موضوع النقاش : شارع المتنبي ببغداد.. هل ينهض من جديد؟ قيّم
التقييم : ( من قبل 2 أعضاء )
رأي الوراق :
Makki
21 - يوليو - 2008
كنت على بعد الاف الاميال وعشرات من سنين الغربة حين داهمني خبر التفجير الذي تعرض له شارع المتنبي الذي توزع مكتباته العديدة على الناس الثقافة أكثر بكثير من اقداح الشاي وفناجين القهوة.
يومها أعلنت حدادا منقعا بالالم في داخلي وأنا اتابع بقايا المكتبات المحروقة وهي محفوفة بأكوام المخطوطات والمؤلفات التي شوهتها النيران حتى باتت شظايا تتلوى حرقا في شارع لا ذنب له سوى انه يتنفس عطر التاريخ والحياة ويربط بين رأس سوق السراي الذي يعد اقدم اسواق الكتب في العاصمة العراقية وشارع الرشيد أحد العروق التجارية والترفيهية القديمة.
ومما زاد في كآبتي وانا قابع في ليل المنفى ان الشارع تُرك مهملا لسنوات حتى ان صور الخراب باتت تلازمه وتأخذ بتلابيبه ، وما كان لي من قوة للدفاع عن هذا المكان المنتهك الا الدعاء والتمني.
وقبل أيام أمطرني احد الشعراء العراقيين الذين احبهم واتشرف بصداقتهم بعدد من الصور عن " اعادة اعمار شارع المتنبي " وكانت بحق من أجمل الزخات التي لامست الروح برطوبة الفرح والامتنان. وما اراحني ان العمل جار بشكل جيد لاعادة الروح للشارع الذي لطالما تجول فيه الرصافي والزهاوي والجواهري وجمال الدين وزاره جواد سليم ويوسف العاني ومنير بشير وغيرهم من رموز فضلا عن زواره الكثر من العرب والاجانب.
وتعميما لفرحتي التي لن تتم الا بانتهاء كامل الاعمار في هذا الصرح البغدادي العريق ، فقد اخترت اربعا من الصور لعرضها على الاحبة من زوار الوراق العزيز ، واذ ليس لي من معرفة بكيفية ارسالها مباشرة للموقع اخترت استثمار القلب الطيب للحبيب زهير وحيويته التي لا تنضب كي يتسلمها ويتولى بمعرفته عرضها لحضراتكم.
وفي فرصة لاحقة سانقل لكم جانبا من الحياة اليومية لهذا الشارع الذي تكرم علينا بأيام تطرز الذاكرة احلى تطريز.
يذكر النديم (ت 388 ) أول محنة من محن الوراقة ببغداد إبان الحرب بين الأخوين الأمين والمأمون، عندما نُهبت الدواوين: «كانت تمحى ويُكتب فيها» (الفهرست). وبعدها أُحرقت على مرأى من الناس، أكثر من مرة، كُتب أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460)، وذلك حال دخول السلاجقة بغداد، فاضطر إلى الإقامة بالنجف، وكان ذلك سبباً لتأسيس الحوزة العلمية عام 448هـ.
وحسب ابن الأثير فأن مكتبة المدرسة النظامية ببغداد أُحرقت في سنة 510هـ لكن الكُتب نجت بأعجوبة. (المكتبات في الإسلام عن الكامل في التاريخ).
وبعدها كانت كارثة الكُتب إبان الغزو المغولي لبغداد (656هـ). إلا أن المؤرخين اختلفوا في تقديراتهم، بين مغالٍ قال جرت دجلة بلونين: أحمر من كثرة الدماء وأسود من كثرة المداد. ومن دون ذكر أي رأي آخر ظل المعاصرون يرددون تلك المقولة، مع أنها ليست ثابتة ولا مؤكدة في التاريخ.
