الموضوع حسم كن أول من يقيّم
رأي الوراق :
سادتي وإخوتي الكرام: أشكر لكم من أعماق قلبي هذه الكلمات الأخوية الطيبة، أشعر فعلاً وكأن لي أقارب حقيقيين على أديم الورّاق. وكما تصف أستاذتنا الكريمة ضياء، كانت هذه المكتبة حملاً ثقيلاً على ظهري، ورغم أن فترة طفولتي أمضيتها بأسرها في لبنان، بلدي ومهوى فؤادي وقرّة عيني، فقد كنت أضطر دوماً للتنقل بشكل مكوكي إلى دمشق (التي لي بها إخوان وأحباب، وعلى رأسهم أديبنا الباحث الكبير الأستاذ زهير ظاظا).. فالآن زال عني قيد السلحفاة، هذه نقطة إيجابية على الأقل.. والساعة أكتب هذه الكلمات ومكتبتي الثمينة جداً باتت في حاويات القمامة! أقدّر آراءكم أيها الأحبة في موضوع الترميم، الذي لدي عنه فكرة واسعة، إنما حديثنا هنا عن 4 أطنان من الورق التي غمرت بأكملها في الماء، ثم لم أتمكن من الوصول إليها إلا بعد 48 ساعة لغلبة الطين والخبث. الترميم ينفع في وريقات مخطوطة تعدّ بالعشرات لا أكثر. وكما يعلم أستاذنا زهير كانت هذه المكتبة تلجئني إلى استئجار بيوت في دمشق التي باتت أسعارها فلكية. فالآن: غيّرت حياتي، وداعاً يا دمشق والكتابة عن دمشق! تعود بي الذاكرة الآن إلى تموز 2006 وكنت أطبع كتابي "التلمود" في الضاحية.. كانت القنابل تنهال حول المنطقة التي أسكنها فجراً بمعدل 12 صاروخاً من 3 جهات: الضاحية، والشويفات، ومحيط جسر المطار مبدأ طريق صيدا، والمطار ذاته.. أذكر أن صديقي الحبيب "أبا علي حسن" طلب مني أن أذهب به بسيارتي إلى حيّ السلّم لجلب أولاده عصر أحد أيام الحرب، ذهبنا على طريق المطار ولمحتنا 3 حوّامات أباتشي انعطفت خلفنا رأساً، ربما لتطلق علينا صواريخها، لأن طريق المطار كان خاوياً تماماً إلا من سيارتي ذات اللون الزيتي والدفع الرباعي (لعلهم ظنوها عسكرية). كانت البوارج الحربية الإسرائيلية قبالة شواطئ خلدة، وكانوا وقتها آخذين في قصف العربات لمنع تنقل المقاتلين.. دلفت بسرعة هائلة تحت نفق المدرّج الغربي وتوارينا عن الأنظار.. ثم وصلنا حيّ السلّم، وما كدنا نتوقف وننزل من السيارة حتى ارتج الهواء بصوت انقضاض طائرة F 15 عدوّة، ولمحت بأم عيني قنبلة الـ 500 رطل وهي تهوي كالصاعقة وزعانفها بادية بوضوح.. ارتج الكون حولنا بانفجار مروّع لا يوصف، ولايفصل بينه وبيننا أكثر من 250 متراً.. القيامة قامت ومحي حيّ بأكمله من ورائنا وشاهدنا مبنى كبيراً ينهار، حتى أن اللهيب وصل إلينا وأصيب ظهري وظهر صديقي بحروق.. تمكنا من إنقاذ أبناء أبي علي ولله الحمد.. لكن الذي أريد قوله أننا عندما غامرنا بالاقتراب من موقع القصف رأينا مناظر لا توصف ويا ليتني لم أر ذلك، ولا أريد أن أصفه (طبعاً أتحدث عن الشهداء من الأطفال الأبرياء الذين يمزق منظرهم المفجع الأليم أقسى القلوب!).. وأرجو الله لكم ألا تروا في عمركم كله مثل ذلك ولا بعضه. فبعد هذا كله، كنت البارحة واليوم أثناء انتشال ما لا يزيد عن 10% من مكتبتي كأنني في نزهة، وتمنيت لو أنني أفقد كتبي وجميع ما أملك لو كان ذلك ينفع في إنقاذ طفل واحد.. وغلب على البارحة الشعور بالتقزز من أنني إنسان يعيش بكامل حريته وأمنه، فهل يتباكى على فقد متاع مادي من بعد الذي رأى؟ فدتك روحي يا لبنان الحبيب، وسلّم الله كل طفل بريء فيه من أي مكروه. أنا لم أفقد وجودي ولا حتى طاقتي، كل الذي يلزمني الآن العودة إلى مكتبة AUB أتابع من خلالها أبحاثي. ووداعاً يا كتبي الغالية، رفيقة عمري.. جئتِ من جذور الأرض وأخشابها، وتعودين الآن إليها، لا لوم ولا تثريب. بل الحمد كل الحمد لله تعالى، في السرّاء والضرّاء. تحياتي مجدداً، إلى الأستاذ زهير، والأستاذة ضياء، والأستاذ منصور، والأستاذ محمّد. كلماتكم وقعت في قلبي أطيب موقع، ولها فيه ما حييت أكرم مكان. ودمتم بكل خير. |