كنت أردت نشر بحث في الفلسفة المشائية و قلت لم لا سأنشر قولا في المعرفة و إن قمت بإختزاله لعدم قدرتي على نقله كله على الكومبيوثر .
إن البحث عن الحقيقة لا يبعد الإنسان عن التيه في دروب المعرفة , و إذا ما أسعفه العقل الفطري الموضوعي في جانب ما فإن العقل المكتسب يوجهه وجهة ـ لا وجهة لها ـ لن تكون لها طريقة أجدر في كشف جوهر الأشياء و حقيقتها أمام السيل الجارف من الأفكار و المذاهب الفلسفية و الدينية المتعددة.
هذه المذاهب التي يجب على العقل أن يتخذ موقففا منها معالجة لقضايا إشكالية أشكلت العقول و الأفهام( من الأشكلة) فذهب الانسان مذهب المختل الحيران.
المعرفة مفاهيم عن العالم والإنسان و أصلهما و نظر في الله و علاقتهم بعضا ببعض و مسلك تفكيري فيهم .
لكن المعرفة الصحيحة لا بد لها من إرتكاز على الميزان العقلي لما فيه من موازين ضرورية كمقاييس أصلية نزن بها ما ننتجه من أفكار .
إذ لا يصح إطلاق صفة الصدق على معتقدات لا يقبلها العقل من جهة و تتناقض مع حقائق الواقع الخارجي الموضوعي و مع الوحي من جهة أخرى.
كما لا يصح تأويل الحقائق الموضوعية أو العالم ..بشتى الطرق لبناء معرفة تتوافق مع ما يضج به عقلناالمكتسب إذا ما إنعدمت الروابط بين العقل و الخارج.
و التأويل كان سببا في الأزمات و الآلام و في تعدد المعارف و صراعها. و لولا احتضان تاريخ الأفكار لومضات عقلية حرة و مسؤولة لصح الحكم على تاريخ المعرفة بتاريخ الشقاء و الجهل و الضياع .
لأنه لم يعرف الترحاب و لم يشتق للعقل على الرغم من كونه عرف من كان قادرا على حسن استخدامه..بل قهره و هاجر الى الأسطورة و إكتفى بها كما وقعت هي في حبال حبه متيمة به فكان أن أقرأنا بأن لا نتجاسر و نسأله عنها.
والمعرفة نتاج لعلاقة الذات و الموضوع , علاقة الانسان و الكون.. الذي نعيش فيه و ما يترتب عنها من أفكار و معتقدات تستهدف تفسير أصل الوجود من أين جاء ؟و الى أين يمضي ؟و هل هو مخلوق؟ أم هو الخالق لنفسه؟ و لماذا تتمرد الطبيعة ؟و يتألم الانسان؟ ما غرض الوجود؟ من أوجد الإنسان ؟و لماذا؟ و كيف؟
و كيف يستقيم فهم الوجود و معناه و معارف البشر متعددة مختلفة و أديانهم متباينة لا تعرف الإتفاق؟..و هل نستطيع أن نعرف و كيف نعرف ؟و هل المعرفة بالوجود نسبية أم مطلقة ؟و هل جميع العقول ترا نفس الحقيقة؟ فإن كان الجواب بلا فلماذا؟ و إن كان بنعم فلماذا هذا التناحر و التقاتل و التضاد؟...أسئلة متعددة طرحها الإنسان منذ أن كفر بالوحي و منذ أن عاش بعض البشر بعيدا عن نعمة الوحي فكانت المعرفة هدفا منشودا و حاجة عقلية للإجابة على ما يشغل الذهن من افكار و قضايا.
و كان لإختلاف مصادر المعرفة و إختلاف الأفكار و البيئات أن أنتج الإنسان معارف كثيرة و مناهج متنوعة أغنت الرصيد الحضاري الانساني و كانت تعبيرا عن جدل الانسان و حيرته و نزوعه نحو البحث عن الحقيقة.
و عندما و صل الإنسان الى مستوى من النضج قام بتبويب المعارف و تحديد مجالاتها فكان مما كان أن و جد نفسه أمام علوم لكل منها منهج و طريقة و موضوع للبحث.فسمى بعضها فيزياء و رياضيات و طب و أخرى بمسميات مختلفة . و كان لإستقلال العلوم دورا خصبا في تطور المعارف الإنسانية و تحقيقها لقفزات أدت الى بروز فروع متعددة لكل علم .. كان لها فضل كبير في التقدم الإنساني كما كانت ينبوعا للحيرة و التيه.
و ما يلفت الإنتباه هو التعدد الهائل للمذاهب الإنسانية بحيث نستطيع أن نجزم بأن لكل إنسان مذهبه الخاص و إن شارك الآخر في أصل من أصول الفكر..و كذلك إيمان كل مذهب بكونه المالك للحقيقة فكان من اللازم تحليل المقولات البشرية إعتمادا على العقل كمؤسسة يمتلكها جميع البشر لنكون نظرة شاملة أقرب للموضوعية و إن كان الغير المخالف لما نراه ينفي الموضوعية عما نقوله لسبب بسيط و هو أن الموضوعية لا تعرف الصداقة.
