البحث المطول كن أول من يقيّم
حديث "افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة" رواياته كثيرة يشدُّ بعضها بعضاً، بحيث لا يبقى ريبة في حاصل معناها. وفي رواية أبي داود عن معاوية، قال: "قام فينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال : " أَلا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ أَلا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ " وفي رواية: "وإِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَتَجَارَى بِهِمُ الأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ بِصَاحِبِهِ، فَلا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلا مَفْصِلٌ إِلا دَخَلَهُ". وفي رواية الترمذي عن ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّة، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاّمِلَّةً وَاحِدَةً، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ" مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي". والإشكال في قوله: "كلها في النار إلاَّ ملَّة" فمن المعلوم أنهم خير الأمم، وأن المرجو أن يكونوا نصف أهل الجنة، مع أنهم في سائر الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض -حسبما صرَّحت به الأحاديث (1) - فكيف يتمشَّى هذا؟ فبعض الناس تكلَّم في ضعف هذه الجملة وقال : هي زيادة غير ثابتة، (2) وبعضهم تأوَّل الكلام بأن الفرقة الناجية صالحو كل فرقة، وهو كلام منتقض لأن الصلاح إن رجع إلى محل الافتراق، فهم فرقة واحدة لا أفراد من الفرق، وإن رجع إلى غير ذلك فلا دخل له، لأن الكلام إنهم في النار لأجل الافتراق وما صاروا به فرقاً، ثم إن الناس صنّفوا في هذا المطلب وأخذوا في تعداد الفرق ليبلغوا بها إلى ثلاث وسبعين، ثم يحكم كل منهم لنفسه ومن وافقه بأنه الفرقة الناجية، وإنما يصنعون ذلك لادِّعاء كل منهم أنه على "ما كان عليه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه"، كما صرَّح بذلك صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم اتَّفق عليه جميع الفرق الإسلامية، إنما ينحصر النظر فيمن الباقي على ما كان عليه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه• ومن المعلوم أن ليس المراد أن لا يقع منها أدنى اختلاف، فإن ذلك قد كان في فضلاء الصحابة، إنما الكلام في مخالفة تُصيِّر صاحبها فرقة مستقلة ابتدعها، وإذا حقّقت ذلك، فهذه البدع الواقعة في مهمات المسائل وفي ما تترتب عليه عظائم المفاسد، لا يكاد ينحصر. ولكنها لم تخصّ معيَّنا من هذه الفرق التي قد تحزّبت والتأم بعضهم إلى قوم وخالف آخرين بحسب مسائل عديدة، حتى أدخلوا نوادر المسائل وما لا ضرر في مخالفته، فربما لم يكن من مهمات الدين أو لم يكن من الدين في شيء، ولكن كلٌّ تسمَّى باسم مدح اخترعه لنفسه، وصاروا يجعلون المسائل شعاراً لهم من دون نظر في مكانة تلك المسألة في الدين، والخوارج يسمّون نفوسهم الشراة، والأشاعرة يسمّون نفوسهم أهل السنَّة، والمعتزلة يسمّون نفوسهم العدلية أو أهل العدل والتوحيد، لأن خصمهم يثبت الصفات أموراً مستقلة فليسوا بموحّدين، أو لأنهم مشبهة أما صريحاً أو إلزاماً (3) ونحو ذلك مما تخبرك به كتب