البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : سِحــرُ الـربـيـع من قصيدة لأبي تمـام (قراءة مدرسية) د/ عبد الله طاهر الحذيفي    قيّم
التقييم :
( من قبل 1 أعضاء )
 عبدالله الحذيفي 
27 - يوليو - 2008
سِحــرُ الـربـيــع
من قصيدة لأبي تمـام
(قراءة مدرسية)
النص:
1-    رَقَّتْ حَواشِي الدهْرِ فَهْيَ تَمَرْمَرُ         وَغَدَا الثَّرَى في حَلْيِهِ يَتَكسَّرُ
2-    نـزلتْ مُقَدِّمَةُ الْمَصِيْفِ حَمِيْدَةً          ويَدُ الشِّتَاءِ جَدِيدَةٌ لاَ تُكْفَرُ
3-    لولاَ الذي غَرَسَ الشتاءُ بِكَفِّهِ            لاَقَى الْمَصِيْفُ هَشَائِماً لاَ تُثْمِرُ
4-    كمْ لَيْلَةٍ آسَى البِلاَدَ بِنَفْسِهِ              فيها ويومٍ وَبْلُهُ مُثْعَـنْجِرُ
5-    مَطَرٌ يَذُوْبُ الصَّحْوُ مِنْهُ وَبَعْدَهُ           صَحْوٌ يَكَادُ مِنَ الغَضَارَةِ يُمْطِرُ
6-    غيْثَانِ فالأَنْوَاءُ غَيْثٌ ظاهِرٌ               لكَ وَجْهُهُ والصَّحْوُ غَيْثٌ مُضْمَرُ
7-    وَنَدًى إذا ادَّهَنَتْ بهِ لِمَمُ الثَّرَى         خِلْتَ السَّحَابَ أتَاهُ وَهْوَ مُعَذِّرُ
8-    أرَبِيْعَنَا في تِسْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً             حَقًّا لَهِنَّكَ لَلرَّبِيْعُ الأَزْهَرُ
9-    مَا كانَتِ الأَيَّامُ تُسْلَبُ بَهجةً             لوْ أنَّ حُسْنَ الرَّوْضِ كانَ يُعَمَّرُ
10-                 أَوَلاَ تَرَى الأَشْيَاءَ إنْ هِيَ غُيِّرَتْ   سَمُجَتْ وحُسْنُ الأَرْضِ حِيْنَ تُغَيَّرُ
11-                 يَا صَاحِبَيَّ تَقَصَّيَا نَظَرَيْكُمَا تَرَيَا    وُجُوْهَ الأَرْضِ كَيْفَ تَصَوَّرُ
12-                 تَرَيَا نَهَاراً مُشْمِساً قدْ شَابَهُ           زَهْرُ الرُّبَا فَكَأَنَّمَا هُوَ مُقْمِرُ
13-                 دُنْيَا مَعَاشٌ لِلْوَرَى حتَّى إذَا          جُلِيَ الرَّبِيْعُ فإنَّمَا هِيَ مَنْظَرُ
14-                 أضْحَتْ تَصُوُغُ بُطُونُهَا لِظُهورِهَا      نَوْراً تَكَادُ لَهُ القُلُوْبُ تَنَوَّرُ
15-                 مِنْ كُلِّ زَاهِرَةٍ تَرَقْرَقُ بالنَّدَى          فكأنَّهَا عَيْنٌ عليهِ تَحَدَّرُ
16-                 تَبْدُو وَيَحْجُبُهَا الْجَمِيمُ كأنَّها        عَذْرَاءُ تَبْدُو تَارَةً وَتَخَفَّرُ
17-                 حَتَّى غَدَتْ وَهَدَاتُها ونِجَادُها        فِئَتَيْنِ في خِلَعِ الرَّبِيْعِ تَبَخْتَرُ
18-                 مُصْفَرَّةً مُحْمَرَّةً فكأنَّها                عُصَبٌ تَيَمَّنُ في الوَغا وتَمَضَّرُ
19-                 مِنْ فَاقِعٍ غَضِّ النَّباتِ كأنَّهُ           دُرٌّ يُشَقَّقُ قَبْلُ ثُمَّ يُزَعْفَرُ
20-                 أوْ سَاطِعٍ في حُمْرَةٍ فكأنَََّ مَا يَدْنُو إليهِ مِنَ الْهَوَاءِ مُعَصْفَرُ
21-                 صُنْعُ الذي لوْلاَ بَدَائِعُ صُنْعِهِ         ما عَادَ أَصْفَر بَعدَ إذْ هُوَ أخْضَرُ
اللغة:
(1) الرقيق: ضد الغليظ، كالصحيفة، حواشي: جمع حاشية، والحاشية: جانب الثوب، تتمرمر: تموج وتضطرب لينا ونعمة، والثرى: التراب، وقصد الشاعر النبات، فهو يتكسر لرطوبته حين يلعب به النسيم.