و أهمية الموضوعية تكمن في النقد للبنية الذهنية و الأطر المعرفية سواء كانت منظمة أو ساذجة .
وكلما كان العقل حرا كلما أثرى المعرفة و أمدها باليقين. لأن العقل الفطري على عكس المكتسب يستطيع النفاذ الى حقائق الأشياء و التمييز بين الحقيقة المطلقة و الزيف .. سواء في الموضوعات الأنطولوجية أو ما يتعلق بمبحث القيم و غيره مما يدخل في نطاق العقل.
و كذلك يتخذ موقفا من الفلسفات المتعددة سواء تلك التي تنكر قدرة العقل على كشف الحقيقة أو معرفته و إلمامه بالخبرة الإنسانية و إرتباط الانسان بالعالم أو تلك التي لا ترا الحقيقة سوى في العلوم الطبيعية وحدها فتنفي مراتب وجود متعددة و إمكان إدراك وجودها عقلا. فجعلت بذلك المعرفة العلمية الحاملة للمعنى هي المعرفة القابلة للتحقق من زيفها أو صدقها تماما كما في علوم الطبيعة و الرياضيات..
و كيفما كان الحال فتعدد المذاهب لا يدل على تعدد الحقائق أو أن هذا المذهب أو ذاك و إن تمسح بالعلمية و العقلانية هو منبع الحقيقة لأن الشك ـ هو المؤسس الفعلي لأنشاءات الفلاسفة ـ مما يجعل أنساقهم مبنية على الافتراضات الصادرة عن الوجدان أو النظر التأملي أو الحدس.. كما أن إختلاف مواقف الناس من أدوات الإدراك متباين, فحين يقول البعض بقدرتها على تحصيل المعرفة الحقيقية يدعي البعض الآخر عدم إمكان ذلك أو يتخذ موقفا شكيا..
و لما إختلفوا فقد إفترقوا نحلا متعددة : إلى تجريبيين قالوا بأن التجربة هي المصدر الوحيد في المعرفة و الى عقليين ينكرون ذلك و يدافعون عن المقام الأول للعقل في تحصيلها و الى من يجمع بينهما زد على ذلك من يرا في التجربة و العقل سدا أمام المعرفة فيومن بالمعرفة القلبية الوجدانية..و كان من قال بأن الأشياء المحسوسة لا توجد إلا في الذهن البشري كتصورات و إذا فلا وجود سوى للفكر . فأعترضوا عليه و نددوا قائلين بأن الموجودات لها وجود مستقل عن الذهن و بالتالي هناك إمكان لمعرفتها و إدراكها كما هي عليه في العالم الموضوعي الخارجي.
و هكذا تجدك أمام كم هائل من المذاهب لم يتفق على قضية وا حدة.
سنحاول تلخيص بعض منها لنرا كيف فكر القوم في المعرفة
المعرفة تنقسم الى قسمين : ـ إدراك ساذج للأشياء و هو تصور لا تنطبق معارف الذهن فيه مع قضايا الواقع الموضوعي و حقائق عالم الغيب .
ـ معرفة ترقى الى مستوى العلم بتصديق الواقع و الوحي لها .
و هي ليست إستذكارا أفلاطونيا : (347ـ 428 قبل الميلاد) فأفلاطون ميز بين وجودين اثنين عالم محسوس تكون الموجودات فيه مزيفة و عبارة عن أشباح و ظلال لمثلها نتعرف عليها بالحس و التجربة فتكون معرفة ظنية زائفة, و عالم معقول يتضمن المثل المفارقة للمادة و هي أفكار ثابتة مطلقة و نماذج لكل ما هو موجود في الواقع المحسوس و لا سبيل لمعرفتها سوى بالعقل المحض فقط.و معرفتها يقينية موضوعية ثابتة.
يقول أفلاطون بأن النفس الإنسانية بعد نزولها من عالمها المجرد للدخول في الجسد المادي ضاع منها كل ما كانت تعلمه من حقائق فتقوم باستذكارها عن طريق إحساسها بعالم الأشباح .
فتنتقل النفس متدرجة من المحسوس إلى المعقول لتنسجم معه .
و نحن لا نتفق مع هذا الأمر نظرا لخطأ تصور أفلاطون للنفس و المعرفة و الوجود .
ديكارت:
لقد فكر رونيه ـ1596ـ1650 في الفكر فشك في كل شيء و لم يستطع التسليم بحقيقة ما إذا لم تكن جلية واضحة و امتد شكه ليمس قضايا الرياضيات و كان شكه في شكه المسألة الوحيدة التى لم يشك فيها و منها سيستنتج الكوجيطو المثبت لذاته في الوجود . بعدها سيقوم بإثبات الواقع الموضوعي .
و المعرفة فطرية في الانسان كما يقول ديكارت فيما يخص الحركة و الإمتداد و النفس و الله.. و هي المعرفة الصحيحة التي يستحيل معها للعقل أن يخطأ لكونها جزء من بنيته لا تفارقه على عكس معرفة الحواس الخداعة و المعرفة التي نكونها بأنفسنا .