وخلاف ذلك يذكر الفقيه والمؤرخ الحنبلي ابن الفوطي (ت 723هـ) في معجمه «تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب»، أن عالم الفلك الخواجة نصير الدين الطوسي (ت 673هـ)، الذي كان أحد المرافقين لهولاكو مع فقهاء وعلماء آخرين، تكلف بحماية العلماء وحماية المكتبات، فكلف بدوره شارح نهج البلاغة الشافعي ابن أبي الحديد (ت 656هـ) وآخرين بإعادة الكُتب المنهوبة من الخزائن، والتي اشتراها أهل الحلة والكوفة أيام حصار بغداد، قبيل الغزو.
أما كُتب المدرسة المستنصرية فيقال انها لم يصبها أذى، وظلت المدرسة عاملة حتى القرن العاشر الهجري. إضافة إلى مكتبة المستنصرية التي افتتحت العام 631هـ وحينها قال أحد الشعراء:
أنشأ الخليفة للعلوم خزانة.. سارت بسيرة فضله أخبارها
وقد يفاجأ المثقفون الذين تابعوا تفجير سوق الوراقين إذا علموا أن بين أروقة المدرسة المستنصرية ومكتبها اخترعت قراءة وكتابة العميان، أي سبقت باريس وعالمها (بريل) بسبعمائة عاماً، والمخترع هو مدرس المدرسة والمقيم فيها الأعمى زَين الدين علي بن أحمد الآمدي (ت 714هـ).
إلا أن سوق الوراقة، التي ذكرها النديم، والمكتبات التي ظلت قائمة بعد الغزو المغولي، لم يبق منها شيء في العهد العثماني. إذ لم يجد الرحالة نيبور، الذي زار بغداد في القرن السادس عشر الميلادي، «سوقاً للكُتب»، ويقصد بيع المخطوطات. ولا ريب أن العديد من المخطوطات، مثلما الآثار الإسلامية، أخذت طريقها إلى استانبول، حيث عُمرت على حساب مدن أقاليم الإمبراطورية العثمانية الأخرى. ولم ينشأ سوق الوراقين مجدداً إلا بداية القرن العشرين.
ومن نافلة القول ان وجود الكتاب المطبوع ليس بالجديد ببغداد، رغم محدوديته، فقد نشر أيام الوالي المملوكي داود باشا (1830) كتاب «دوحة الوزراء»، من مطبعة «دار السلام»، لرسول الكركوكلي. كذلك بدأت مطبعة الموصل الحجرية تطبع الكتب منذ 1856، وذلك بجهود الآباء الدوميكان.
ولا ندري، إن كان سوق السراي هو وريث سوق الوراقين المذكور سلفاً، إذ تأسست فيه أوائل العشرينات مكتبات قليلة، مثل المكتبة «العصرية» لمحمود حلمي ، ومكتبة «النعمان»، والمكتبة «الحيدرية»التي اسسها عبد الامير الحيدري ثم تولاها بعد وفاته نجله الاكبر كاظم الحيدري الذي يصفه الباحث العراقي حسن العلوي بأنه آخر الوراقين في بغداد، والمكتبة «العربية»، ومكتبة عبد الحميد زاهد.
وتأسست في الثلاثينات مكتبة «المثنى»، التي يعد صاحبها الوراق قاسم محمد الرجب (ت 1974) كأحد أهم تجار وصُناع الكتاب ببغداد، وله مجلس أدبي في باحة المكتبة رغم انه لم يكمل دراسته المتوسطة وقد ظل المجلس مفتوحاً حتى وفاته وقد أسس مكتبته بدكان صغير في سوق السراي، وظل يتنقل بها من دكان إلى آخر حتى «اشترى بيت الدكتور صائب شوكت فحوّله إلى مكتبة المثنى في شارع المتنبي» (المطبعي، موسوعة أعلام العراق). وكان للمثنى، التي تعرضت هي الاخرى إلى حريق مدمر في نهاية التسعينات من القرن المنصرم، فرع بساحة التحرير، من الباب الشرقي، وقد فهرسها صاحبها بستة مجلدات، وصدر مجلة «المكتبة» الخاصة بعالم الكتب.