(2) مقدمة المصيف: الربيع، يد الشتاء: ما نـزل فيه من أمطار. لا تكفر: لا تنكر. إذ لا تزال الأرض طرية مما أرواها به من ماء.
(3) الهشائم: جمع هشيمة: وهي الشجرة اليابسة.
(4) أي آسى الشتاء البلاد بنفسه. ويقصد بالشتاء المطر. والوبل: المطر، المُثعَنْجِرَةُ من الجفان: التي يفيض وَدَكُهَا: والمثعنجر: السائل من ماء أو دمع.
(5) قال الآمدي:  "الصواب يذوق الصحو منه، لأنه يصف مطر الربيع وطيب الوقت، أي أن المطر إذا جاء تبينت منه أنه يقلع ولا يدوم، وإذا كان الصحو رأيته غضا نديا طلا مؤذنا بأن المطر سيعقبه، ويذوق منه: أي يحتسي ويتذوق منه" ينظر ديوان أبي تمام تحقيق محمد عبه عزام مصر دار المعارف، 2/192هامش الصفحة، الغضارة: الطين اللازب الأخضر الحر  كالغضار  والنعمة  والسعة  والخصب،
والغضراء  الأرض الطيبة.
(6) قال المرزوقي: يقول أتى على هذه الأزاهير مطران أحدهما مطر بالأنواء وشاهده الناس والثاني صحو المرتوي الذي يكاد لنضارته يمطر فهو غيث آخر مضمر لا يشاهد. ينظر ديوان أبي تمام 2/192الهامش.
(7) لِمَّةُ الإنسانِ: شعر رأسه المجاوز شحمة الأذن. ولِمَمُ الثرى: نباته. والندى: قطرات الطلِّ على النبات، يقول إذا رأيت قطرات الطل على النبات صباحا حسبت السحاب جاءه معتذرا، بمطره القليل. 
(8) أي إن ذلك الربيع كان بعد تسع عشرة سنة من  مضي مائتي سنة من الهجرة. قيل إن أبا تمام مدح بهذه القصيدة المأمون بعد ما مر عليه في الحكم تسع عشرة سنة، وجعل الممدوح في مقام الربيع. أو أن الربيع قد عظم حسنه لبركة الممدوح في تلك السنين. ينظر ديوان أبي تمام 2/193.
(9) أي لو دام حسن الروض لدامت بهجة الأيام وحسنها.
(10) سمج: ككرم,  سماجة:  قبح  فهو سمج والسمج والسميج:  اللبن الدسم  الخبيث الطعم، يرى أن جمال الأرض يزداد عندما تحرث، وينمو زرعها، بخلاف جمال الأشياء الأخرى فجمالها يتناقص إذا أدخلت عليها التغييرات.
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
سِحــرُ الـربـيـع من قصيدة لأبي تمـام (قراءة مدرسية) د/ عبد الله طاهر الحذيفي (2)    كن أول من يقيّم
 
(11) التقصي والاستقصاء: التتبع والتبين للأمر، تتصور وجوه الأرض بألوان الزهر.
(12) أي: خالط بياض الزهر والأنوار بياض النهار وغلب ضوءَ الشمس فيه، فكأنه مقمر لا مشمس.
(13) أراد أن الدنيا موطن عيش أهلها ومنها يقتاتون فإذا جاء الربيع وازينت الأرض بالنبات الأخضر والأزهار وبدأت ملامح الثمار، زاد جمال الدنيا ومحاسنها مما يبعث على سرور المتأمل لها.
(14) النَّوْرُ: الأزهار، وهي تبعث الانشراح في الصدور.