المقالات والكلام. والإنصاف أن كلاًّ منهم قد اخترع مالم يكن في زمن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، والصحابة رضي الله عنهم، واختلفت البدع فمن كبير وأكبر، وصغير وأصغر، وما بينهما، أعني الكبر والصغر اللغويين لا الاصطلاحيين، فذلك مما لا سبيل إليه إلاَّ بالتوقيف، والمفروض أن هذه أشياء مخترعة فكيف التوقُّف على ما لم يُذكر بنفي ولا إثبات، إنما غايته أن يكون دخل في عموم نهي أو نحو ذلك، فتعين الفرق وتعدادها فرقة فرقة وأنها هي التي أراد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مما لا سبيل إليه البتَّة، إنما تكلموا فيها خبطاً وجزافاً، سهَّل لهم ذلك وجرَّأهم عليه البدعة الأولى التي خالفوا بها السنة• فإن قلتَ: ومن ذا الذي بقي على ما كان عليه النبي -صلَّى الله عليه وآله وسلَّم- وأصحابه، ولم يشارك الناس في تحزُّبهم وابتداعهم؟ قلتُ: أما في العصور المتقدِّمة، فكان ذلك هو الغالب، وما زالوا من عام إلى عام يرذلون، وأما الآن في زمن الغربة، فأما من يرجع إليه في مسائل الدين وهم المتفقِّهة، ففي غاية القلة، وبذلك تصدق الغربة، لأن العلماء هم المُعْتدّ بهم، وبهم يصير الدين غريباً وأهيلا، على أنهم قد قَلُّوا في أنفسهم لا تكاد تجد اليوم مدَّعيا عنده بيِّنة، وأما الأعصار المتوسطة من المئتين إلى سبع مئة تقريباً ففيها ثورة العلماء وجلة الجهابذة الحكماء، وما شئت أن تأخذ منهم من خير وشر وجدته، أما الخير فبتحقيق فنون العلم وبثّها، وأما الشر فبتأييد الفرقة• والحاصل أن الناس عامة وخاصة، فالعامة: آخرهم كأولهم، فالنساء والعبيد ورعاء الشاء والفلاحون والسوقة ونحوهم ممن ليس من أمر الخاصة في شيء، فلاشك في براءة آخرهم من الابتداع كبراءة أولهم، وليس لك أن تقول: فنسمّيهم أهل السنَّة، والخاصة أهل البدعة، لأن هؤلاء الذين ذكرناهم ليسوا من التسميتين في شيء ، إنما يُسمّون بما دخلوا فيه وعقلوه وهو الإسلام، وذلك شأن مثلهم في عصر الصحابة رضي الله عنهم. وأما الخاصة:
فمنهم مبتدع اخترع البدعة وجعلها نصب عينيه وبلغ في تقويتها كل مبلغ وجعلها أصلاً يردّ إليها صرائح الكتاب والسنّة، ثم تبعه أقوام من نمطه في الفقه والتعصُّب، وربما جدَّدوا بدعته وفرَّعوا عليها وحمَّلوه ما لم يتحّمله، ولكنه إمامهم المقدَّم، وهؤلاء هم المبتدعة حقاً، وهو شيء كبير، لكن تخلف تلك البدعة في كونها ذات مكانة في الدين تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ]طه: 90 [ هذا كَنَفْي حكمة الله تعالى، وكَنَفْي إقداره المكلف وككونه يكلف ما لا يطاق ويفعل سائر القبائح، ولا تقبح منه، وأخواتهن، ومنها ما هو دون ذلك، وحقائقها جميعاً عند الله تعالى، ولا ندري أيّها يصير صاحبها إحدى الثلاث والسبعين فرقة• ومن الناس من تبع هؤلاء وناصرهم وقوَّى سوادهم بالتدريس والتصنيف، ولكنه عند نفسه راجع إلى الحق وقد دسّ في تلك الأبحاث نقوضها في مواضع لكن على وجه خفي، ولعلَّه تخيّل مصلحة دنيئة أو عظم عليه انحطاط نفسه وإيذاؤهم له في عرضه، وربما بلغت الأذيَّة إلى نفسه، وعلى الجملة فالرجل قد عرف الحق من الباطل وتخبّط في تصرفاته وحسابه على الله سبحانه، أما أن يحشره مع من أحب بظاهر حاله أو يقبل عذره، وما تكاد تجد