في المرة القادمة ساتحدث عن "مطعم الاخلاص" الذي يقع في بداية شارع المتنبي من جهة شارع الرشيد و"مقهى الشابندر" القريب من رأس سوق السراي ، وأعد ان الكلام سيكون خاليا من السرد التاريخي الممل باذن الله
أشكرك أستاذ مكي على هذا الموضوع الهام , ما يؤلم القلب حقا هو وجود مخطط مبرمج لتضييع التراث والتاريخ العربي , بينما لا نملك نحن العرب أي فكرةٍِ للحفاظ على كنوزنا الباقية , شارع المتنبي وأماكن أخرى على امتداد الوطن تركناها وحيدةً لتُدافع عن نفسها في وجه المعتدين ,,,
... لا أدري هل كلام إبن الفوطي موثوقاً فهو يعارضُ ما نقله الكثير من المؤرخين , وما وصفه المعاصرون , فربما دمر المغول القسم الأكبر من الكتب ( حرقاً أوإغراقاً ) وبقي القسم الذي نقله العثمانيون لعاصمتهم استنبول , فالشيء الثابت تاريخيا , هو أن المغول كانوا همجيين , وأحرقوا ودمروا في كل المدن التي دخلوها فما بالهم هذه المرة يقومون بحماية العلماء والمكتبات ؟ ,,,
العزيز محمد اتذوق مثلك تماما مرارة الفقدان الموجع لتراثنا وهو فقدان من نوع خاص لان العرب - وبقصد او بدونه - شاركوا أحيانا ضياعه .. عموما وكما قيل : "في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء". أما بخصوص رواية ابن الفوطي فقد أردت ان أكون " ليبراليا " في قراءة التاريخ ولذا ادرجت هذه الرواية رغم ضعفها كما تفضلت في تعليقك. والحقيقة اني لست في موقع الحكم على صحتها او لا صحتها ، فهناك آليات لتدقيق الروايات لها اهلها المختصون بها لكني اميل الى الايمان الكامل بان المغول حملوا مشروع "التخريب" بكل جوانبه واطفأوا به فناراتنا الفكرية والثقافية وليس غريبا ان تلحظ معي شدة العتمة الابداعية في تلك الفترة. صدقني يا عزيزي كم انا سعيد لاهتمامك معي بهذا الشارع راجيا ان تكون عند حسن ظنك الكتابات اللاحقة عنه. وألف شكر
في شارعٍ يغص بالمكتبات التي تبيع الكتب والمجلات القديمة والحديثة يتجولعاشقو القراءة جيئة وذهابا بحثا عما لذ وطاب من جديدٍ حافل بالحداثة ومابعدها وقديمٍ ينضح من بين اوراقه المتهرئة نبيذ معرفي ينعش الروح واناثار بعض "العطاس" ، لا كلل ولا ملل بين آخر الطبعات وأولاها.
وحين يداهم رواد شارع المتنبي التعب فهناك استراحتانرئيستان لخدمتهم الاولى عند رأسه المطل على شارع الرشيد وهي " مطعمالاخلاص" ، والاخرى عند نهايته المفتوحة على سوق السراي و"القشلة" العثمانيةوهي "مقهى الشابندر".
بالنسبة للمطعم الذي تفوح منه روائح "الكص" و"التكّة والكباب" و"الجليفراي" - الجيم بثلاث نقاط - وغيرها من الاكلات البغدادية ، فأن زواره في غالبيتهم حسبما اتذكر من الشعراءوالكتاب والمتورطين بتعاطي الثقافة وهو حضور ينعكس جمالا على اجواء وأحاديث المطعم وهذه خصيصة نادرة ولا ريب.