فالمعرفة بناء قائم على اليقين و التصديق , و هذا اليقين هو أس المعرفة العقلية الديكارتية و لبها. و لكي نحقق اليقين العقلي لزم نهج مسلك الشك حرصا على صون الفكر من الانهيار, لذلك يجب كما يقول رونيه : أن لا أقبل شيئا ما على أنه الحق ما لم أعرف يقينا أنه كذلك ..( مقال في المنهج).
و العقل معيار للعلم والبداهة و الوضوح.
و رغم إيمانه بيقين المعرفة العقلية الفطرية : المعلومات الأولية الأصيلة في العقل و التي هي أساس لسائر المعارف فلا شك في وجود ثغرات و خلط في نظريته في المعرفة.
و الشك الذي عاشه ديكارت كمنهج كان ضرورة عاشها الإمام الغزالي الذي إمتلأ عقله بمقولات الفلاسفة فإحتار في أمر المذاهب المتعددة.. فآمن بأن : من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر، بقي في العمى والضلال. (ميزان العمل).
فبدأ بالشك فعاش إكتئابا حادا جعله يرتمي فيما بعد في أحضان الصوفية .
و الغزالي ينفي السببية المادية و بذلك فتعاقب واقعتين ليس حجة على وجودها بل دليلا على تكاملهما- تكامل الوقعة الأولى و الثانية- كبزوغ الشمس و ظهور النور مثلا.
وقال بزيف الإدراك المبني على الحواس لخداعها الواضح في اليقظة و النوم:كالظل الذي يبدو لنا ثابتا فنراه متحركا و الكواكب التي تبدوا صغيرة الحجم بالعين المجردة بينما هي في الواقع ضخمة الحجم. كما نعيش أحلاما عجيبة لاأصل لها في الواقع الثابت بعد الإستيقاظ.. فالغزالي لا يرا يقينا في معرفة الحواس.. و يثق في المعرفة العقلية فتراه يقول : " إني إذ علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة, فلو قال لي قائل لا بل الثلاثة أكبر بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانا وقلبها وشاهدت ذلك منه لم أشك بسببه في معرفتي ولم يحصل لي منه الا التعجب من كيفية قدرته عليه". و يقول أن العقل :" يرى الأشياء كماهي فهو المعيار الذي لا يمكن أن يخطئ في التمييز بين الحق والباطل إذا تجرد من غشاوة الوهم " و أن فيه : "قوانين صادقة وثابتة في الذات والموضوع حتى أن الله ذاته لا يقدر أن يغير الحكم فيها" غير أن الغزالي قام بنقد الفلاسفة فهاجم العقل و من يستخدمه . كما إنتهى أمره بجعل المعرفه القلبية الوجدانية مصدرا لليقين و التي وسيلتها القلب لا العقل .
لقد عاش الغزالي الضياع الفكري و لم يهده ما كان له من فكر موسوعي الى الوصول الى مصادر الحقيقة فعاش التناقض .
و كان الذوق و الكشف أي المعرفة اللدنية المباشرة أهم المعارف التي دافع عنها الغزالي و الصوفية بصفة عامة كأسلوب خاص و منهج يوصل العارف إلى الحقيقة التي يعجز العقل عن الوصول إليها.. فهي معرفة لا تحتاج الى وسائط و لذلك فأولها هو,واوسطها هو,واخرها هو . تعالى عن ذلك. و المعرفة الصوفية مراتب متدرجة لا تخضع لمقولات الزمان و المكان و لا تمت بصلة للعقل و هي عند بعض الصوفية نوع من الوحي لذلك فهي ادراك أسمى و راء الإدراك العقلي و قد نناقش الصوفية في بحث خاص لأ نها إمتدادللغنوصية اليونانية و تراث الهند و فارس..
و كما تعلم فهناك طرق مختلفة في تحصيل المعرفة , و كل طريق يولد نظرية في الكون ..ذات أصول و قواعد في الفلسفة و العلوم..و العقل الانساني يشتغل لإيضاح إن كان بالفعل لمعارفنا الذهنية تصديق ووجود في العالم الخارجي أم أنها وليدة الذهن فقط .و بعد التأكد من وجود عالم قابع وراء الذهن لزم البحث عن الروابط بين إدراكاتنا و تصوراتنا عنه و مدى صحتها بتطابقها التام مع مايسكنه من حقائق ..أو إثبات أن تصوراتنا العقلية عنه لا تتمثل قطعا حقيقة هذا العالم الخارجي وبالتالي تظل نوعا من الخيال.
و كذلك فتباين و إختلاف وجهات النظر الإنسانية حول المعرفة و أدواتها ..كان سببا في الخلط بين المنبع و الوسيلة و المنهج في المعرفة و كان سببا في الشك في مقدرة الانسان على الإيضاح و الكشف فإنعكس هذا الأمر على المعرفة سلبا و دمجت مستويات الوجود في دائرة وا حدة و قيل بأن صورة العالم الخارجي بمستوياته المتعددة تنقل إلى أذهاننا بشكل مزيف لا يقام له وزن و لا اعتبار .
و ما يمكن قوله في هذا الصدد هو ضرورة التمييز بين : العقل و الحس كأدوات للمعرفة و الكشف بحيث يتناول العقل ما تنقله له الحواس بالنقد و الدراسة لتصحيح الأوهام ..كما تقوم العناصر المكونة للحس بتصحيح و تقويم بعضها البعض و كل ذلك تحت إشراف عقلي محض لنخلص الى مركزية العقل في المعرفة الحسية.
