمن تعصت عليه أداة من أدواته، لم يكمل له ما يتكلفه منه، وبان الخلل فيما ينظمه، ولحقته العيوب من كل جهة..." وقال العلوي في كتابه نضرة الإغريض في نصرة القريض:" وأما إقامةُ الوزن فهوَ عبارةٌ عن ذوْقٍ طبيعي حفِظَ فصولَه من الزيادةِ والنُقصان وعدّلها تعديلَ القِسْطِ بالميزان. ولو أن كلّ ناظمٍ للشعر يفتقرُ في إقامة وزنهِ، وتصحيحِ كسْرِه، وتعديلِ فصولِه إلى معرفةِ العَروض، والقوافي، لما نظَمَ الشِعرَ إلا قليلٌ من الناس. على أن الشاعر إذا عرَفَهما لم يستغن عنهما". وقال الراغب الأصفهاني في كتابه محاضرات الأدباء:"معرفة العروض تسهل عليك ما تَعَوَّج من الشعر، فإنه نصابه ونظامه وعموده وقوامه". وصدق بدر الدين الدماميني(763-837هـ) في قوله:"لا يخفى أن العروض صناعة تقيم لبضاعة الشعر في سوق المحاسن وزنًا، وتجعل تعاطيه بالقسطاس المستقيم سهلاً بعد أن كان حزْنًا"... وقد نقل الشيخ بدر الدين الدماميني في شرحه المسمى العيون الغامزة فصلًا ذكره ابن بري التازي، فيه فوائد خاصة ببيان مدى الفائدة من علمي العروض والقافية، لا بأس من الإحاطة بها، وأعرضه بتصرف على النحو التالي: يقول ابن بري: "قد تجافى بعض المتعسفين عن هذا العلم ووضعوا منه واعتقدوا أن لا جدوى له واحتجوا بأن صانع الشعر إن كان مطبوعًا على الوزن فلا حاجة له بالعروض، كما لم يحتَجْ إليه مَن سبق الخليل من العرب، وإن كان غير مطبوع فلا يتأتَّى له نظم العروض إلا بتكلف ومشقة... ولأن بعض كبراء الشعراء لم يقف عند ما حده الخليل وحصره من الأعاريض بل تجاوزها. وذكر قصة أبي العتاهية... ولأنه يُخرج بديع الألفاظ ورائق السبك إلى الاستبراد والركاكة، وذلك حالةَ التقطيع والتفعيل، وربما أوقع المرء في مهوى الزلل ومقام الخجل بما يتحول إليه صوغ البنية من منكر الكلام وشنيع الفحش. وذكر مداعبةً جرت بين أبي نواس وعنان جارية الناطفي!!!... ثم ذكر هجاء الجاحظ للعروض المثبت سلفًا... والحق الذي يعترف به كل منصف أن لهذا العلم شرفًا على ما سواه من علوم الشعر؛ لصحة أساسه واطراد قياسه ونبل صنعته ووضوح أدلته. وجدواه حصر الأوزان ومعرفة ما يعتريها من الزيادة والنقصان، وتبيين ما يجوز منها على حسن أو قبح وما يمتنع، وتفقد محالِّ المعاقبة والمراقبة والخرم والخزم وغير ذلك مما لا يتَّزن على اللسان ولا تتفطَّن إليه الفِطَر والأذهان؛ فالجاهل بهذا العلم قد يظن البيت من الشعر صحيح الوزن سليمًا من العيب وليس كذلك. وقد يعتقد الزحاف السائغ كسرًا وليس به... وذكر نماذج. ثم قال:" وهل علم العروض للشعر إلا بمثابة علم الإعراب للكلام؟ فكما أن صنعة النحو وُضِعت ليُعافي بها اللسان من فضيحة اللحن فكذلك علم العروض وُضع ليعافي به الشعر من خلل الوزن، فلولاه لاختلطت الأوزان واختلفت الألحان وانحرفت الطباع عن الصواب انحرافَ الألسنة عن الإعراب. وقد وقع الخلل في شعر العرب كثيرًا، وذكر نماذج... ثم رد قائلا:" ولا حجة في ذم الجاحظ لهذا العلم فقد مدحه أيضًا، وإنما أراد بذلك إظهار الاقتدار على جمع المدح والذم في شيء واحد، فقال في مدحه:"هو علم الشعر ومعياره وقطبه الذي عليه مداره، به يُعرف الصحيح من السقيم والعليل من السليم، وعليه تُبْتَنى قواعد الشعر، وبه يسلَم من الأوَد والكسر. وإنما يضع من هذا العلم مَن نبا طبعُه البليد عن قَبوله ونأى به فهمه البعيد عن وصوله. كما حكى الأصمعي أن أعرابيًّا مبتدئًا كان يجلس إلى بعض الأدباء وكلما أخذوا في الشعر أقبل بسمعه عليهم حتى أخذوا في العروض وتقطيع الأبيات ولى عنهم، وهو ينشد: قد كان إنشادهم للشعر يعجبني حتى تعاطوا كلام الزنج والروم ولـيتُ منقلبًا والله يعصمني مـن التقـحُّم في تلك الجراثيم ومثل هذا يُردُّ عليه بقول