السلام على الجميع. عاش العرب في الصحراء الشاسعة والعريضة أزمنة طويلة، قبل بدايات التاريخ الإسلامي، وكان أغلبهم يعيش حياة القبيلة والبدو، وقد ألفت نفس البدوي وروحه الفضاء الواسع الممتد وأورثه إحساسا وشعورا بأنه حر طليق لا تقيده القيود، ولا تقف أمامه الحواجز والمعتركات. فامتاز وتفرد بالصرامة والقوة والخشونة والذكاء والفطنة، ومنحته الصحراء التي عاش وترعرع فوق رمالها وبين واحاتها، واقتات من ثمور أجذا عها وشرب من ألبان ناقاتها ونعاجها وآبارها، يقظة عقيلة مميزة وفصاحة في اللسان و بياننا في الكلام. وقد قسم المهتمون بالأدب العربي بمختلف فنونه العرب إلى ثلاثة أصناف وهي: 1- عرب بائدة: وهم عرب لا نعرف عنهم ولا عن أحوالهم وأخبارهم وإلا النزر القليل، وهذه النزر هي إلى الأساطير والخرافات أقرب منها إلى الواقع والتاريخ، إلا ما تم ذكره في القرآن من أجل الموعظة والاعتبار وذلك في قوله عز وجل:( أما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية). 2- عرب عاربة: يقال أنهم ينحدرون من عرب بلاد اليمن، وينتسبون إلى يعرب بن قحطان، ويزعم العرب أنه أصل لسانهم العربي إلا أن الحقيقة التاريخية أثبتت عكس ذلك في ما بعد. 3- عرب مستعربة: قيل أنهم عرب شمال الجزيرة العربية ووسطها، ويقال أنهم عرب ينتسبون إلى إسماعيل ابن إبراهيم عليهما السلام. لقد مرت الأمة العربية بعدة مراحل و حقب، حتى وصلت إلى ما وصلته اليوم من تقدم وتطور خاصة في ميدان الأدب، و كانت أول هذه الحقب هي التي اصطلح عليه "بالجاهلية الأولى" حيث نضجت الأمة في صحرائها عقليا وعاطفيا وخلقيا، وتأصلت عاداتها وطرق عيشها وحياتها، تطورت لغتها وأصبحت هناك لغة موحدة بين القبائل، بها يغنى الشعر وتضرب الأمثال والحكم وتلقى النوادر، مع إعطاء الحق لكل قبيلة في الاحتفاظ بلهجتها باعتبارها رمز سيادتها وعظمتها. كانت هذه إطلالة مقتضبة عن الطبيعة الصحراوية وما خلفته من أثر واضح في الشعر ونفسية الشاعر، حيث أثر الفضاء الممتد والفسيح في الشاعر فأوحى له بأسلوب القصيدة وعناصرها، وأمده بفيض من الأمثال والتشبيهات والكنايات والاستعارات..، ولا غرابة، فهي البيئة التي منها يستوحي خياله وينسج على منوالها حكاويه وأقاصيصه ودواوينه وعواطفه حيث لم يدع شيئا في الجاهلية إلا وصفه. الفصل الأول: الأدب الجاهلي ودوره في نشأة اللغة العربية إن المهتمين بدراسة الأدب العربي قسموا العرب إلى عرب مستعربة وعرب عاربة، هذه الأخيرة التي هاجرت ديارها واختلطت بالعديد من القبائل عن طريق التجارة، ويقال أن عرب مستعربة إليهم يرجع الفضل في تكوين اللغة العربية التي نتكلم بها اليوم والتي نزل بها القرآن الكريم. ومنه يمكننا التساؤل عن الكيفية التي نشأت بها اللغة العربية وكيف تطورت. أولا: نشأة اللغة العربية يعود نسب وأصل اللغات المشهورة في العالم إلى أربع لغات أساسية هي: اللغة الهندوأوروبية – اللغة الحامية- اللغة السامية – اللغة المغولية والمرجع في هذا التقسيم هو أن جميع هذه اللغات تشترك في ما بينها حول مجموعة من الخصائص، تتمثل على مستوى تركيب الجمل والمفردات واشتقاق الكلمات. وتعد اللغة العربية إحدى هذه اللغات السامية و المتمثلة في العبرية والكنعانية والفينيقية والآشورية والحمرية والحبشية..، وقد قيل أنها سميت بالسامية نسبة إلى سام ابن نوح عليه السلام. وعلى الرغم من أن اللغة العربية تعتبر أحدث هذه اللغات ظهورا فإنها تعد وبحق أرقى وأفصحها وأبينها، ولعل هذا ما جعل علماء اللغة العربية المهتمين بدراستها وتطورها يقولون أن العربية كانت مهد الجيش السامي، وأن هذه الشعوب السامية نزحت منها تباعا إلى البقاع المجاورة، و اللغة العربية كما هو معلوم لم تتعرض لما تعرضت له باقي لغات العالم من إقحام وغزو أجنبي. وتعتبر اللغة القحطانية أصلا من أصول اللغة العربية وإن كانت تختلف عنها اختلافا واضحا وبينا حتى أن "أبا عمر بن العلاء" قال: "ليست لغة حمير لغتنا ولا لسانهم بلساننا". ومما لا ريب فيه هو أن عرب الجنوب- جنوب الجزيرة العربية- وهم يقومون بالتجارة قد اختلطوا بعرب الشمال ويقال أن