و بين الكون و الوحي كمصادر للمعرفة و الخلط بينهما سيعطي لا محالة تشويشا بعيدا عن العلوم الكلية و المعارف الصحيحة.
كما كان لإختلاف البشر حول أصل الوجود و طبيعته أكبر الأثر في تباين المعارف : فالمومن بالوجود المادي فقط
مباين في كل شيء و مختلف عن الذي له منظار خاص به يثبت ما لا يراه من لا يومن سوى بالحس و المادة و الطاقة , و المومن بالله تعالى يثبت وجودا لعالم غيبي يرا فيه المادي ضربا من الدجل و الهلوسة.. فيكون فهم علماء الطبيعة و النفس..متباينا في كل شيء فتأتي نتائج الأبحاث مختلفة و كلها تزعم العلم و العقل و الحداثة.
و لو تأملت مثلا في الأمراض النفسية للانسان المعاصر و خصوصا في الغرب لراعك مايحصل : إذ " العلم" لا يستطيع إيقاف الألم النفسي أو تحسين حالة المريض لأنه لا يملك سلطة أن يشفي.. رغم إدعائه العلمية في المنهج فتراك أمام آلاف الأفراد المنتحرين ..و هم يفعلون ذلك ليس طلبا للموت بل إيقافا للألم الذي عجز عن معالجته المعالج..و إذا يكون منهج المعالج و المرتبط بتصوره الفلسفي عن الوجود سببا في ألم المريض.. و إن إدعى العلمية..
و نظرا لقصور العلم الانساني.. فقد أنزل الخالق كتابا يرفع الابهام و الغموض و به ندرك الأسباب الحقيقية لكل شيء سواء أكان خاضعا للإدراك أو كان غيبا لأننا نحتاج إليه في كل شيء لكونه العلم الحقيقي.
فالنظر في الطبيعة عن طريق الحواس يؤدي الى حصول صورتها في الذهن , و العقل يقوم بأدراك شكلها العلمي كما يلاحظ مايقع فيها من تغير و وقائع و يكشف العلاقات و الأسباب.
و لبناء المعرفة نحتاج الى الناظر و هو الانسان و الشيء الذي ينظر اليه و بالنظر تتكون المعرفة كصورة عقلية و هذه الصورة العقلية هي التي ناقشها و بحث فيها من بحث و سنتعرض بأستعراض مختزل لها لنرا معا كيف أجاب أصحاب المذاهب عن كيفية نشوء المعرفة من خلال إتصال الإنسان بالعالم الخارجي عن الذات إعتمادا على العقل و الحواس .
و كما تعلم فالإنسان يقوم بأنتزاع الشكل العلمي من الواقع الموضوعي الذي تمتد إليه أدوات معرفته و ما يدخل تحت إدراكها ليتولى العقل فيما بعد دراسة المعاني و التصورات و التجزيىء و التركيب و التجريد و التعميم.و إدراك الواقع المادي و إنعكاسه المنتقل عبر الحواس لا يعني تماما ما يومن به دعاة الفلسفة الماركسية ذات النظرة الأحادية التصور للمعرفة..لأن الإدراك أو المعرفة لا ترتكز فقط على الحس و الدليل هو و جود عدة مفاهيم في العقل كا لعدم و الوجود و العلة و المعلول..لا علاقة لها بالحس.
بمعنى أن الحواس تدرك البرودة إذا ما لمسنا الثلج و تدرك السخونة إذا ما إقتربنا من النار كما تدرك تبخر الماء السائل في بيئة درجات حرارتها عالية و إنتقاله أو تحوله من البرود إلى الغليان .
فالحس فعلا يدرك الظواهر لكنه لا يدرك علاقة هذه الظواهر بعضا ببعض كحقيقة موضوعية و ناموس
يدركهما العقل بميزانه الفطري, لأنها أمور معقولة له غير محسوسة للحواس ببساطة بفضل أصوله الأولية الضرورية ـ الميزان ـ و التي بها يصدر الأحكام على الوقائع الموضوعية و القضايا الكلية و بها يميز بين الشيء و ضده و أن لكل واقعة علة و أن كل متغير محدث...و هذا النوع من الميزان شرط ضروري للمعرفة و بدونه أو بتعطيله باتباع العقل المكتسب سيكون من الجائز التناقض و خلط الحقائق بغيرها و بالتالي كما تعلم سينهار البناء العام للعلم .
وبه من المتاح لنا التحقق فيما نتناوله كقضايا وراء المادة و الإ نسان .. بعكس المذهب التجريبي الذي لا يومن و لا يدرس إلا ما يمكنه الخضوع للتجربة .
فيرفض التسليم بالقوانين العقلية الفطرية و الحدس و يقول بأن كل ما هو موجود في العقل سبق وجوده في الحس إبتداء , لذلك فهو يرد المعرفة الى الحس .
فينفي صفة العلم عن كل مبحث في ما وراء المادة.
