من الدراسات السابقة حول شعر صالحة غابش(2)
تابع مقال(في أفياء بثينة بنت المعتمد للشاعرة صالحة عبيد غابش) اللكاتبة: سميرة رباحية/ طرابلسي:
وتستمر هذه الشمس العربية بمعاناتها الداخلية لتتوهج من جديد فترة ثم تتحسر على الأمجاد الإسلامية فترى خلاصها مستعينة بالفارس الحلم الذي تريده أن يرفع مشعل الحرية ليحرر أسرها من العبث والتمرد.
ستبحث عنك
وأنتَ الملثم خلف التراب (ص 24)
تجيء على خيلك المتسلل من عثرات السراب
وهنا تشرئب روحها التي تتحد مع غربتها ضمن صراع داخلي ونبض وجداني يكشف عن مكنونات شوقها إلى مجيء الفارس الملثم متسائلة والصبايا سبايا ترى هل سيتأخر؟ النداء والتوسل واضح ينبثق من وعيها بقيم الوفاء والبحث عن بديل جميل في نظرها، فترسم في مخيلتها الشخصية الدرامية للبديل وكأنها هنا تسترجع البطل الأسطوري جلجامش في خروجها على الشكل السائد فتحقق حلمها حيث يتراءى لها قادماً.. ملثماً.. يتجاوز عقبات الدروب الموصلة التي أقيمت أمامه ليسترجع ملك أبيها.
فقم لا تكن مثلهم (ص 25)
وجئني بملء الكرامة مهراً
إنها هنا تستحضر مباشرة مهرها وهو مهر الحرية الممزوج بالدماء وبسيف تجرد عنه الصدأ ليسترجع القدس ويعوض عن ملك أبيها، ويتجاوز الهزائم التي منيت بها الأندلس.
وجئني بقدس الحبيبة مهراً (ص 25)
وقل يا حبيبة إنا انتصرنا
فهل قلبك العربي هدأ؟
تجلي الذكريات الذي ارتبط بإيقاعها الداخلي يظهر هنا في صورة التكرار لمعنى المهر الذي تؤكد عليه، وقد استلهمت شخصية البطل الشعبي ليتطابق مع واقعها النفسي، وهنا يشرئب الرمز التاريخي حيث تلح الشاعرة في ندائها للفارس ليرفع راية الجهاد وينطلق ليسترد القدس السليب كصلاح الدين الأيوبي محرر القدس من الفرنجة وبهذا يطمئن قلب المعتمد، وتعوض ما تراه من خيبة الأمل وهنا ((ستبحث عنه في صورة جديدة لبطل قومي، افتدائي، مخلص(8))) كما يراه أدونيس في البعث والرماد.
في دلالة مباشرة تتحدث فيها الشاعرة عن تفاؤل بثينة بالرغم من معاناتها، وعن فؤادها العامر بالفتوة والشباب، لتنقلنا إلى إشراقة جديدة ترتبط بالذكريات وبالتراث في خطابها الذي ازدوج مضمونه على مواصلة المعركة لأن الأمل والحرية هو وعد رب السماء.
أفتش في الدمعة العربية عن ملحها..
وعن لون زيتونكمْ
وللبرتقال بمشرقنا طعمُ حريةٍ (ص 29)
سوف يأتي إلينا به
وَعْدُ ربِّ السماء.
وفيما سبق نرى ((في الصورة الشعرية تتجمع عناصر متباعدة في المكان والزمان غاية التباعد لكنها سرعان ما تأتلف في إطار شعوري واحد(9))) فعمق الصورة تجلى في زيتون المغرب وبرتقال المشرق وجمالها يرينا التشبث بالأصالة التي ساعدتها في عنف الطيران الحر متخطية المشاعر اليومية لتبوح بعزيمتها العالية في استنهاض الهمم لتصارع خيبة الأمل الحاضرة في ساحتنا العربية اليوم.
من جديد تبدو أمامنا نقطة مضيئة على الرغم من معاناتها الذاتية وظمئها فرعها يتطاول شامخاً بروح التحدي إلى درجة الاعتداد بالنفس.
فتطول بثينة في نخلة (ص 31 )
ويمتد في الرمل صوت ظماها
وتبكي.. وتظما
لابد من ذكر الصورة الفنية الطريفة المعنونة ((خيوط المغازل)) التي تستند وتشير إلى الصناعة التي اعتمدت عليها أسرة المعتمد في السجن ((أغمات)) لتحصيل ما تحتاج إليه من مال معبرة عن رفضها الشديد للاستعباد ولعصر الغواية الذي يذكرها بوطنها:
أهاجر في ناظري غربةٍ
تبصرني وطني
فتشتاقني خيمة علقت في يدي (ص 37)
خيوط مغازلها
((ليس أشد إيلاماً في النفس من وقع الغربة المعنوية والوجدانية على الإنسان في العصر الحديث(10) غربتها تساؤل مشبوب نتيجة غواية عصر اشرأب من وجدان الشاعرة إثر هذا الموقف الأليم الذي نبع من عاطفتها الشفافة.
