التفسير الموضوعي
إن تفسير المنار لرشيد رضا استخدم تقنيات التفسير الموضوعي، من دون أن ينظِّر بشكل علمي لهذا المنهج.
ونستطيع أن نؤرخ - باطمئنان- لبداية البلورة العلمية لهذا المنهج باكتشاف محمود محمد حجازي ـ بعد كتابته "التفسير الواضح" _ "الوحدة الموضوعية في القرآن" ( 1)، ومنذ ذلك الحين ، بدأ الاهتمام يزداد بهذا النوع من التفسير ،وأصبح العمل متجهاً إلى بلورة هذا المنهج بشكل نظري.
منذ ذلك الحين أيضاً أخذت الدراسات تتكاثر تباعاً، وقدمت أطروحات جامعية عالية في هذا الموضوع ، وما تزال إلى اليوم تتقدم في صياغة منهج التفسير الموضوعي وتطوّره.
يقوم مبدأ التفسير الموضوعي على مفهوم "الوحدة الموضوعية" للقرآن وهو مفهوم بدا أن له معنيين هما:
أ ـ وحدة الأفكار والموضوعات:
التي يتناولها النص القرآني، فما يقدمه مثلاً عن (المال ) في أول القرآن الكريم، له علاقة مع ما يذكره عن( المال ) في آخره، ويتكامل معه، ذلك لأن المصدر الذي صدر عنه النص القرآني يفترض منطقيته وانسجامه مع بعضه، وهو معنى الآية الكريمة: ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) (2 ) . أو وحدة الموضوع الذي يطرحه القرآن في السورة، التي تشكل برمتها موضوعاً واحداً.
ب ـ وحدة القرآن الكريم، بناءً وموضوعاً:
بحيث يصبح كالكلمة الواحدة في موضوعاته ومفرداته وألفاظه ، وبناءً على مفهوم "الوحدة الموضوعية"(3 )وجد هناك ثلاثة تعريفات للتفسير الموضوعي، تجعلنا نقول بوجود ثلاثة أنواع في التفسير الموضوعي هي:
1 ـ المفردة القرآنية:
وهي دراسة لدلالة المفردات القرآنية داخل القرآن الكريم وفي حدوده فحسب، وبالرغم من أن هذا النوع من التفسير لكلمات القرآن يعتمد مبدأ "البنائية" للقرآن الكريم ، فإن بعض الباحثين لا يعتبره من التفسير الموضوعي، ذلك أنه لا يعطي صورة كاملة عن موضوع ما أو سورة ما، ولكن تفسير مفردات القرآن الكريم وتحديد دلالته هو في الواقع تحديد للمفاهيم.
وهذا النوع من التفسير يوجد جذوره في علم الأشباه والنظائر أو الوجوه والنظائر المعروف في علوم القرآن الكريم، وقد بدأ الاهتمام به في وقت متأخر، ذلك أنهم اكتشفوا أن المشكلة الأساسية في أي تفسير تكمن في التعامل مع القرآن مجرّد تعامل لغوي دون الانتباه إلى إمكانية أن يكون في تلك المفردات ما هو اصطلاح قد يغير جذرياً التفاسير المعهودة .
والأشباه والنظائر: هو اتجاه نحاه بعض العلماء في تتبع اللفظة القرآنية، ومحاولة معرفة دلالاتها المختلفة.
وممن اعتنى بهذا اللون من المعاصرين أحمد حسن فرحات في سلسلة سماها : (بحث قرآني وضرب من التفسير الموضوعي ) أصدر منها كتاب : (الذين في قلوبهم مرض) ، و(فطرة الله التي فطر الناس عليها)، و(الأمة في دلالاتها العربية والقرآنية) وغيرها.
وهذا كما ترى لون من التفسير الموضوعي ، وهو أول وسيلة يلجأ إليها الباحثون في البحث عن موضوعات القرآن الكريم، حيث يجمعون ألفاظ ذلك الموضوع من سور القرآن ثم يتعرفون على دلالة اللفظ في أماكن وروده.
2 ـ السورة القرآنية :
قصر بعضهم التفسير الموضوعي على دراسة السورة القرآنية باعتبارها تتضمن موضوعاً واحداً تدور كل مقاطع السورة في المحصلة حوله، وهذا اللون ظفر بعناية القدماء بل جاءت في ثنايا تفاسيرهم ، الإشارات إلى بعض أهداف السورة ، ومحاولة الانطلاق منها لبيان تفسيرها، كالذي فعله البقاعي في كتابه : (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور).
وأما في العصر الحديث فقد أولع به سيد قطب في تفسيره (الظلال) حيث يقدم لكل سورة ببيان أهدافها الرئيسة أو هدفها الوحيد، وينطلق في باقي تفسير السورة من خلال هذا المحور الذي تتحدث السورة عنه.