الخليل: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا لكن جـهلت مقالتي فـعذلتني وعلـمت أنك جاهل فعذرتكا العيون الغامزة ص231-236. وقال إبراهيم الطباطبائي [من الموسوعة الشعرية] مادحًا البحر العروضي: فيا بحر العروض جرى طويلا بظهر البر يرشح بالنزيز ابن لي في القريض ضروب طرزٍ فإنك فيه أعرف بالطروز فكم لك بالبديع خفي معنىً غنيٌّ فيك عن جهة البروز ... وغير ذلك من أقوال السلف في قيمة هذين العلمين. ولعل من أبلغ مقولات العروضيين المحدثين في ذلك الشأن مقدمة الأستاذ الحساني حسن عبدالله في تحقيقه لكتاب الكافي في العروض والقوافي، يقول: إذا أريد لديوان العرب أن يبقى فلا بد أن تبقى أنغام الشعر في آذان العرب. ولهذا سبيلان: الحفاظ على الشعر نفسه، والحفاظ على علم الشعر، وفي مقدمة مفرداته العروض والقافية... إن الغربيين يرعون العروض أجل رعاية، فيقولون فيه ويكثرون القول، وينشرون كتبه يشرحون فيها أصوله ودقائقه ويتابعونه في مراحل تطوره، ويعنون في تقديمهم للدواوين ببيان أوزانها عناية ملحوظة؛ لأنهم يعلمون حق العلم أن الاستهانة بالعروض ليست استهانة بجملة مصطلحات معقدة، بل هي استهانة بالشعر نفسه، واستهانة بعد هذا بوجان الأمة وأخلاقها... وإذا أريد لديوان العرب أن يبقى فلابد أن تبقى أنغام الشعر في آذان العرب. ولهذا سبيلان: الحفاظ على الشعر نفسه، والحفاظ على علم الشعر( ومنه باب العروض والقافية). ويقدم الأستاذ عبدالعليم إبراهيم منهاجًا هاديًا في سبيل جعل هذين العلمين سهلين ممتعين. و يتمثل في عدة نقاط ،هي: *أن يفرق بين المتعلمين للعروض، فهما نموذجان: والج شادٍ مبتدئ، ودارس له متطلع إلى المزيد من خفاياه وإشكالياته. *أن يخصص كتاب للشادين المبتدئين في دراسة العروض، وثان لمَن سبقت لهم هذه الدراسة، ولكن حصيلتهم منها ظلت ممسكة بهم في نطاق القواعد النظرية، ولم تبلغ بهم الغاية العملية للدراسة العروضية. *التركيز على الجانب التطبيقي، بأن يحس المتعلم الثمرة الأصلية للعروض من خلال تطبيقه على النصوص. *عدم التعرض للمصطلحات العروضية، وتركها تركًا ، إلا ما وجب ذكره لشيوع استخدامه في العملية التطبيقية من مثل:بحر، مجزوء، شطر، تفعيلة، فالمصطلحات هي آفة العروض! *عرض أساسيات العروض في جداول تيسر فهمها وتعين على الموازنة بينها. * عدم التركيز على استيعاب جميع الصور التي تصاغ عليها البحور، والاقتصار على ما يكثر تداوله ويشيع استعماله من هذه الصور. *صناعة مفتاح يساعد على التقطيع العروضي، وييسر تحديد الأوزان وتعيين البحور. *الإكثار من النماذج الشعرية التي تستوعب جميع البحور. *عرض أسئلة كثيرة متدرجة تتعهد خبرة الطالب وتنمي موهبته وتنضج إحساسه وتقوده رويدًا رويدًا إلى الغاية المنشودة. تلك كانت أهم آليات الحل لمعضلات العروض في نظر الأستاذ عبدالعليم إبراهيم. إنهما من العلوم الجليلة الفائدة في نواح معرفية شتى، بحيث بات لا يستغني عنهما قطاع كبير من المثقفين، مهما كانت درجة ثقافتهم اتساعًا ومحدوديةً، على النحو الذي اتضح سابقًا، حيث يستعين بهما اللغوي، ودارس البلاغة، والناقد، والمحقق، والمبدع فحلاً كان أو نشئًا، والمصحِّح اللغوي، والمؤدِّي المُلْقِي للشعر، والمحكِّم لمسابقات الشعر التي عقدت قديمًا، وما زالت تُعقَد ...إلخ إن علمي العروض والقافية لهما المقام الأعلى في معاشرة النص الشعري إبداعًا أو تذوقًا أو نقدًا أو قراءة، وإن الاستهانة بهما استهانة بالشعر نفسه، واستهانة بعد هذا بوجدان الأمة وأخلاقها؛ فخطرهما من خطر الشعر، وإن خطر الشعر لعظيم... ومِن ثَمَّ وُجِدت جهود متنوعة في سبيل تيسير تعليم هذين العِلْمين أحاول الإفادة منها في قادم المباحث والمقالات والتعليقات، بإذن الله تعالى. |