صحيح بأن التجربة لعبت دورا هاما في تطوير و إفادة المعارف الإنسانية , فلا أحد يستطيع نكران هذالكنها لا تكفي وحدها إذ نحتاج للعقل في عملية الإثبات و النفي و الإستنتاج و إرشاد الحواس و للتحقق من التجارب ..
و صحيح كذلك أن المذهب العقلي حقق تقدما هائلا في المعرفة لكنه كالتجربة لا يكفي و حده إذ يحتاج لها كمقياس هام في الإدراك على الرغم مما يتميز به العقل من الضرورة و الشمول.
التجربة ليست المقياس الوحيد للحكم الصادق في كل الميادين و لا تشمل ما يسميه العقليون بالمعارف الأولية الضرورية لأن ذلك يعني عبثية الدين و ما وراء الطبيعة .
و المعرفة التجريبية تنتقل من الخاص الى العام , من الإختبار الى القانون وفقا للإستقراء في عمليةالإستدلال عكس المذهب العقلي المنتقل من العام الى الخاص
إعتمادا على الأستدلال القياسي .
و أصحاب المذهب التجريبي يجعلون من التجربة معيارا للتمييز بين الأشياء غير أنهم مطالبين بتوضيح من أين إستمدت التجربة الشرعية لتكون مقياسا للشيء و نقيضه؟ هل من معرفة ضرورية؟ أم من تجربة تحتاج الى ضرورة التحقق منها ؟و ذلك يتم بالعقل .
و لا شك في زيف الإعتقاد التجريبي في المعرفة لأنه بشكل أو بآخر يثبت المعارف الضرورية الأولية السابقة على التجربة , زد على ذلك أن الحس لا يمكنه إثبات العالم المادي بدون عقل لأن الحس يدرك الظواهر و العقل يكتشف الروابط بينها و جوهرها و أما وجود الشيء أو إستحالته فالبث فيه للعقل وحده و الذي يرا عوالم لا تراها التجربة ناهيك عن السببية .. كقانون لا تدركه التجارب و انما يثبت من طريق العقل.
و إن أردت أن تمضي بعيدا في إثبات زيف المعتقد التجريبي فأنت تعلم بأن العلم الطبيعي عندما يكتشف قانونا يعممه ليشمل جميع الأشياء المماثلة لعناصر إختباره في الظروف و النوع إنما قام بصياغته عقلا بناء على معارف ضرورية في العقل كعدم التناقض مثلا و وجود النظام و الاتساق في الطبيعة إذ لا مجال للفوضى و الصدف لأنها بناء رياضي تحكمه السببية و انسجام السبب و النتيجة ووحدة العلة لوقائع متعددة تخضع للتشابه و التماثل في النوع. كما أن العقل يقول للباحث بظنية نتائجه لقصور في التجربة فيضطر لإنتخاب فروض و نظريات محتملة لتفسير سلوك واحد إنتظارا للتحقق من الظاهرة المدروسة.
أما إخراج كل القضايا غير الخاضعة للتجربة من دائرة العلم فهو يقينا الدعوة إلى العبث و الفوضى الخلاقة في المعرفة و في نفس الوقت إثبات وإ قرار بكون قضايا الميتافيزيقا .. لا تمت بصلة و لا تنتمي الى عالم التجريب و نحن لا ننكر هذا.
إن ما أود أن أصل اليه من كل هذا هو أن العقل أساس للمعرفة. و التجربة شرط ضروري لها و إذا ما رفض العالم الطبيعي هذا فهو يهدم الأساس الذي أقام عليه صرح علمه من حيث لا يريد أن يدري.
و لعل اليقين الذي تتمتع به الرياضيات مثلا يعود الى البناء الرياضي للعقل كمؤسسة ضرورية تبث في القضايا و المفاهيم و في الظواهر المنقولة اليه عن طريق الحواس لإنتخاب ما يراه العقل بمفاهيمه متسقا و الوقائع التجريبية, و لولا صدق هذا الأمر لاستحال الإنتقال من شوط الاحساس الى شوط الاختبار المتعدد لبناء المفاهيم و فيما بعد النظريات .
لذلك فالعقل شروط للتفكير الصحيح سابقة على التجربة و مستقلة عنها بها نقرأ العالم و الأشياء و هي المسئول الشرعي عن فك لغز الوجود.
و المذهب الوضعي لا يقبل هذا لأنه يرا في قضايا الميتافيزيقا و مباحث العقل مسائل فارغة المضمون لعدم إمكان إختبارها تجريبييا و لكونها عديمة الجدوى و الفائدة في الميدان العملي الانساني و يرا أن الملاحظات العلمية و الفروض العلمية التي تزودنا بقوانين للتنبؤ بالتجارب هي المقياس الوحيد للحقيقة و الفلسفة الحقيقية ليست لغوا و هراء و هي فلسفة العلم ـ حيث لا مجال لموضوعات الأكسيولوجيا و ما وراء الإنسان و المادة ـ المعتمدة على التحليل بدل التركيب و هم برفضهم لمنهج التركيب و الميتافيزيقا يشبهون هيوم حين قال : " إذا تناولت كتابا في اللاهوت أو في الميتافيزيقا فسأل هل يحتوي هذا الكتاب على أي دليل هول الكمية و العدد ! هل يحتوي على أي دليل تجريبي هول حقائق الوجود !! و إذا كان الجواب بلا فارم به في النار لأنه سفسطة" .
