تتمة لما سبق ... كن أول من يقيّم
قد يعتقد بعض الفقراء أن الفقر الواقع عليهم هو قضاء وقدر من اللَّه سبحانه وتعالى لا ينفك عنهم، ويلازمهم طوال حياتهم. هذا الاعتقاد إذا وجد فإنه قد يؤدي بالفقير ألا يحاول علاج الفقر الواقع عليه. هذه القضية فطن إليها أحد المفكرين المسلمين منذ ستة قرون سبقت هو أحمد بن علي الدلجي (836 هـ) ؛ ناقشها في كتابه: الفلاكة والمفلوكون (الفقروالفقراء ). وتمثل الآراء التي عرضها الدلجي تصوراً للفهم الصحيح للقضاء والقدر بشأن الفقر، لذلك قد يكون من المفيد أن نعرض لهذه الآراء: خصــص الدلجـي الفصــل الثــاني مــن كتــابــه لمــوضـوع: خــلق الأعمــال وما يتعلق به. وقد كتب في بيان سبب بحث هذا الموضوع ما يلي: (الغرض من هذا الفصل إقامة الحجة على المفلوكين وقطع معاذيرهم وإلجامهم عن التعلق بالقضاء والقدر، وأنه متى نعيت عليهم فلاكتهـم أو نودي عليهـم بها كان ذلك لأنهم إما فاعلوها استقلالاً أو مشاركة ...) . الفصل الأول في كتاب الدلجي عن تحقيق معنى مفلوك، أي تعريف الفقير. بعد هذا التعريف يدخل مباشرة في الفصل الثاني في مناقشة قضية القضاء والقدر وتعلق الفقراء (الباطل ) بها. يدل هذا على أن الدلجي يعتبر مناقشة هذه القضية الواجب الأول في موضوع دراسة الفقر والفقراء، بعبارة أخرى: إن دراسة الفقر تبدأ بهذا الموضوع، وهو إبطال تعلق الفقراء بالقضاء والقدر، وبالتالي إبطال استسلامهم للحالة التي هم عليها من الفقر. ولإبطال تعلق الفقير بالقضاء والقدر، ولإثبات مسؤوليته عن فقره، عرض الدلجي الأدلة التالية : - الفقير فاعل فقره -أي متسبب فيه - إما استقلالاً أو مشاركة. - يتفق العلماء على أن القضاء والقدر لا يحتج به. - حركة العبد للسعي تجامع التعلق بالأسباب ولا تنافيها. - الاكتساب لإحياء النفس ولغير ذلك واجب. - الرسول صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: (اعقلها وتوكل ) . - ليس من شرط التوكل ترك الأسباب، فإن ذلك حرام في الشرع ولا يتقرب إلى اللَّه بمحارمه. - اللَّه سبحانه وتعالى قال: { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم }. [النساء:71] - وجود المال في اليدين لا في القلب، ودخول الدنيا على العبد وهو خارج عنها، لا ينافي الزهد. الأدلة التي عرضها الدلجي تبطل تعلق الفقراء بالقضاء والقدر لتبرير استسلامهم للفقر. يمثل هذا العنصر الأول في صحة العقيدة الاقتصادية. هذا العنصر له أهميته، بل له الأهمية الأولى بين الأساليب التي يواجه بها الفقر، أو التي يعالج بها الفقر. وذلك لأنه يبدأ بعلاج الفقر بتصحيح عقيدة الفقير، ولأنه يجعل العلاج من الفقير نفسه، لأنه يحمله المسؤولية، وهي مسؤولية تنبع من العقيدة. هذا الأمر له أهمية في حياتنا المعاصرة، ذلك أن هناك من يفسر تخلف المسلمين بارتباطهم بالقضاء والقدر وقعودهم عن العمل، والدلجي يبطل الفهم الخاطئ في هذه القضية. تصحيح عقيدة الفقير بشأن القضاء والقدر له توظيفاته الاقتصادية المتعددة. من ذلك أنه يدفع الفقير للعمل ليقضي على فقره، ويدفعه لحب المــال فيســعى لجـــمعه وامتــلاكه، ويدفعه لاعتـبار العنصر المادي في الحـــياة فلا يهمله.
|