(15) الزاهرة: الشجرة المكسوة بالأزهار والطل يتساقط منها، فبدت الزهرة له كالعين يقطر منها الدمع.
(16)  نذهب إلى أن الضمير في قوله: "تبدو"، يعود على الأرض،ولاسيما وجهها المعشب بالشجيرات المزهرة، بخلاف ما أشار إليه الخطيب التبريزي  شارح الديوان من عودته على الشجرة التي وصفها أبو تمام بقوله: "زاهرة" وأنها تشبه الجارية الجميلة في حليها، تظهر ويخفيها الجميم، والجميم: ما كثر وتكاثف من النبات.
(17) الوهدة: ما انخفض من الأرض. البخترة والتبختر: المشية الحسنة،والخِلعَةُ: ما يخلع على الإنسان [خيار المال والثياب].
(18)  الوغا: المعركة، وأراد تشبيه ألوان الأزهار الثياب الصفراء والحمراء، وجعلها في حركتها واختلاطها كرايات اليمن وهي صفراء ورايات مضر وهي حمراء، تخفق في معركة.
(19) الفاقع: من صفات اللون الأصفر، جعل الزهر في أول خروجه كاللؤلؤ فهي بيضاء شفافة ثم يكسوها اللون الأصفر الزعفراني.
(20)  أي: ينـزل إليه من الهواء ما يعصفره.
 
مع الشـاعر:
هو حبيب بن أوس بن الحارث الطائي (ت 231هـ)؛ كنيته ( أبو تمام). ولد بقرية (جاسم) من قرى حوران في الشام، وانتقل به والده إلى دمشق، وكان يحترف الحياكة، فلما ترعرع غادرها إلى مصر، فكان يسقي الماء بجامع عمرو، ويستقي من آداب علمائه، ولم يزلْ يحفظ الأشعارَ ويحاكي الشعراء حتى نبغ نبوغا قلَّ نظيره، ترك مصر، ولحق بالعراق، فذاع صيته، حتى وصل إلى قصر الخلافة، ومدح المأمون، ولَمَّا اتَّصَلَ بالمعتصمِ ومدحه قدَّمَهُ على شعراء زمانه، وأجازه، ومدح أحمدَ بن المعتصم، فكافأه، وولاَّهُ بريدَ الموصل، فلم يُتمَّ السنتين حتى توفي فيها.
كان فصيحا حلوَ الكلام.. قيل: إنه كان يحفظ أربعةَ آلاف أرجوزة من أراجيز العرب غير القصائد والمقطوعات الكثيرة (1) . 
وصل أبو تمام بالشعر إلى مرتبةٍ متقنةٍ أنيقةٍ، فعدّهُ النقادُ رأسَ الطبقةِ الثانية من الشعراء المحدثين في العصر العباسي، ورأوا فيه امتداداً لمدرسةِ الصَّنْعَةِ في الشعر العربي، تلك المدرسة التي تعود جذورها في الجاهلية إلى أوس بن حجر مروراً بالنابغة وزهير والفرزدق، غير أنَّ أبا تمَّام تفوَّق على سابقيهِ جميعاً (2).
عُرِفَ بميله الشديد إلى الابتكار والتجديد الشعري، وكان يرى أن الفنَّ الشعري لا يقوم على الارتجال والعفوية، وإنما يقوم على الإلمام بأشعار السابقين إلماما يصل إلى حدِّ الحفظ والإلمام بأساليب الكتابة والأداء الشعري والتزود بقدر كبير من الثقافة، فإذا نال المرء ذلك وامتلك الموهبة والرغبة.. دُفِعَ من ذاته إلى إنشاء الشعر، يساعده على ذلك ذكاؤه وتَفَطُّنُه لما يجب أن يقوم به من تحويل للمادة الأوَّلية؛ أي كلمات اللغة، وأساليب التركيب بحسب مقتضيات النظم إلى فنٍّ شعري تقوم فيه القدرة والمهارة المهنية بدور المبدع الذي يبتكر التراكيب والصور، وينشئ الجديد الجذاب.