أحداً من هؤلاء النظار إلاّ قد فعل ذلك، لكن شرهم والله كثير فإن الشر عم والخير خص، وربما لم يقع خيرهم بمكان، وذلك لأنه لا يفطن لتلك اللّمحة الخفية التي دسوها إلاّ الأذكياء المحيطون بالبحث، وقد أغناهم الله بعلمهم عن تلك اللمحة، وليس بكثير فائدة أن يعلموا أن الرجل كان يعلم الحق ويخفيه، والله المستعان• ومن الناس من ليس من أهل التحقيق ولا هُيِّء للهجوم على الحقائق، وقد تدرَّب في كلام الناس وعرف أوائل الأبحاث وحفظ كثيراً من غثاء ما حصّلوه، ولكن أرواح الأبحاث بينه وبينها حائل، وقد يكون ذلك لقصور الهمّة والاكتفاء والرضا من السلف لوقعهم في النفوس، وهؤلاء الأكثرون عددا والأرذلون قدراً، فإنهم لم يحظوا بخصيصة الخاصة ولا أدركوا سلامة العامة،
فالقسم الأول من الخاصة مبتدعة قطعاً،
والثاني ظاهره الابتداع،
والثالث له حكم الابتداع،
وتكليفنا معاملة كلّ من الثلاثة معاملة المبتدعة في ما يتعلَّق بذلك، وحسابهم إلى الله سبحانه وتعالى• ومن الخاصة قسم رابع: ثلَّة من الأوَّلين وقليل من الآخرين، أقبلوا على الكتاب والسنَّة وساروا بسيرهما وسكتوا عما سكتا عنه وأقدموا وأحجموا بهما، وتركوا تكلف ما لا يعنيهم، وكان تهمهم السلامة، وحياة السنة آثر عندهم من حياة نفوسهم، وقرة عين أحدهم تلاوة كتاب الله تعالى وفهم معانيه على السليقة العربية والتفسيرات المروية، ومعرفة ثبوت حديث نبوي لفظاً وحكماً، فهؤلاء هم السنية حقاً وهم الفرقة الناجية، وإليهم العامة بأسرهم ومن شاء ربك من أقسام الخاصة الثلاثة المذكورين بحسب علمه بقدر بدعتهم ونياتهم• إذا حقَّقت جميع ما ذكرنا لك لم يلزمك السؤال المحذور وهو الهلاك على معظم الأمة، لأن الأكثر عدداً هم العامة قديماً وحديثاً، وكذلك الخاصة في الأعصار المتقدِّمة، ولعلَّ القسمين الأوسطين وكذا من خفّت بدعته من الأول، وتنقذهم رحمة ربك من النظام في سلك الابتداع بحسب المجازاة الأخروية، ورحمة ربك أوسع لكل مسلم، لكنّا تكلمنا على مقتضى الحديث ومصداقه، وأن أفراد الفِرَقْ المبتدعة وإن كثرت الفرق فلعله لا يكون مجموع أفرادهم جزء من ألف جزء من سائر المسلمين، فتأمل هذا تسلم من اعتقاد مناقضة هذا الحديث لأحاديث فضائل الأمة المرحومة. ومن العامة باعتبار المتعبّدة الذين تورَّعوا عن هذه المباحث وإن كانوا قد تصوّروها ولكن تورَّعوا عن معاودتها وتحقيق بعضها وتزييف بعض، وجعلوا نفوسهم كأنهم من العامة الصرف وأقبلوا على ما يعنيهم من العبادة، ولست أعني المتصوّفة الذين فاضت بدعتهم من جوانب البسيطة، رأس مالهم الغناء وبضاعتهم الدعوى، وربحهم قلة الحياء، ولكن قوماً كانوا في الأولين كثيراً شغلهم ما يعنيهم عمَّا لا يعنيهم، آثروا إصلاح النيات، ومراقبة عالم الخفيات، وظهر عليهم شعار الإخبات، حتى قبض الله تلك النفوس المطمئنات : فطوبى لها من أنفس مطمئنة مشت مشيها فوق البـسيطة بالتي
يقول لها الرحمن جل جلاله رضيت وأرضيت أدخلي اليوم جنَّتي