قبيلة" جرهم" التي صاهرها إسماعيل عليه السلام كانت من أصول يمنية، وعنها نشأ جيل جديد من أولاد إسماعيل عليه السلام، وأخذ هذه الجيل من لغة أبيه "اللغة العربية" ومن "القحطانية" لغة أمهم، وعقب سقوط سد مأرب نزحت العديد من القبائل في اتجاه الشمال وانقسمت عشائر وقبائل وأسر وعائلات... وكان لزاما على هذه القبائل أن تتفاهم وتتواصل في ما بيتها خاصة وقد جمعتهم المصاهرة والجوار والحروب والتجارة بل وحتى الحج. فأدى هذا جميعه إلى الاتفاق على توحيد اللغة، ومن هنا كانت نشأة اللغة وتكوينها. وقد أجمع الدارسون والمهتمون بتاريخ الأدب بعد أن وحدت اللغة العربية وصارت هي المتداولة بين جل القبائل العربية على تقسيم الأدب العربي منذ بدايته إلى يومنا هذا إلى حقب ومراحل، وذلك طبقا لمجموعة من المعايير لتي تم أخدها بعين الاعتبار في التقسيم ومنها: التحولات السياسية والأحداث الاجتماعية والنفسية والثقافية التي أثرت في الأدب وفي مساره. ثانيا: أصول الأدب العربي وبداياته يصعب تحديد بدايات الشعر العربي تحديدا مدققا، لأنها بدايات غامضة غموض المراحل الأولى لفترة الجاهلية قبل الإسلام. ولذلك ذهب الباحثون مذاهب شتى قديما في حديثهم عن بدايات الشعر الجاهلي، فمنهم من حرص على ألا يتجاوز بعمره قرنا ونصف أو قرنين من الزمان، على أبعد تقدير قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الصدد نعتد بالكلمة الشهيرة التي أطلقها الجاحظ:" أما الشعر فحديث الميلاد صغير السن أول من نهج سبيله وسهل الطريق إليه امرؤ القيس، ابن حجر ومهلهل ابن ربيعة، فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له-إلى أن جاء الله بالإسلام- خمسين مئة عام وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمئتي عام [1] بينما يرجع به العلماء الآخرون إلى أبعد من ذلك نحو 400 عام قبل البعثة النبوية بل أن آخرين يرجع به إلى أبعد من ذلك بكثير. ولعل الشعراء العرب كانوا في أول أمرهم يقول الواحد منهم البيت أو البيتين ثم يبدأ وبعد ذلك يطولون القصائد تمشيا مع تدفق مشاعرهم وانسيابها. لذلك قال ابن سليمان: " ولم يكن لأوائل العرب عن الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حاجته...، وكان أول من قصد القصائد وذكر الوقائع، المهلهل ابن ربيعة الثعلبي في قتل أخيه كليب ابن وائل قتله بنو شيبان، وكان اسم المهلهل عدي وإنما سمي مهلهلا لهلهلة شعره كهلهلة الثوب واضطرابه واختلافه"[2] . ومع هؤلاء استقر بناء القصيدة العربية الجاهلية على نمط واحد، بما فيها من مقدمة طللية أو تصوير الرحلة في الصحراء ثم الانتقال إلى الغرض الرئيسي الذي قد يكون مديحا أو ريثاءا أو ما إلى ذلك من الأغراض، التي تعددت بتعدد البواعث على قول الشعر في كافة أرجاء الجزيرة العربية التي شاع فيها الشعر والشعراء على نحو ظاهر، خاصة وأن الشاعر كان لسان القبيلة والمدافع عنها ضد خصومها، و حض الناس على الاقتتال وما أكثر الاقتتال في الجاهلية. ومع ما وصلنا من الشعر الجاهلي فإن قدرا منه ضاع لأسباب مختلفة حتى أن أبا عمر ابن العلاء قال:" ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير"[3] ويكفينا دليلا على غزارة الشعر الجاهلي أنه كان الوسيلة الوحيدة تقريبا للتعبير عن كل ما في الحياة الجاهلية وفي كل أحوالها الخاصة والعامة حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"[4] وبعد مجيء الإسلام ومع بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم خطى الشعر العربي خطوة أخرى ليعبر عن الرسالة الجديدة ويساهم بحظه في نشر الدين الجديد والدفاع عنه، فنشأت بذلك زمرة جديدة من الشعراء دورها التغني بالإسلام والدفاع عنه ضد خصومه، لأنهم أدركوا بأن القتال بالقلم لا يقل أهمية عن القتال بالسيوف والرماح. إن دراسة الأدب وتاريخه يجعلنا نقف ونمعن النظر في هذا التراث والإرث الجليل الذي ورثناه عن أسلافنا، ويجعلنا كذلك نعرف مواطن ومكامن قوة هذا الأدب وأسباب نهضته وتنوع فنونه وأصنافه . ويبقى السؤال قائما حول عوامل نهضة هذا الأدب وظواهره؟؟ الفصل الثاني لاحقا.
|