الى ذلك فإن مطعم الاخلاص كان يدار و"يخدم" من قبل رجل"عبقري" اسمه "زاير" الذي يعد عصب الاهتمام بزبائن المطعم. فزاير يستلم الطلبات دون دفتر ولا اوراق .. ثم يحمل على ساعدهالأسمر عشرات من الصحون المعبئة بطلبات مختلفة فضلا عن صحون " العوازة " او الاكل الاضافي ليوزعها على على الطاولات دون ان يخطئ مكانوصاحب الطلب..
والطريف في هذا المطعم طريقة الدفع ، اذ يقف الزبائن وهم كثر امام صاحب المطعم الذي يجلس عادة خلف طاولة كبيرة عند الباب وينتظرون دورهم للدفع. الزبون هنا لا يُسأل أبدا عماذا أكل وكم شيش طلب ، وانما يقوم صاحب المطعم بالكبس على زر جرس امامه على الطاولة فيرن صوته حتى يطل زاير من مكانه ليعلن حساب الزبون، ونادرا ما يخطئ رغم كثرة رواد المطعم المكون من طابقين يصول فيهما زاير ويجول.
ذات مرة كنت استمتع بأدائه في الاعلان عن الحسابات .كان يصيح مع كل رنة جرس : اربعمية وخمسين.. سبعمية.. دينار وربع.. مية وخمسين ثم اذا به يقول : على حسابي !.. والأخيرة تعني ان الزبون صديق عزيز على زاير وليس عليه ان يدفع.. وقد حاول الرجل كثيرا ان يدفع لكن دون جدوى فصاحب المطعم لا يكسر كلمة للعبقري زلير ، خرج الزبون ضاحكا شاكرا.
هذا المطعم لم استمتع في حياتي بأشهى من أكلاته ولا أمتع من الجلسة فيه ولا أجمل من اجواء احاديثه التي يتوزعها الشعر والنثر ودعابة المثقفين.
أما مقهى الشابندر فقد تأسس سنة 1917 بعدما كان مطبعة مشهورة في بغداد، وأصحابها من عائلةعراقية بغدادية أصيلة، عميدها المرحوم (موسى الشابندر) الذي الف كتاباً عن بغداد حمل عنوان "ذكريات بغدادية ، وسرعان ما لاقى المقهى الجديد نجاحاً كبيراً وبات ملاذا يرتاده أهالي محلات "جديد حسن باشا" و"الحيدر خانة". وترتاد المقهى شرائح اجتماعية كثيرة ومتنوعة، اذ يقف عنده المختارون والمحامون والمؤرخون ومنهم مثلاً (فائقتوفيق) و(مظهر العزاوي) و(توفيق الفكيكي) وغيرهم. كما يلتقي عنده عدد من رؤساء العشائر العراقية ومنهم الشيخ (حبيب الخيزران) ، وشيخ (جياد الشعلان) وشيخ (حجي عجة الدلي) و(حسينالمطر) وشيخ (شندل المدلول) وشيخ (جاسب المطشر) وغيرهم وعند المساء يأتي للتسامر فيه بعض المع الأدباء والصحافيين. يبقى ان نذكر أن حفلات للمقام العراقي كانت تقام في ليالي رمضانبحضور قارئ المقام العراقي الرائد (رشيد القندرجي) وكان يخصص ريع الحفلات إلى طلابمدرسة التفيض الأهلية.