إن قلتَ: فما النجاة في عصرنا الذي شأنه ما ترى، وأي عصمة من هذا الداء الذي عمَّ القرى؟• قلتُ: الذي دلَّ على الداء دلَّ على الدواء، وإنما الخلل من عدم القبول بعدم الاستعمال، وبعد تنظيف الجسم من تلك الأخلاط المتعفِّنة فقدِّر نفسك بين يدي ملك الموت، ثم أنظر ما الذي تحبه هناك فاستعمله الآن، وهذا هو السقمونيا (4) لتلك الأخلاط، ثمَّ استعمل هذا المرهم المباركْ• أخرج الشيخان وأبو داود من حديث حذيفة بن اليمان المخصوص بتلك الخصيصة -رضي الله عنه – قال : "كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ دُعَاةٌ على أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ " فانظر يا طالب النجاة هل ادخر عنك هذا الحديث نصحاً أو ترك تعلة إلا لمن أعرض عن الإنصاف لنفسه صفحاً، وانظر قول الصادق المصدوق صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: إن الخير بعد الشر فيه دخن، فإنه لم يقع الخير محضاً بعد وقوع الخلاف المستقر الذي هو الشر كل الشر، ثم كان للمسلمين إمام وجماعة مع ذلك الدخن، فلزمه بقايا الصحابة -رضي الله عنهم- ثم استحكم الشر وصار المسلمون أجناداً مجنَّدة، والدعاة على أبواب جهنّم من أئمة الضلال من أهل العلم وأهل الأمر إلى يومك هذا، وكل يدَّعي أنه متمسك بالسنة، فمنهم من عنده شطر صالح من السنة، ومنهم من بقي له كلمة الإسلام ويغر نفسه بالدعاوى ويستدرج الغافلين، وما زال الأمر متفاوتاً والخير والشرّ كفَّتي ميزان يرتفع هذا عند هذا آونة وينخفض أخرى، تارة بحسب السيرة، وتارة بحسب العلم، وتارة بحسب العمل، والناس أو كثير منهم على دين الملك وغالب الأحوال، والخطباء يشهدون لهم على رؤوس الأعواد كما يشهدون لأئمة العلم الذين شيَّدوا حصون البدع، ودار على رحائهم حلّ عقد السنة جمع، هذا يثبت سنة ويعقد بجنبها راية بدعة، والآخر ينكر تلك البدعة فيصيب، ولكن يجره الخصام إلى هدم تلك السنة، فيصبح أيضا قد أقام سنة وشيَّد بدعة، فكل منهم قد خلط عملاً صالحاً وآخر سيّئاً وشارك هذه الأمراء في هتك تلك الأستار وسفك تلك الدماء ونهب تلك الأموال وثلب تلك الأعراض، وهذا عصرنا أحسن الله عاقبتنا وجميع المسلمين له الحظ الأوفر من الخبط: جند في الروم ، وجند في العراق، وجند في اليمن، وجند في عُمان، وأجناد في السند والهند والمغرب وجميع أقطار الإسلام زاده الله ظهوراً، والأمر كما قيل: وذا زمانك فانظر في حوادثه فالوصف يقبح للمحسوس بالبصر
وفي كل خير قد شملهم وهو كلمة الإسلام، فاعرفها لهم وارع حقها، وما أصعب ذلك، ولا تظلمهم من صفات الخير التي علمت لهم شيئا، ولا تحبطها بجنب شرورهم فليس ذلك إليك، وابرأ إلى ربك من شرورهم، ولا تسوين بين الثرى والثريا منهم، فإن تفاوتهم الآن أكثر من ذلك، فاحكم بما دهمك من العلم بأحوالهم إن الجأك إلى ذلك ملجئ، وما ألبس عليك فعندك من خوف الشر فضلاً عن طلب الخير شغل شاغل، وهذا الصراط المستقيم الذي وصَّانا الله تعالى مستقيماً فاسلكه ولا يضرك أن تفرق الرفقاء يميناً وشمالاً، وماداموا فيه فهم رفقاء، وحين تتفرَّق بهم الطرق فلا عليك منهم ما دمت في وسطه، فإن انحزت إلى فرقة ممن سلك بنيات الطريق فقد اعذرت، وإن زعمتَ أن أحد هذه الفرق لم يمل عن الصراط قيد شبر فقد جهلت، وإن قلتَ بعضهم مقارب وبعضهم أبعد فقد صدقت، ولكن لا تدري مقدار القرب والبعد عند ربك، وإن السلامة لزوم وصية ربك، وهذا منّا لما قال سبحانه: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] العصر: 3 [ ونسأله الهداية والتوفيق آمين• والحمد لله رب العالمين.