ذلك لأنَّ القصيدةَ في رأي أبي تمام حدثٌ لفظيٌّ وكتابةٌ تزيينية، قيمتها مضمرة في ذاتِها، لكنَّ طبيعتها العلائقية تتناغم، لِتمنحَ مجموعَ بنيانِها جمالاً مدهشا. وعنده أنَّ الشيءَ الْمُصوَّرَ أو الْمُتَّخَذ موضوعًا للقصيدة، قد يُنتِجُ تحتَ ريشة الشاعر الفنان أثرًا خارقاً(3).
وشعرهُ يزخرُ بكثيرٍ من الصور الفنية؛ من استعاراتٍ مبتكرة وتمثيلٍ لطيف وكناياتٍ خفيَّةٍ إلى غير ذلك من فنون البديع كالجناس والمطابقة والتعريض.. كما ضمَّنَ أشعارَهُ الأمثالَ والحِكمَ، ومَهَّدَ الطريقَ لِمَنْ جاءَ بعدَهُ كالمتنبي وأبي العلاء المعري اللذَينِ أكثرا من زرع الحِكَم والأمثال في الشعر.
دارت حول مذهب أبي تمام الشعري هذا خلافاتٌ بين الأدباء والنقاد من مُعجبٍ به ومنكرٍ له؛ فكان أنصار التجديد المعتمد على بُعْدِ الخيال والصور الشعرية المبتكرة والتمثيل والإكثار من البديع يعجبون أشدَّ الإعجاب بشعر أبي تمام، وكان المقبلون على الشعر السهل القريب المأخذ الذي يجري فيه الشاعر على سجيته وطبعه، مما لا يحتاج إلى إِعْمَالِ الفِكْرِ وشغْلِ الذهنِ طلباً للفهم يرغبون في شعر البحتري(4) ، ويرون أنه أقرب إلى أساليب العرب القدماء، ونتج عن ذلك الخلاف آراءٌ وأبحاثٌ وكتبٌ للفريقين؛ ومنها «الموازنة بين الطائيين أبي تمام والبحتري» للآمدي(5).
لأبي تمام ديوان شعري يشتمل على الأغراض المعروفة من مدح ورثاء وغزل وفخر وزهد وهجاء، وقد صنَّفَ في الأدبِ كُتُبًا جَمعَ فيها (أشياء من شعر الشعراء المقلين والمغمورين غير المشهورين) من القدماء والإسلاميين.. منها ديوان الحماسة، وهو من كتب المختارات الشعرية، التي يَكثُرُ تداولها.
*عبدالله الحذيفي
30 - يوليو - 2008
سِحــرُ الـربـيـع من قصيدة لأبي تمـام (قراءة مدرسية) د/ عبد الله طاهر الحذيفي (3)    كن أول من يقيّم
 
إضـاءة النص:
ينسجم بناءُ هذه القصيدة مع رؤية أبي تمام للعملية الشعرية، فهي لا تحاكي في بنائها الموضوعي أو الفني بناءَ القصيدة العربية التقليدية؛ فلا ذكر للأطلال ولا الرحلة، ولا ذكر للناقة ولا لحيوان الصحراء ولا مشاهد الصيد، كما كانت العادة في كثير من قصائد الشعر الجاهلي أو الأموي، على الرغم من كونِها قصيدة مدح، وجملة أبياتها في الديوان اثنان وثلاثون بيتاً، وثلثها الأخير تقريباً مكرس لمدح المعتصم.
إن ما بين أيدينا من القصيدة قريبٌ من ثلثيها (21) بيتاً، يدور موضوعها حولَ وصفِ جمالِ الطبيعة الناشئ في الربيع، وهو وصفٌ يتَّسِمُ بطابع الإبداع التمَّاميِّ، بما فيه من خيالٍ عبقري خلاق وحرص على ابتكار الجديد والاحتفاء بالأنيق والاعتناء بتصويره، وتتوزع على النحو الآتي:
أ) المطلع: (ب1):
       رسمَ فيه أبو تمام بدقة الحدثَ المدهشَ الباعث على التأمُّلِ الممتع والداعي للتفسير:
رَقَّتْ حَواشِي الدهْرِ فَهْيَ تَمَرْمَرُ      وَغَدَا الثَّرَى في حَلْيِهِ يَتَكسَّرُ
فحواشي الدهر؛ أي أطرافه، وجوانبه - وهو الموصوف غالبا بالقسْوة، وطمس كل جميل والتفريق بين كلّ المحبين-  قد أصبحت تموجُ وتضطرب، من شدة اللين والنعمة، إنه زمنٌ محبوب، كل ما فيه يبعث على الفرح. فإذا كان هذا شأن الزمن، فماذا عن المكان ؟‍ لقد غدا المكان/ الثرَى/ وجَهُ الأرض مكسوًّا بحلةٍ زاهية تبعثُ على الرغبة والمتعة، في تأمُّلها والشغف بها. إنها من الحلل التي لم ينسجها إنسان، غطاء من النبات المكلل بالأزهار، تتشبه في الأرض بعروسٍ تتثنى من اللين والخَفَر. فأيّ يدٍ أبدعت هذا الجمال؟!