ويضيفمقال للكاتب العراقي جلال حسن بان الندوات والاجتماعات كانت تعقد في هذا المقهى، " ففي سنة 1933 انعقدالاجتماع الأول لنقابة عمال الميكانيك، ونقابة عمال الجلود، ومنه انطلقتفي سنة 1948 أكبر تظاهرة وطنية تندد وتحتج على معاهدة (بورتسموث)، بعد أنطوقت شرطة السيارة بداية الجسر (جسر الشهداء حالياً) وشارع الرشيد مما حدابالمتظاهرين إلى اتخاذ مقهى الشابندر نقطة الانطلاق بعد محاصرتهم فيه" وكباقي مقاهي بغداد الراقية يتزين مقهى الشابندر بسماورات نحاسيةمختلفة ، ودلال قهوة و نركيلات وساعات جداريةالقديمة. كما زينت جدران المقهى لوحات بغدادية زيتية وفوتوغرافية تعود إلىالحياة البغدادية في العشرينيات منها صورة كبيرة للملك فيصل الأول في أحداجتماعاته التي تضم أعيان بغداد وصورة للجنرال (خليل باشا) والي بغدادوصورة جثمان الملك غازي محمولاً على أكتاف ضباطالحرس الملكي وصورة نادرة تمثل سمو الشريف شرف الوصي على العرش المعظم يقسم اليمينالقانونية أمام مجلس الأمة ، فضلا عن آيات قرآنية وإهداءات منشخصيات بغدادية وفنانين عراقيين.
ولا شك ان هذه الملامح ، التي ذكرني ببعضها مشكورا مقال السيد حسن ، يمكن ان تعطي أيضا صورة واضحة لاجواء هذا المقهى ، الذي قيل لي انه بحاجة ماسة كي يستفيد عافيته بعدما تدهورت احواله في سنوات النظام السابق بسبب الرقابة الامنية التي فرضها على رواده ، ولم تتحسن حاله في عهد ما بعد سقوطه اذ اضحى مقهى عاديا تصيح جدرانه " يا ويلاه .. يا ويلاه " وهل من يد كريمة تعيدني الى سابق عزي ومجدي".
في فرصة مقبلة سنستذكر معا " دلال الكتب " المرحوم احمد كاظمية الذي كان يدلل على الكتب التي تباع على مكتبات سوق السراي وشارع المتنبي.
احيانا يطرح البعض سواء من رواد شارع المتنبي وسوق السراي أو من اصحاب المكتبات فيهما مجموعات من الكتب لبيعها على المكتبات. هذه المجموعات تسلم عادة الى "أحمد كاظمية" صاحب احدى المكتبات الصغيرة ودلال الكتب المعروف كي يتولى بيعها في مزاده الجميل مقابل أجر معلوم.
وللمرحوم أحمد كاظمية ذي الصوت الجهوري أسلوبه وطريقته في عرض الكتب للمزاد على أصحاب المكتبات ، ونادرا ما كان يسمح لأحد من المارة بالمشاركة في المزاد.. الدلال يقوم أولا بعرض الكتب المعروضة للبيع على المرحومين كاظم الحيدري صاحب مكتبة الحيدري وحسين الفلفلي صاحب مكتبة الزوراء وغيرهما من أصحاب المكتبات في سوق السراي قبل أن يعرضها على مكتبات في شارع المتنبي كالعصرية والأهلية والتربية غيرها ، وخلال هذه العملية قد يعطي أحد اصحاب المكتبات سعرا أوليا للكتب المعروضة للبيع ثم ينطلق المزاد حيث يتجول " كاظمية" على المشاركين حاملا هذه الكتب.. فيضيف الحيدري .. ويزيد الفلفلي .. وتذهب الكتب لمكتبات المتنبي وتعود بسعر أعلى.. يسأل الحيدري عن آخر المزايدين ويجيب كاظمية " على أبو العصرية " فيزيد الحيدري مثلا أو ينسحب. وعندما يصل السعر لمستويات عالية قد يطلب البعض من المشاركين في المزاد من الدلال جلب الكتب مرة اخرى لاعادة النظر فيها واتخاذ قرار الاستمرار في المزاد أم لا.
كاظمية يصيح في المراحل النهائية من المزاد " رح أبيع.. رح أصالح " قبل ان يبشر من رست عليه.