بمن يا بُثينُ تلوذين..
والليل رمحٌ طويلٌ بكف جميل
ينافح عن ألف ألف بثينة؟!
بمن؟!
تتبدى الغربة الذاتية في هذه الدراما الواضحة التي تلامس أجل الحالات الإنسانية من سبي وتشرد نتيجة الهواجس التي تطال الأهل تجاه ابنتهم التي أصبحت سبية وتساؤلهم إلى من تلوذ..؟ أو بمن تحتمي...؟ ووالدتها ((رميكية)) ((قدماها رهينة طين المنافي(11).
وهاهنا يمكن للقارئ أن يلمس عملية التناص حينما استعارت الشاعرة حكاية جميل وبثينة من التراث الشعري العربي.
من جديد ترينا الشاعرة حاجة بثينة للتحرر من العاطفة الأسيرة لتتسامى في التوحد مع القيم والثوابت التي تتبناها وتعطي أبعاداً تتخطى الواقع وتنفلت من إسار الزمن لتتحرر منه متجاوزة غربتها الداخلية التي يبلسمها شعاع يجنح نحو المستقبل، هي بثينة أخرى سيدة العطر والعشق والتيه:
وأنا.. لي سيادة هذا المساء
بثينة أخرى
ولم يغب النهر عن جسد
لم يزل يتفرع فيه العفاف
وهنا تستلهم الشاعرة أهمية المرأة في التراث الإسلامي فتتجلى أمامنا سيدة العطر والعشق والتيه بعد ذهاب الخوف عنها، فقد تحولت إلى أخرى بثينة الجسد الوردة المحتفظة بعفافها لم يغب النهر عنه فهي بحالة عشق وانتظار، فالصورة الفنية هنا صورة الفتاة العربية التي تنشدها الشاعرة في حضور بثينة الطاغي عبر متاهتها في السبي لتكون بطلة حقيقية تليق بامرأة عربية معاصرة.
الهوامش:
1 ـ د. إبراهيم محمد الوحش، في ظلال النص، ص 52
(*) د. سهيل زكار ـ التاريخ العباسي والأندلسي والسياسي والحضاري، كانت مملكة أشبيلية أكبر ممالك الطوائف وأقواها. وكان على عرشها المعتمد بن عباد الذي يمكن اعتباره بين أعظم شخصيات العالم الإسلامي في القرن الخامس، فهو كان سياسياً بارعاً، وإدارياً ناجحاً، وفارساً محنكاً وعلى درجة كبيرة من الشجاعة والإقدام، وفوق هذا كله كان من أعظم شعراء عصره وأكثرهم تمكناً من فنون الأدب والبلاغة ص 339.
2 ـ صالحة عبيد غابش، ديوان بمن يا بثين تلوذين، ص 5.
3ـ هلا عبد اللطيف قصير، الاتجاه الرومانسي في شعر الإمارات، ص 20.
(**) د. فيليب حتى، د. إدورد جرجي، د. جبرائيل جبور ـ تاريخ العرب، حين هدد خطر الفونسو السادس مملكة المعتمد: ((ارتكب أكبر خطأ إذ طلب النجدة من يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين في مراكش، ورغبه في الجهاد ونصرة الإسلام وقدم يوسف بجيشه في ت2 من سنة 1090 ودخل غرناطة ونفى المعتمد إلى مراكش فاعتقل في أغمات.. وكانت زوجته اعتماد وبناته يغزلن للناس بالأجرة)) ص 621 ـ ص 622.
4ـ الخليج الثقافي العدد 8596 ـ 4 نوفمبر 2002.
5ـ نفس المصدر السابق. http://www.awu-dam.org/mokifadaby/443/mokf443-027.htm
6ـ صالحة غابش ـ بمن يا بثين تلوذين ص 7.
7ـ نفس المصدر السابق ص 8.
8ـ محمد جمال باروت ـ الحداثة الأولى، ص 93
9ـ هلا عبد اللطيف قصير، الاتجاه الرومانسي في شعر الإمارات، ص 297.
10ـ نفس المصدر السابق.
11ـ صالحة غابش ـ بمن يا بثين تلوذين ـ ص 54