قامت الوضعية بجعل الفيزياء أساسا للكمياء و الكيمياء أساسا للبايلوجيا و ردت الظواهر الاجتماعية لماهو نفسي و ماهو نفسي لما هو بيولوجي فوحدت بين المعارف لشرعنة نظرتها العرفية مما جعلها تطرد كل معرفة غير قابلة للتجربة .
و تمضي الوضعية قائلة ما معناه " أننا نحمل نفس الصورة عن الشيء سواء أكان لهذا الشيء معطى حسيا مباينا لجوهره الحقيقي أم لا , فنحن لسنا أمام صورتين بهما نستطيع التمييز بين صورة تدل على جوهر الشيء إن كان له وجود و صورة الشيء إن لم يكن له جوهر موجود إذ نجدنا دوما أمام تصور يحمل نفس المعطيات الحسية.
و بما أننا نحمل صورة واحدة لقضيتين متناقضتين إذا ما فرضنا صدق إحداهما و كذب الأخرى فيلزم الحكم على هذه المسألة بالهراء لأننا لا نستطيع تحديد الشروط و البيئة المساعدة على التمييز بين الصدق و الكذب و بالتالي فنحن أمام اللا معنى أو بصدد موضوع خا رج العالم ..
أما قول الوضعية بكون ما لا يخضع للتجربة مسائل تحمل العبث و اللامعنى فهذه مغالطة كبرى لأن كل لفظ يدل حتما على معنى ما يفهمه العقل على شكل صور و بالتالي فمسائل الفلسفة..تبث معان في الذهن هو يتحقق من صدقها أو كذبها. و سنناقش هذا الأمر فيما بعد ردا على بعض التيارات
بعد هذا العرض البسيط يجب لفت النظر الى جانب هام في الفكر البشري و الذي تناول المعرفة الانسانية بالنقد لاثبات عدم قدرتها على كشف حقائق العالم ضدا على تيار يثبت امكان معرفة العالم و سننه.
و تيار الإنكار هذا عرفته الفلسفة اليونانية في القرن الخامس ق ـ م . كعقيدة فلسفية ضاعت وسط الأراء الفلسفية المتعددة عن العالم و بدايته .. و إكتفت بالإيمان فقط بالوجود الإنساني و عالمه الذهني و ان شككت في حقيقة وجودهما مما أدى بها إلى إنكارهما .
لقد تاهت بسبب شكها في ثبوت الحقائق بعدما لاحظت تبني الشخص الواحد لموقفين متناقضين في نفس الوقت .
يقول غورغياس ( 480 - 375 ) قبل الميلاد : أولا لا يوجد شيء و إذا كان يوجد شيء فالإنسان لا يستطيع ادراكه و على فرض أن الانسان أدركه فلن يستطيع أن يبلغه لغيره من الناس .
غير أن غورغياس يهدم بنفسه ما أسسه ليثبت أن : نفيه لوجود الأشياء إثبات لها من حيث لا يريد أن يدري ..فهو أثبت وجود فكر دفعه الى القول بقضية تفيد شيئا ما و هذا الشيء هو النفي. كما إستطاع باللغة نقل خطابه الفكري كما أدركه هو الى غيره من الناس... فما هذا الهراء يا غورغياس!!
و كان ما يميز هذه العقيدة الإنكارية هو إهمالها للطبيعيات و الرياضيات فاتخذت الجدل أسلوبا للتعليم غرضه الاقناع و الإفحام بالتمويه و السفسطة طلبا للمال.. فبقى الأمر هكذا الى أن برز نوع جديد من الفلاسفة الكبار الذين قاموا بالرد لإيضاح مغالطات السفسطة فأكدوا أن : إختلاف الآراء لا يمنع وجود حقائق واقعية للأشياء و أن تحصيلها سهل لمن ظفر بالطريق الصحيح.
فكان أن تطور مذهب السفسطة ليولد تيارا بنى منهجه على الشك بحيث لم ينكر و لم يثبت الواقعيات و قال بأن وسائل المعرفة تخطئ في الإدراك لفقدانها الميزان الذي تدرك به الأشياء على حقيقتها في كيفياتها الثابتة خصوصا و أن الزمان و المكان و الظروف تتغير دوما و قت إدراكنا لنفس الشيء , فيصبح الشيء الواحد محتملا لصورتين لذلك يبطل الحكم على الشيء و تبطل معرفته على ما هو عليه و دليل ذلك : ـ مغايرة شكل العصا في الماء لشكلها خارجه ـ الكبير يبدو لنا صغيرا عن بعد ..
و هذا المذهب أكد من حيث لا يدري حقيقتين :
إمتلاك الانسان لميزان عقلي به نميز شكل الأشياء الحقيقي و الوهمي.
أن الحواس كمجال حيوي يصحح بعضها بعضا تحت إشراف العقل و مقاييسه الخاصة : إذ يلزم تطابق نظامه مع نظام الأشياء.