الطريف ان بعض المارة في السوق أو الشارع ممن لا علم لهم بعمل كاظمية يتخيلون أنه معتوه " على قد الحال " ، فيما دلال الكتب لا يابه بتعليقاتهم التي يرد على بعضها بعبارات ضاحكة ، وللشهادة فهو لا يتواني عندما يكون بمزاج طيب عن ترديد بعض الأشعار والحكم وحتى الاغاني الشعبية خلال المزاد.. في ذات مرة سمعته يردد:
مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها
وفي بعض المرات يردد كاظمية بعضا من اغاني سليمة مراد أو صديقة الملاية او محمد القبنجي وهكذا.
وحسب ما نقل لي أحد اصحاب المكتبات فإن التنافس بين المشاركين في المزاد يقود أحيانا الى ايقاع بعضهم بالبعض الاخر. مثلا يرى البعض في الكتب التي يستمر الحيدري في الزيادة عليها ، وهو شاعر ومثقف ووراق من الطراز الثقيل ، يرى فيها كتبا قيمة تستحق مواصلة المزاد ما قد يزعج الحيدري الذي يستمر في رفع أسعارها الى حدود تتجاوز قيمتها ثم " يورط " بها الاخرين نكاية بهم لاعتقاده انهم منعوه فرصة شرائها..
ومع ذلك، فانها أيام بلون الخير وعطر المحبة وقد ذهبت مع رموزها وأبطالها ، وأحدهم " أحمد كاظمية " دلال السوق العريق الذي تشرفت مرات ومرات بالاستمتاع بأدائه الرائع.
في شارع المتنبي وسوق السراي ببغداد ظاهرة طريفة ، فالعديد من أصحاب المكتبات لم يقتصروا على استيراد وبيع الكتب بل مارس البعض منهم ، وخاصة ممن توفر لديهم حظ وافر من المعرفة ، طبع ونشر الكتب ، وقد بدا هذا واضحا في " المكتبة العربية " للمرحوم نعمان الاعظمي و " المثنى " لقاسم محمد الرجب و" الأهلية " لشمس الدين الحيدري وغيرها. وعلى سبيل المثال فان المرحوم نعمان الاعظمي (ت 1888 ) كما ينقل الذين عرفوه عن قرب كان يصب اهتمامه على إحياء ما يتعلق بتاريخ العراق لا سيما بغداد فأقدم على نشر كثير من الكتب المهمة كتاريخ بغداد للخطيب البغدادي الذي كان يعد من الكتب المفقودة وكتاب الحوادث الجامعة بإشراف المرحوم العلامة مصطفى جواد ونشر أيضاً كتاب النور السافر في أعيان القرن العاشر للعيدروسي، وكانت أكثر نشراته ببغداد بمطبعة الفرات وصاحبها محمد رشيد الصفار. ومن مطبوعات المكتبة العربية أيضا كتاب "الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناشر" للامام المصلح السيد محمد شكري الالوسي وقد شرحه المرحوم محمد بهجت الاثري. كما طبع الاعظمي ايضا كتاب "أدب الكتاب" لابي بكر محمد بن يحيى الصولي، و"نزهة الانام في محاسن الشام" لابي البقاء عبد الله بن محمد البدري المصري الدمشقي ، وكتاب " الأدب العصري في العراق العربي" لرفائيل بطي. وتؤكد الرويات المنقولة أن نعمان الأعظمي كان يحسن اختيار الكتب التي يتولى طبعها ونشرها ، وكان إلى جانب ما نشره من الكتب القيمة التي اشبع بها رغبته قد نشر كثيراً من القصص المنتزعة من ألف ليلة وليلة أو من كتب أخرى ، مثل قصة المياسة والمقداد وقصة مناجاة موسى وكان ينشر أدعية كثيرة مختلفة أوسعها انتشاراً هو دعاء عرف بـ(عهود السليمانية) وفيه أحجية سبع منجيات، ويحتوي على آية الكرسي ودعاء الاستغاثة لتفريج الكروب وفوائد للقبول والعطف، وهو يحمل تميمة لكل طالب حاجة وفيه اسماء الله الحسنى، وسيف ذو الفقار. ومن أشهر المفكرات وأوسعها انتشاراً في بغداد وبيقة المحافظات العراقية (المفكرة العربية) التي يصدرها نعمان الأعظمي وهي كانت تصدر الى وقت قريب وكان ينظمها ويرتبها أحد خطباء المساجد في بعقوبة واسمه الزيدي، والمفكرة هذه تحتوي على خليط عجيب من الحكم والأمثال والأنواء الجوية وأمور أخرى لا يربطها رابط ولا تدخل تحت حصر كما كانت تحتوي على ذكر مواقيت الصلاة والأعياد الرسمية ووفيات الأئمة والقادة.
