رحلة التجاني كن أول من يقيّم
لما عزم شيخ الموحدين الأمير أبو يحيى زكريا بن اللحياني على تفقد شؤون مملكته، وأذاع نيته محاربة الأسبان المغتصبين لجزيرة (جربة) وحدد موعد سفره إلى تلك الوجهة عين (أبا محمد عبد الله التجاني) لمصاحبته، وفوض إليه الإشراف على رسائله، وذلك في منتصف سنة (706هـ) (ديسمبر 1306م) فكانت تلك الانتقالات والجولات التي تألفت منها الرحلة التجانية، وانتهت بعودة صاحب الرحلة إلى تونس في صفر (708هـ 1308م) بعد مفارقة الأمير في طرابلس لأسباب صحية وسياسية معا. ومجموع أيام الرحلة كما أحصاها التجاني: (975) يوما
كذا شرح المرحوم حسن حسني عبد الوهاب، أسباب الرحلة، بينما نجد التجاني نفسه، يصرح في مقدمة الرحلة، (أن المخدومي الليمومي =كذا في جميع النسخ= كان مراده الأول التوجه لأداء فريضة الإسلام .. إلا أن أمر الحج طوي عن الناس في هذه الحركة ذكرُه، وأُخفِي عنهم أمرُه ... فلو بين لهم انطلاقه لأبدى كل منهم به اعتلاقه، فصدّوه عن حجه، وردّوه عما يمم من نهجه ... فجعل أمر (جربة) سببا إلى نيل ذلك المرام، ورجا مع ذلك أن يكون على يده استرجاعها إلى الإسلام، فأعلن بذكر التوجه إليها، وأشاع أنها المقصودة بالحركة...إلخ) ونشير هنا إلى أن ابن خلدون رجع إلى هذه الرحلة ست مرات في تاريخه.
قال حسن حسني عبد الوهاب: (وهي من غرر المصنفات التونسية، وكأنها الوحيدة من نوعها في وصف البلاد الإفريقية والتعريف بعمرانها أوائل القرن الثامن للهجرة، أحد العصور الغامضة الأنباء في تاريخ تونس الاجتماعي والسياسي، لندرة النصوص الواصلة إلينا عنه.
فمن أهم خصائصها أنها تبسط لمطالعها أخبار المدائن والقرى التي يمر بها الرحال، كل واحدة بانفرادها، وتجعله يحيط علما بما مضى من احداثها، مع التعريف بالنابغين من أبنائها، ما بين فقهاء وقواد وأدباء وصلحاء، قدامى ومعاصرين.
ثم إنها لا تقتصر على وصف المدائن التي يجتازها بما فيها من معاهد ومعالم ذات شهرة وقيمة، بل تبين =نقلا ومشاهدة= أسماء الأوطان والنواحي، ومن يسكنها من القبائل، وما يتفرع عن كل قبيلة من بطون وأفخاذ، من البدو الرحل، فيميز بين أصولها وفروعها، وينسب كلا منها إلى مشهور الأصل الجامع.
وهكذا يزور التجاني الساحل التونسي الزاخر بالعمران قديما وحديثا، ويمر بصفاقس، ثم ينزل إلى الجنوب ناحية (قابس) وجزيرة (جربة) فيعرفها أحسن تعريف، متعرضا للعقائد المحلية الشاذة، مثل وصفه طريقة دفن الأموات بقرية (المقدمين) بجبال مطماطة، وهي من تقاليد قدماء البربر، وقد انقطع استعمالها اليوم.ثم يدخل الواحات الجنوبية، بقسميها، الشرقي: (مطماطة ونفزاوة) والغربي: (بلاد الجريد) ويقطع سبخة تاكمرت، ثم يعود فيركاب مخدومه، فيجوز إلى التراب الطرابلسي، ويزور منازله الساحلية، ومداشره، كزوارة وزواغة وزنزور، وينعتها بما تستحق، ويقيم بمدينة طرابلس مدة، يتصل فيها بمن هو متصف بالعلم، ويحضر مجالس بعض محدثيها. وبعد برهة من الزمن يسافر مخدومه إلى المشرق، فيلوي التجاني عنان جواده عائدا إلى وطنه على طريق الجادة الأزلية التي تربط أفريقية بالمشرق، ويعود إلى وصف ما يمر به على غير الطريق الأول، إلى أن يبلغ في آخر ترحاله إلى حضرة تونس عاصمة البلاد، وقصبتها الشامخة. ومن طرائفه ما أودعه الرحلة من تفاصيل ما يرد عليه من رسائل ومكاتبات، وما أودعه الرحلة أيضا من وثائق تاريخية بنصها الأصلي، وقلما رأينا رحالا يأتي بمثل هذه النصوص المهمة، ومن اخطرها ذلك السجل الصادر عن الحسن بن علي آخر الأمراء الصنهاجيين، المعلن بانتصاره على جيش (النرمانديين) في وقعة الديماس بالساحل التونسي، أضف إلى ذلك جملة أحداث معاصرة، لم نكن لنعرفها لولا ما أثبت من أنبائها وتفاصيلها. ولندرة هذه الرحلة فإن صاحب (الحلل السندسية في الأخبار التونسية) محمد الوزير السراج، أتى على غالب الرحلة فأدمجها في كتابه. وطبعت الرحلة لأول مرة بهمة الأستاذ وليم مرسي عام (1345هـ 1927م) وكانت إدارة المعارف في تونس عام (1923م) قد عهدت، إلى لجنة تتألف من سبعة أشخاص لتحقيق مخطوطات عربية مختارة، بقصد نشرها وترجمتها إلى الفرنسية إن اقتضى الحال، وعينت وليم مرسي رئيسا للجنة، ووقع اختيار اللجنة على (عشرين مخطوطا) ووقع اختيار وليم مرسي على كتاب (رحلة التجاني) واعتمد في تحقيقه للرحلة ست نسخ من مخطوطاته، وكلها نسخ متأخرة، تكاد تكون نسخا مكررة لنسخة واحدة، حتى في أغلاطها وتصحيفاتها. ولما نجز طبع الرحلة تسلمت إدارة المعارف كل النسخ، واختزنتها في دواوينها، ولم يفلت منها سوى نسخ قليلة، تهافت عليها من كان من القراء في حاجة إليها، فلما ظفرت البلاد التونسية باستقلالها أصدر الحبييب بو رقيبة الإشارة بإعادة طبع الرحلة وغيرها من الذخائر التونسية، وتولى تحقيقها في حلتها الجديدة المرحوم حسن حسني عبد الوهاب، وفرغ من تحقيقها في ربيع الأول عام 1377هـ. |