و قال هذا التيار بأن العقل لا يدرك إلا صورا ذهنية لا تمت بصلة للواقع الموضوعي . و لا يخفى عليك بطلان هذا الأمر لما فيه من انكار صريح لوجود حقائق موضوعية في الخارج .
و تتجه النسبية المعرفية الى موقف مخالف : حيث يرا هذا الإتجاه أن إدراك الإنسان للواقع الخارجي الموضوعي لا يكون إدراكا خاليا من تأثير الجانب الذاتي للفكر الإنساني فتكون المعرفة مركبة من الواقع الموضوعي الخارجي و الواقع الفكري الذاتي :
أثر الزمان و المكان في ظهور الأشياء بكيفيات متباينة و تأثير الجهاز العصبي في إدراك الأشياء التي قد تبدوا للإنسان ذات ألوان مخالفة لما يراه الحيوان مثلا , و لذلك يكون النقل الخالص للواقع الخارجي الموضوعي فاقدا للدقة و اليقين .
فالنسبية المعرفية نتاج للبيئة و الظروف الداخلية و الخارجية فيكون إدراك الأشخاص لنفس الشيء غير مطابق للواقع مما يدل على أن وسائل المعرفة في خصائصها و كيفها و شروطها مختلفة من فرد لأخر و إذا نكون أمام واقع متعدد يصعب يقينا الحكم عليه نسبيا لعدم تماثل وسائل و شروط الإدراك في كل الأفراد.
و حتى لا نكرر ما قلناه فيما مضى نقول بأن النسبية المعرفية توحي بالفوضى في كل شيء فيكون الشك مانعا لبناء العلم و الوثوق في أدواته و شروطه ..غير أنها شكت في كل شيء ما عدا شكها .
لم تشك في زعمها بنسبية المعرفة فآمنت بكونها قضية مطلقة بجزمها بنسبية الإدراك..و على فرض أنها محقة فهي تثبت أن المعرفة مطلقة و بالتالي يتداعى مذهبها. الفلسفة المادية :
نظرت الفلسفة المادية الأوروبية للقرن السابع عشر و رأت أن الوجود المادي هو الوجود الحقيقي و ما عداه عدم محض عكس الفلسفة الالهية التي ترا أن الوجود مستويات متعددة و ما المادة سوى واحد منها .و كان أن ذهبت الفلسفة المادية مذهبين: الأول ذو أصول يونانية آمن بالمعرفة المطلقة الصادقة و بان وسائل المعرفة لا تغير حقيقة الأشياء المدركة لأن صورة الأشياء في الواقع الموضوعي الخارجي هي عينها في العقل.
و الثاني هو الذهب المادي الدياليكتيكي و الذي يقول بأن حوادث العالم و ظواهر الطبيعة هو الوجود القابع خارج الذات و كلاهما لا يحتاج لوجود أعلى و مستقل عن المادة لكي يمنحها الوجود .كما أن المعرفة ليست سوى انعكاس و نتيجة للمادة, زد على ذلك أن الإختبار و التطبيق العملي سبيلان لقراءة العالم و سننه . فالمعرفة ممكنة و العالم قابل للتفسير .
و إذا كان الأمر كذلك يجب القول بأن المعرفة ليست إلا الأثر المادي الناتج عن المادة الخارجية و المادة الداخلية(المخ) و نقيض هذا ليس بعلم.
فقسم هذا التيار العالم الى معسكرين الأول( علمي )ينكر الخالق و يومن بأن المادة هي المعطى رقم واحد و بدونها ليس هناك إمكان لوجود الفكر. و الثاني معسكر مثالي و هو نقيض الأول.
و يبني المذهب المادي أفكاره على العلوم الطبيعية و التي أيقنت كما يقول من ـ و دلت على ـ أن الإحساس و الفكر لم يكن ليولد الا بعد أن عرف الجهاز العصبي تطورا متدرجا و أن الكائنات الحية كانت مسبوقة في الوجود بالمادة غير العضوية .
و كان للمادة أن تنتقل من الكثافة الى اللطافة.
و حتى نفهم حقيقة هذ الأمر يقول الماديون بضرورة الإلتزام بالمنهج الدياليكتيكي في البحث , فهو من يكشف و يوضح الا نتقال من الطبيعة الى الفكر. و المعرفة هي فهم منطق تاريخ الواقع المادي و علاقته بالفكر و الفكر لا يخلق الموضوع بل يعكسه و يقوم بتحوليه عند إكتشاف سننه .
و اذا كان الأمر كذلك فإن الأمر حسبما يقول المادي مخالف لما نتصوره عن الوجود و حقائقه بحيث أن الهرم مقلوب في أذهاننا و بالتالي في الحياة الواقعية ذلك لأن ماركس بأسلونه الديالكتيكي المقلوب و المضاد لهيكل يقول بأن المادة هي خالقة الفكر..أو بتعبير هيركليدس : "العالم واحد لم يخلقه إله ..و هو أزلي ..يتوهج و ينطفأ طبقا لقوانين محددة".