رحم الله الاعظمي واقرانه ممن عشقوا الحرف والكلمة ، ورحمنا معهم.
شارع المتنبي .. طقوس يوم الجمعة ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
بداية أود التوضيح أني تركت العراق منفيا في عدد من الدول أواخر السبعينات ، وهي سنون انقطعت فيها عن بغداد وأزقتها وأحيائها ، ومنها محلة جديد حسن باشا التي ينبض فيها شارع المتنبي. وقد اتصل بي بعض المعارف وطلبوا مني الكتابة عن السيد نعيم الشطري ، دلال شارع المتنبي اوائل التسعينات وحتى اليوم ، ونقل لي بعض منهم ذكرياته عن هذا الرجل الذي كان يؤذن لبيع الكتب في نهارات الجمع.
يقول الاستاذ يحيى الاميري المقيم في السويد وهو من رواد الشارع "أجمل ما يعجبني ويشنف أذاني ويزيد بي ّ البهجة ويقربني الى محتويات الشارع صوت، نعيم الشطري، وهو يردد بشكل مستمر بين فينة وأخرى وبنغمات وصوت رخيم جميل :
وخير صديق في الزمان كتاب
ويضيف الأميري قائلا : " هكذا يبدأ مؤذن المتنبي عمله يوم الجمعة حيث للشارع نكهة خاصة بهذا اليوم ... كل جمعة للشارع كرنفال يبدأ مع الصباح إذ يمنع دخول المركبات فيه ويكون فقط للسابلة الذين يكتظ بهم الشارع.
آلاف من الكتب والمجلدات والصحف والمجلات القديمة والحديثة وبمختلف اللغات ،رغم أن المطبوعات الحديثة في تلك الفترة كانت شحيحة ،إذ معلوم انه لا يدخل البلد الصحف والمجلات والكتب الحديثة ألا الشيء القليل الذي لا يشبع من جوع ولا يقي من برد "
لكن لبعض الكتب والمجلات والجرائد الممنوعة القديمة منها أو الحديثة رغم منع تداولها أو بيعها في العراق كان لها سوقها وناسها الخاصون في هذا الشارع ، يعرفها ويأخذ منها حاجته بحذر وخوف يصل حد الهلع ، من المترددين على السوق وعشاق المعرفة والحرية والأخبار الجديدة ، رغم قلتها ".
وعلى ذكر " الممنوع من المطبوعات " نقل لي نجل صاحب المكتبة الاهلية ذات مرة ان عدد الكتب والمجلات الممنوعة في العراق – كان ذلك اواسط السبعينات – بات بالالاف ! ، ولفت الى ان بيع هذه المطبوعات وشراءها يمكن ان يعرض لعقوبات شديدة .
وبحسب ما نقل لي فان عددا كبيرا من اصحاب المكتبات الخاصة باعوا كتبهم في هذا الشارع وعن طريق الشطري أيام الحصار الذي فرض على البلد حين كان ضيق الحال سائدا بين الناس.