ب) الاستطراد: (ب2-7):
        وفيه يبين الشاعر الأسباب التي تضافرت على صنع هذا الجمال، فمنها ؛ الشتاء الذي حلّ عندما تسنَّمَ المعتصم كرسيَّ الخلافة العباسي، فجاء السحابُ المحمل بالمطر الكثير، الذي أروى الأرض، الشتاءُ الذي أعطى عطاءَ محب لا يبالي أن يكون هو نفسه مادة العطاء والسعادة للأرض؛ "كم ليلةٍ واسَى البلادَ بنفسِهِ" و"كم سال منهمرا في نهار تلك الليلة مطرًا لا يكاد ينقطع؟‍ فما جاءتْ مقدمة المصيف (الربيع) إلاَّ والأرض على أشدّ ما تكون من الاستعداد للإنبات، لقد تحول الشتاء -على يد أبي تمام- من رمزٍ للجَدْبِ والموت إلى سبب أساسي للخصب والعطاء والحياة، ولولاه لما جاءَ الربيعُ والصيفُ إلاّ على شجيرات ضعيفة ركيكة قليلة الزهر لا تثير البهجة في المتوسمين. لقد كان شتاءً خارقا للعادة، إذ كان المطر فيه يتبادل الأدوار مع الصحو، وكان كلٌّ منهما يتلبَّس بالآخر، كي لا تصاب الأرض بالضرر، فانعدام المطر يجعلها جدباء قاحلة جرداء من حللها البهية، واتصال هطول المطر عليها يصيبها بفيضان الماء وموت النبات والدمار والخراب وربما الطوفان، ولذا فطن أبو تمام إلى أن يصور المقدار المطلوب من الصحو والمطر، حتى لا تعطبَ وظيفةُ الأرضِ بسبب زيادة هذا أو ذاك على الحد. وتدعو الصورة الشعرية: "مطرٌ يذوبُ الصحوُ منه" إلى تأمل ذلك التعاقب البطيء - فكأننا لا نتوقع صحواً معه، يتلوه: "صحوٌ يكادُ من الغضارة يُمطر" صحوٌ مفعم بما نسميه اليوم "بخار الماء"- الذي لاشك يبعث على النشاط والحيوية الخلاقة. وجعلهما الشاعر غيْثين؛ أحدهما الأنواء/ المطر والآخر الصحو؛ لأن كلاًّ منهما يغيثُ الأرضَ من ضده.
ج) أول ربيع في خلافة المعتصم: (ب8):
خاطب أبو تمام الربيعَ، مناديا "أَرَبِيْعَـنَا " وأضافه إلى "نا" المتكلم، وأراد "الربيعَ" الذي حَلَّ سنة تسعَ عشرةَ بعد المائتين من الهجرة، وهو أول ربيع في خلافة المعتصم، ولا يستبعد أنْ يكونَ أرادَ الكنايةَ عن هذا الممدوح، الذي تعلَّقَ به أبو تمام أكثر من سواه، وخصّه بأنقى مدائحه؛ كالقصيدة التي في فتح عمورية، ومطلعها:
السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتبِ         في حدِّهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللعبِ
د) تصوير جمال الطبيعة الربيعية: (ب9-20):
وإبراز ملامح الإبداع، في ذلك الجمال، ودعوةُ الشاعرِ صاحبيْهِ - كما هو المعتاد في الشعر العربي- إلى مشاركته حاله في تأمل هذا الجمال الخلاب والانشراح به والإعلان عنه:
- ففي البيتين الأولين (9 و10)، من المقطع، يلتفتُ أبو تمام إلى مسألة استحالة البقاء على حالة واحدة، و إلاَّ لَمَا أدركنا الجمالَ في الأشياء، إذ لابدَّ للروضِ أن يذهب حُسنه، ليعودَ من جديدٍ، بلْ إنَّ حُسْنَ الأرضَ لا يتحقق إلاَّ بحدوث تداولِ الفصول عليها، جدبٌ وخصبٌ، وتيبُّس واخضرار، صيفٌ وشتاء..