________________________________
(1) يشير المؤلف بذلك إلى حديث عبد الله بن مسعود الذي أخرجه البخاري (6163)، ومسلم (221)، ولفظ البخاري: "قالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ فِي قُبَّةٍ، فَقَالَ: أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْنَا:نَعَمْ، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لأرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَنَّةَ لا يَدْخُلُهَا إِلاّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَا أَنْتُمْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ إِلاّ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأحْمَرِ".
(2) هذا قول إبن حزم في الفصل في الملل والنحل 3/248•
(3) الإلزام: من مصطلحات (علم الكلام)، ولم أقف له على تعريف واضح فيما وقفت عليه من مصادر هذا العلم، ولكن مفاده أن بعض الآراء والأقوال قد يُستنتج منها نتائج لم تكن في حسبان قائلها (كاتبها)، ولم يسعَ إليها، بل إنه يتبرأ من هذه النتيجة المستوحاة من أقواله ولا يقرّها، فهي على عكس ما يؤمن به ويعتقده، فكأنّ الإلزام هو إلزام الآخر (المخالف في الرأي) بقول لم يقل به، أو نتيجة لم يلتزم بها، ومما يؤسَف له أن معظم المسائل التي تبادلت الفرق الإسلامية بسببها تهم التفسيق والتكفير فيما بينها كانت على أساس هذه القاعدة، ومن ذلك على سبيل المثال ما يسمى في مصطلحات المتكلمين في مسألة الصفات: (التجسيم) و(التعطيل)، فمن المعلوم اتفاق المسلمين جميعاً على أن الله سبحانه وتعالى منـزّه عن كل نقص، متصف بكل كمال، وعندما بدأ البحث في مسائل التوحيد (علم الكلام)، ومنها مسائل صفات الله عز وجل كالوجه واليد والكلام والاستواء.. الواردة في القرآن والسنة، فقد فسّرها أهل السنة الأوائل على ظاهرها (على منهج المحدثين) من غير تأويل، فاتهمهم خصومهم من المعتزلة بالتشبيه والتجسيم، وعندما بحث المعتزلة هذا الموضوع (على منهج المتكلمين) سعوا إلى تأويلها بطريقة تنـزّه الله تعالى عن التجسيم، أو تشبيهه بخلقه..الخ، فاتهمهم خصومهم بالتعطيل، وهكذا الحال في أغلب المسائل التي جرّ إليها البحث، وتعمقت بسببها الخلافات، واستحكم التعصب بين الفرق، وتبادلوا نتيجة لها تهم التفسيق والتكفير فيما بينهم، وما نتج عنها من استحلال الدماء واستباحة الأموال والأعراض، ومن الأمثلة على ذلك ما جرى لفرقة المطرّفية من الزيدية في اليمن في نهاية القرن السادس للهجرة وبداية القرن السابع، فقد كفّرهم الإمام المنصور عبد الله بن حمزة (ت 614هـ)، وهو من أبرز علماء وأئمة الزيدية باليمن، كفّرهم بطريق الإلزام، وأبادهم نتيجة لذلك، واستحل دمائهم، وسبى نسائهم، وخرّب بلدانهم ومساجدهم ومدارسهم..إلخ.
(4) السقمونيا: نبات طبي اسمه العلمي: Convolvulus Scammonia يُستخرج من جذوره عصارة راتنجيه صمغية كثيرة الاستعمال الطبي، وتعد من أقوى المسهلات المعروفة آنذاك، وتستخدم مع مادة أخرى لطرد الديدان والطفيليات. أنظر: تذكرة أولي الألباب لداود الأنطاكي 274، القاموس المحيط، مادة) سقم) |