ختاما اتمنى للسيد الشطري نهارات جمعة جميلة يقدم فيها ما لذ وطاب من كتب عذاب.. في فرصة قادمة ساسرد شيئا من الذكريات عن المكتبة العصرية للقاموسي وعن حنون الذي كان يبيع الشاي في سوق السراي وشارع المتنبي. اتمنى ان يسمح لي الوقت بذلك
اختلفت الآراء في تاريخ تأسيس المكتبة العصرية في بغداد ، لكن إجماعا يقول انها انشئت خلال العشر الأوائل من القرن الماضي من قبل المرحوم محمود حلمي الذي كان معروفا بتوزيع اغلب المجلات المصرية في العراق.
وقيل ان المكتبة العصرية تنقلت بين بين الباب الصغير لسوق الصياغ المرتبط بسوق السراي ، قبل ان تنتقل الى مكانين في سوق السراي ، ثم انتقلت الى شارع المتنبي مقابل المخبز العسكري قبل ان يستقر بها المقام ببناية المكتبة البغدادية.
وعندما ألمت أزمة مالية بالمرحوم محمود حلمي عام 1964 باع المكتبة العصرية للاديب صادق القاموسي ، فيما ظل حلمي يعمل في المكتبة كموظف فيها خصص له القاموسي مرتبا شهريا لحين وفاته رحمه الله.
وقد بيعت للمكتبة العصرية كثير من المكتبات الخاصة لأدباء ومفكرين ورجال دين عراقيين معروفين ومشهورين، منها مكتبة الشاعر المرحوم جميل صدقي الزهاوي وغيره.
وبحسب كتابات عديدة فقد كان للمكتبة العصرية أيام القاموسي مجلس يؤمه مثقفون ومبدعون بارزون كعباس العزاوي وعبد الرزاق الحسني وطه الهاشمي والعلامة الشيخ احمد الوائلي والشاعر السيد مصطفى جمال الدين والعلامة مصطفى جواد وغيرهم من شخصيات الوزن الثقيل.
والقاموسي ، كشاعر ( صدر ديوانه بعد وفاته باسم "ديوان صادق القاموسي" عام 2004 ) بتحقيق ابن أخيه محمد رضا القاموسي، عكس شخصيته الادبية على مكتبته حتى عدها الكثير واحدة من أكثر المكتبات العراقية نظاما وترتيبا ، حتى أن زائرها كان يسعد بطريقة عرض الكتب فيها وتوزيعها فضلا عن نوعية وندرة الكتب التي كانت تحتويها.
أما مؤسس المكتبة الاول محمود حلمي فقد كانت له عقلية تجارية لامعة ساعدته على أن يكون في مقدمة مستوردي المطبوعات المصرية من كتب ودوريات ومجلات. وقد ساهم في استثمارها وكيله اليهودي اسحاق ، رغم ان هم وغم الأخير كان المال أولا وثانيا وثالثا. وفي لقاء صحفي أجرته بعض المجلات مع حلمي ، كما نقلت صحيفة المدى العراقية ، قال: عندما أعلنت الحرب العالمية الثانية وأرتفع سعر الورق ارتفاعاً فاحشاً سافرت إلى القاهرة ومن هناك شحنت (500) دورة من كتاب (معجم الأدباء) لياقوت الحموي لتباع الدورة الواحدة التي تحوي (20) جزءاً بدينار واحد، وعندما عدت إلى بغداد وجدت هذه النسخ مفقودة فسألت وكيلي وكان يهودياً أسمه اسحق أين دورات معجم الأدباء؟ قال: بعتها فقلت: غير معقول لأن بيعها يحتاج في الأقل خمس سنوات. قال: بعتها وهاك الثمن. فقلت: ماذا (1500) دينار؟ قال: نعم بعتها في الشورجة بالميزان كل دورة بثلاثة دنانير صفقة واحدة بدلاً من أن ننتظر (خمس سنوات) لكي أبيعها بـ(500) دينار، وهكذا ذهبت (500) دورة من هذا الكتاب التراثي النادر بواسطة هذا التاجر اليهودي إلى سوق الشورجة لتصبح أعقاباً للسكائر.