وقد أفردت بحوث كثيرة في هذا اللون من التفسير الموضوعي منها سلسلة (من مواضيع سور القرآن ) التي يكتبها عبد الحميد طهماز وقد صدر منها (العواصم من الفتن في سورة الكهف ).
وتعتبر أهم دراسة -حتى الآن- هي دراسة محمود البستاني "عمارة السورة القرآنية" وتأتي أهمية هذه الدراسة أنها تبحث عن قوانين تحدد الأساس الموضوعي الذي يقوم عليه بناء السورة القرآنية من خلال القرآن الكريم كله.
3 ـ الموضوعات القرآنية :
هذا النوع هو الأكثر شهرة، والأكثر تبادراً إلى الذهن عند إطلاق تعبير "التفسير الموضوعي"، ويتوقف هذا التفسير على تحديد "الموضوع" الذي يجب أن يُدرس، والمشكلة الأساسية أن هذا النوع من التفسير لا يمكن أن يشكل تفسيراً كاملاً للقرآن الكريم، شأنه شأن دراسة المفردة القرآنية التي ذكرناها آنفاً، ذلك أن الموضوعات التي تناولها القرآن الكريم يصعب حصرها، فتحديدها بطبيعة الحال اجتهاد، والاجتهاد يُختلف فيه من حيث كونه ظني الدلالة، هذا خلافاً للتفسير الموضوعي الذي يعتمد السور.
أما آيات الأحكام فقد قام الفقهاء بجمع آيات كل باب من أبواب الفقه على حدة، وأخذوا في دراستها واستنباط الأحكام منها، والجمع بين ما يظهر التعارض ، وذكروا ما نص عليه وما استنبط من القرآن الكريم بطريق الإشارة والدلالة الخفية ونحو ذلك ، وكله داخل تحت مسمى التفسير الموضوعي.
كماكتب عبد المنعم تعيلب ( 4) سلسلة (تفسير القرآن حسب مطالبه) وهي سلسلة كتب التزم فيها تعيلب منهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم؛ بحسب مطالبه وليس بترتيب سوره، وقد قدم فيها سبعة كتب هي بالترتيب : ( آيات الإيمان بالله) و (آيات الإيمان بالملائكة ) و ( آيات الإيمان بالكتب ) و ( آيات الإيمان بالرسل ) و ( آيات الإيمان بالآخرة) و (آيات الحجة على المشركين بالله) و ( آيات الحجة على الكافرين بالملائكة ).
*******************************
الهوامش :
1ـ والتي كانت موضوع أطروحته للدكتوراه في الأزهر سنة 1967م.
2ـ سورة النساء :82.
3ـ الوحدة الموضوعية : هي الوحدة العضوية حسب مصطلح محمد عبد الله دراز ، ولا أستسيغ هذا الاصطلاح لأنه يستعمل في القصائد الشعرية، وما هو بقول شاعر، والمقصود بالوحدة العضوية للقصيدة : أن تكون بنية حية وبناء متكاملاً، وعملاً فكرياً وشعورياً متكاملاً ومتنامياً، وليست خواطر مبعثرة أو أفكاراً متفرّقة. وعبَّر طه جابر العلواني عن الوحدة الموضوعية بالوحدة البنائية: وهي تعني أن القرآن المجيد واحد لا يقبل بناؤه وإحكام آياته التعدّد فيه أو التجزئة في آياته، أو التعضية بحيث يقبل بعضه، ويرفض بعضه الآخر، فهو بمثابة الكلمة الواحدة أو الجملة الواحدة أو الآية الواحدة،.
4ـ عبد المنعم تعيلب : ( 1921م ـ .... ) : ولد في أسرة ريفية متدينة بإحدى قرى محافظة الشرقية في دلتا مصر، وأتم حفظ القرآن ثم التحق بكلية أصول الدين التي حصل فيها على الترتيب الأول فكرَّمه الملك -وكانت مصر وقتها ملكية- ومنها حصل أيضًا على درجة العالمية (توازي الدكتوراه) في التفسير، تعرف على دعوة الإخوان ومؤسسها وانضم لجماعتها مبكرًا، واعتقل بسببها أكثر من مرة ، وكانت بداية عمله الرسمي بإدارة الوعظ والإرشاد ثم فصل لأسباب سياسية، فعاد لأرض أبيه في القرية فعمل فيها بالزراعة مع عكوفه على القراءة والدعوة ، ثم سافر فعمل في وزارة الأوقاف الكويتية وخبيرًا بموسوعة الفقه الإسلامي ، ثم انتقل للعمل بجامعة الملك عبد العزيز بالسعودية ،تزوج ولما يجاوز السادسة عشرة من عمره فقد كان وحيد أبويه اللذين فقدا قبله عشرة أولاد لم يعش منهم أحد فأنجب أربعة عشر من الأبناء.من كتبه : (فتح الرحمن في تفسير القرآن) و (موقف الإسلام من الأديان)و (عند الله وحده علم الساعة ) رد على رشاد خليفة ، و(دراسة في الرد على البابا يوحنا بولس الثاني). |