- وفي (ب11)، يبدو الشاعر في أشدِّ لحظاتِ الدهشة، إذ لا تتوقف الأرض عن التباهي بحللها البديعة المكونة من النباتات المغطاة بألوان الأزهار الجذابة التي تعلن عن استعداد الأشجار للإخصاب والتلاقح، كي تتحول الأزهار إلى ثمار تحمل البذورَ للحفاظِ على النوع. إنَّها تبدو في درجة من الإغراء تجعل الشاعر مشدوها بِها هو ومن يشاركه هذا الإحساس بجمال الحدائق والبساتين..
- لقد اختلط ضوء الشمس الشفاف بألوان أزهار الرُّبَا الصفراء، في (ب12) فإذا بتداخلهما يُنتجُ نهارًا كالليل المقمر، ضوءًا يبعث على السعادة وينشط جانب الإبداع الشعري الخلاق.
- إن الحياة بلا ربيع في (ب13) موطنُ معاش يعمل فيه الناس ما يساعدهم على البقاء أملاً في مجيء الربيع، أما إذا جاء الربيع، فهي موطن الخصب والفن والألوان الساحرة الخلابة التي تستحق أن يحرص المرء على مشاهدتها والاستمتاع بلذاتِها، ويتمنى البقاء الدائم فيها. 
- في (ب14)، يجعل الشاعر للأرض بطونا تقوم بدورٍ أشبه بدور الرحم التي ينمو فيها الجنين حتى يكتمل، فيخرج إلى الحياة مخلوقاً جميلاً يبعث على بهجة وسرور أبويه وأهله والناس، ومولودُ الأرض هو تلك النباتات المكللة بالأزهار/ النَّوْر التي تبعث السرورَ البالغ في القلوب، المتأملة للجمال في الطبيعة الخلابة، كما رسمها الشاعر، "تكادُ لها القلوبُ تَنَوَّرُ" أي تصبح نَوْرًا/ أزهاراً.
- في (ب15) يبرز أبو تمام صورة ما تخرجه الأرض من بطونها؛ إنها تُخرِجُ أشجارًا غضّةً كالصبايا "من كلِّ زَاهِرَةٍ تَرقْرقُ بالنَّدى" غير أن الندى الكثيف يتساقط منها على الثرى، دليلا على الخصوبة والارتواء، تلك الأشجار/ العرائس تبدو للناظر بفعل النسيم تارة ويحجبها ما سواها من  النباتات "الجميم" تارة أخرى، أنها الآن تحت ريشة الفنان الشاعر تشبه العذراء، التي يكسوها جلالُ الحياءِ، فما تكاد تبدو للعيان حتى تختفي عن الأنظار، وهنا يشتد أسرها للقلوب المتشوقة للجمال.. ومثل تلك الشجرة/ الفتاة العذراء أشجار كثيرة، أصبحتْ تغطي وجه الأرض " حَتَّى غَدَتْ وَهَدَاتُها ونِجَادُها " من حول الشاعر عرائسَ مروجٍ تفتنُ الناظرين، تتلون حللها/ خلعها الربيعية الزاهية، وكأنها تتراقص في سيرها دلالا..
وفي معرض الألوان، نرى الشاعر يذكر "الأصفر"، وبعض درجاته: "الفاقع"، وكان لهذا اللون في العصر العباسي مزية وفضل على ألوان كثيرة، وربما عاد ذلك إلى كثرةِ انتشار الحدائق والبساتين، إذ يغلب على أزهارها اللون الأصفر، يليه اللون الأحمر، وتَدِقُّ مشاهدةُ أبي تمام، فيصور تبلج الأزهار ذات اللون الأصفر حين تفتق براعمها عن زهرة شفاف زاهٍ إنه كلون اللؤلؤ عندما ينشق عنه المحار، ثم يَصْفَرُّ قليلا قليلا حتى يغدو بلون الزعفران.