الطبيعة بما فيها من كائنات دقيقة و ضخمة تموت و تحيى طبقا للحركة و الصيرورة , و الحركة ليست انتقالا ميكانيكيا بل تغير و تبدل مستمر , و ما الحرارة و المغناطيسية و الكهرباء إلا أشكال لها و تفاعلات الكمياء و سلوك الذرة و التطور و الإنقلابات الإجتماعية نوع من الحركة و الصيرورة و صراع الأضداد و هي مستمرة لا تنقطع و هذه هي المعرفة الحقيقية للقوانين الموضوعية للطبيعة و إنكار هذا الأمر ناتج عن إنكار مادية العالم .
و لا شك في زيف النظرة المادية للمعرفة و الوجود لإنبنائها على أساس خاطئ إعتمادا على(العلم) لإثبات وجاهة رأيها علما بأن ما تسميه بالعلم نوع من الإدراك و المعرفه البشرية المحتوية للثغرات و إن كانت تراكما للتجارب الإنسانية و هذا النوع من الإدراك خاضع للنقد و النقاش فكيف يمكن له أن يكون معيارا مطلقا للفصل في الأشياء و هو زيف محض.
و إذ ما تساءل المادي عن مدى صحة نظرته للأشياء لا بد له أن يناقش هو و غيره أسس مذهبه.. و العقل الفطري وحده بمنهجه الحر من له الحق في الإجابة عن التساؤل. العقل له خبرة و معرفة بحدود الصدق و العكس.
و عندما يكون أصل المذهب خاطئا لابد و أن ينتج عنه إنغلاق معرفي أقرب إلى العنف و ان لا يقدم شيئا جديدا لتحصيل المعرفة و إكتشافها .
لقد طرح الفلاسفة نفس السؤال و إنتهوا الى نتائج مختلفة لم تستقر حتى انقلبت بدورها الى اسئلة تائهة تثير الشغب و لا تستقر على حال.و كذلك العلوم تاريخ للشغب و الثورة .و هذا الشغب هو الذي آمن به المادي ورأى فيه اليقين الذي لا تناله سهام النقد و الشك فبنى عليه موقفا ضخما في الوجود و المعرفة و جعله إلها يعبد و أصبح المادي متصوفا , مع الماد ة و فيها
ينطلق من مسلمة لا يقبلها العلم فأنكر وجود الخالق تعالى و أعطى صفاته للمادة من خلق و علم و أزلية و حكمة.. و هذا التأويل المخمور للوجود ليس منبعا للحكم على حقائق الوجود و إن كانت المادية كذلك تنشيء القرابة مع العلم الحديث خدمة لعقائدها الباطلة .فكان بذلك كما قلنا أن جعلت من ديالكتيك الطبيعة إلها يتطور بالصدفة ليعطي ما نراه من كائنات و نظام بحت .
و لو تأملت و نظرت في عالم الفكر لهالك الأمر الذي نحن عليه اليوم فكلما تأملت تألمت لضياع الإنسان و تشيئه و إغترابه و حيرته رغم ما حققه من تقدم علمي ..فالأمر ظل كما كان عليه منذ بداية البشر في هذا الوجود من قلق و حيرة و ألم ! و كل مذهب يبني بناء يقدمه للبشر جميعا على أنه الشكل الحقيقي للحقيقة كما هي في الوجود الخارجي المادي و اللا مادي و هو الأول من يهدم بناء ما بناه. فيقوم آخر فينتحب و يزود الناس بمذهب مخالف هو الأول يكفر به و كأن الحقيقة رقعة من الشطرنج تنظمه و ترتبه كما تشاء .
و لم يكتف الإنسان بالدفاع عن عقائده حتى بالرصاص و السيوف و الدموع بل إدعى الوحي و هو كاذب في إدعائه لأن الخالق لا يوحي لمن هب و دب و لا يوحي بالتناقض و الخرافة إنما أوحى بالعلم لمن إختاره بحكمة من المرسلين عليهم السلام.
و الكون و الوحي أنظمة رياضية كما العقل يسكنهما الميزان و الذي به نصل الى الحقيقة المطلقة . لذلك لزم النظر العقلي الفطري في الكون و الوحي للوصول إلى اليقين .
و لكن رغم وضوح الحقيقة فقد فضل الانسان إتباع العقل المكتسب و موروث الاسلاف.
لذلك قلما يفطن الفرد إلى ضرورة الشك في ما يتبناه من أفكار و قلما يفحصها بالنقد و المساءلة بحثا عن بر الآمان و اليقين و غالبا ما ينتهي الكثير منا بالإرتماء في أحضان العنف و الإرهاب كردود فعل تجاه البحث العلمي فقط لأننا نرفض مسبقا أن يكون الموروث مصدرا للخطأ و يقينا منا بعصمة الأسلاف, و هذا العدوان جاهل بكيفية نشوء الأفكار و تاريخها و بظروف النشاط الفكري الذهني و أخطائه مما يغذي جذوة الصراع و النطاح.
لو فكر كل منا للزمه الشك في معتقداته و فحص الكثير منها طلبا للإهتداء فتتحول الأفكار من معتقدات فوق النقد الى معتقدات قابلة له كإستراتيجية منهجية غايتها الوصول الى اليقين المطلق بدلا من النسبيات ..
نظرا للدور الخطير الذي تلعبه الأفكار البشرية خصوصا إذا ما كانت معرفة ظنية تحيطها هالة من الأسطورة .