هـ) خاتمة المقطع الوصفي:  (ب20 و21):
والملاحظ أن الشطر الأول من (ب20) لا يزال ينتمي إلى ما فُتِنَ به الشاعر من ألوان الأزهار، فمنها ما لونه أحمر بدرجة قريبة من الأصفر وله بريق جذاب، أما الشطر الثاني من البيت فإن أبا تمام يبحث فيه عن العلة التي أدت إلى سيطرة اللون الأصفر على الأزهار، لقد ربط ذلك بالهواء/ السماء، فمن السماء يهبط لون شعاع الشمس الأصفر منتشرا عند الأصيل، وفي الأفق الغربي يبدو الشفق الأصفر، بعد الغروب، وهو علامة على وقت المغرب، ويليه الشفق الأحمر، وهو علامة على وقت العشاء. وهما من أوقات الصلوات، وبهذا يربط الشاعر بين الإبداع الفني في الطبيعة والسماء وما ترسله من أسباب الجمال ولإبداع والهداية، ويتجلى ذلك بوضوح في (ب21):
صُنْعُ الذي لوْلاَ بَدَائِعُ صُنْعِهِ   ما عَادَ أَصْفََر بَعدَ إذْ هُوَ أخْضَرُ
إن كل هذا الجمال من صنع الله الذي لا حصر لبدائع صنعه، المحيط علما بأسرار الحياة، الذي أخرج من الأخضر/ الأشجار هذه الألوان الحمراء والصفراء الفاتنة. ولا أحسب الشاعر إلاَّ متأثرا هنا بما جاء في الآية: )الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ( [ يس: 80] أليس في الشجر الأخضر يكْمُنُ مصدر الطاقة، وعليه تتكئ الحياة والجمال ؟!
هوامش:
(1) روى ابن المعتز أن «محمد بن قدامة قال: دخلتُ على حبيبِ بنِ أوسٍ الطائيّ بقِزْوين، وحولهِ من الدفاتر ما غرقَ فيه، فما يكاد يُرَى.. فقلتُ: يا أبا تمام إنك لتنظر في الكتب كثيرا، وتدمن الدرسَ فما أصبركَ عليها؟! فقال: والله ما لي إلْفٌ غيرها ولا لذَّةٌ سواها، وإنِّي لَخَلِيْقٌ أنْ أتفقَّدَهَا أنْ أُحْسِنَ، وإذا بحزمتين: واحدة عن يمينه، وواحدة عن شماله، وهو منهمك ينظر فيهما، ويميزهما من دون سائر الكتب...  وإذا التي عن يمينه شعر مسلم بن الوليد صريع الغوانِي، وعن يساره شعر أبِي نواس». ينظر: طبقات الشعراء: 282- 286.
(2) قال شوقي ضيف عنه: «انتهى عنده مذهب التصنيع إلى غايته، وهو يقف فيه علما شامخا لا تتطاول إليه الأعناق».
(3) ينظر د/ فهد عكام - نظرية أبي تمام في الفن الشعري (التقنية وجمالية القول) مجلة الموقف الأدبي السورية، ع147، تموز 1983.
(4) البحتري: هو أبو عبادة الوليدُ بن عُبيْدٍ الطائي (204- 284)، أدركَ من حياة أبي تمام قرابة (26) سنة، وعرض عليه شعره، فأعجب به، وأهداه النصح فيه، وأجازه، وكتب له إلى بعض الولاة، فمدحهم وأخذ منهم المكافأة، وكان البحتري يقول بعد ذلك: والله ما أكلت الخبز إلا به،  وكان إذا سُئِلَ: من أجود شعرا؟ هو أم أبو تمام؟ قال: جيده خير من جيدي، ورديئي خير من رديئه،  قصد الولاةَ، والوزراء، والخلفاء، وكان اتصاله بالمتوكل: (232-247هـ) أوثق من غيره من الخلفاء.
(5) هو أبو القاسم الحسن بن بشر (ت 370هـ-980م)
 
*عبدالله الحذيفي
30 - يوليو - 2008