من جمال الذكريات     ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
لو رأيتني يا أستاذي الغالي زهير ، وأنا أطالع ما كتبت عن ( جمال فائق بك )، لتيقنت أنك اكتسبت ثوابا جزيلا بما أسعدتني وأسعدت كل من قرأ ما كتبت . لقد سررت أيما سرور ، وضحكت حتى كدت أنقلب أرضا من شدة الضحك وأنا مستمتع بأسلوبك الأخاذ وأنت تشرح حالك وانت صبي مع ذلك البصير الكفيف ، وتخيلتك وأنت مندهش من مقدرته على معرفة هل عيناك مغمضتان أم مفتوحتان ، وأنك لم تغمضمها أول الأمر غير مصدق أنه سوف يعرف ما تفعل ، فإذا الحيلة تنكشف له بسهولة محيرة . أضحك الله سنك ، وخلاك ترفل ومن تحب في ثياب السعادة والهناء ، وأرجو الله تعالى أن يبقيك لنا ولمن بعدنا منارا للعلم والأدب . أما تقريظك إياي فهو من بعض لطفك وصدق محبتك ، وسوف يظل من مثلي ينهل من عين أدبك وعلمك العذبة الفياضة ، ويتعلم من بعض ما حباك الله من موهبة . والأستاذ الكريم العزيز أحمد عزو ، أدام الله عزه ، قد أمتعنا ، لا ريب ، بقصة ( أبو راشد ) الذي عوضه الله مما عوضه عن البصر بحاسة شم قوية ، غير الذكاء في التخطيط الذي مكنه من معرفة الفاعل بسهولة ويسر أمام اندهاش طلبة الصف وحيرتهم . وأسلوب السرد لدى الأستاذ عزو رأيته يمتاز بالإيجاز والوضوح ودقة الوصف ، فهنيئا له أسلوبه ، وهنيئا له خلقه وأدبه وعلمه . وما دمنا نقص ذكرياتنا مع المكفوفين ، فلن أنسى أحدهم ، وهو ، رحمه الله ، كان شيخا مؤذنا من مشاهير مؤذني مساجد مدينة نابلس ـ وهي مدينة جميلة عشت فيها سنين طوالا من عمري ، وأهلها أقرب ما يكونون لأهل دمشق في اللهجة والعادات والتقاليد ــ وكان ذلك الشيخ على موهبة فائقة من جمال الصوت وحسن الأداء ، وعلى دربة في تلاوة القرءان وفقا لأحكام التلاوة السليمة ، وفوق ذلك يؤدي التلاوة القرءانية والتواشيح الدينية أداء شجيا متبعا المقامات الموسيقية ، يتنقل بينها شاديا طربا مطربا كما تتنقل البلابل الغريدة بين أفانين الأشجار المزدانة بأجمل الأزهار وأطيب الثمار . وعندما كان هذا الشيخ يؤذن لصلاة الفجر ، يبدأ قبل الأذان بما نسميه التسبيح ، ينبعث من حنجرته من مقام موسيقي شجي ، وهو يتغنى : سبحان فالق الإصبااااح ، سبحان مرسل النور بغير جنااااح ، سبحان من أضاء الكون بنوره ولاح..... سبحانه سبحان الله ، ثم : الله اكبر الله أكبر.....إلى نهاية الأذان . وكان الكثير من أهل المدينة يهبون من نومهم جذلين نشطين فور سماعهم تسبيحه وأذانه ، ويؤدون صلواتهم بخشوع وطمأنينة . لقد أحببت ان أذكر عن الشيخ ما ذكرت اعترافا بفضله ، واشتياقا إلى ذكراه . أما ما كان عليه من بصيرة نافذة فحدث ولا حرج : جمعتني به مرة جلسة دامت حتى منتصف الليل ، ثم لما هم بالرواح إلى منزله ، رأيت أن أرافقه قاصدا مساعدته . وكنا نمشي على رصيف طويل كدنا نقترب من نهايته ، فإذا به ينبهني أن حافة الرصيف على بعد خطوتين ، وكأنه يعرف طول الرصيف وكم قطعنا منه بدقة متناهية . وعندها خجلت من نفسي ، وتذكرت قول بشار : أعـمى يقود بصيرا لا أبا iiلكمُ | | قد ضل من كانت العميان تهديه | . وكأن الشيخ أحس بما يدور في رأسي ، فرجاني أن لا أتعب نفسي بمواصلة السير معه ، فعدت أدراجي متعجبا من فطنته وذكائه وسعة حيلته . ولكن ذلك الشيخ كانت فيه خصلة غالبا ما يضيق بها الناس ، وهي أنه كان إذا اختبر محدثه فوجده قليل المعرفة في أمر من الأمور ، فإنه يأخذ بالانتقاص منه ولو من طرف خفي ، ويأخذ بالنعي عليه ضحالة المعرفة وقلة الفهم ، بل ويجاهر أحيانا بأنه ( طلطميس لا يعرف الجمعة من الخميس ) ، كما كان يقول . وكنت أعزو ذلك إلى رغبة في نفسه يبغي من وراءها إفهام محدثه وسامعيه أن مكفوف البصر لا يستهان بعلمه ، وأنه يفوق المبصرين ذكاء وحضور بديهة وسعة اطلاع . وكانت تلك الرغبة التي لديه يظهرها أكثر ما يظهرها حين يكون محدثه من صغار الشبان . وازدادت معرفتي بالشيخ من جلسات عديدة ، عرف مني ، في إحداها ، أنني أحب الشعر والموسيقى ، فصار يختبرني ، فيسألني عن بحور الشعر وأسمائها ، وعن البيت الشعري الفلاني من أي بحر شعري هو ، وعن بعض القصائد ومن هم أصحابها ، وكنت أجيبه ؛ فقد كنت ، رغم حداثة سني حينذاك ، قد اطلعت على مقدار لا بأس به من الأشعار القديمة ، وحفظت بعضها غيبا . ولكن الورطة التي تورطت فيها هي عندما انتقل الشيخ من اختباره إياي في الشعر إلى اختباره إياي في الموسيقى ، حين أخذ يسألني عن المقامات الموسيقية وأسمائها وكيف تؤدى . كنت ، يومها ، أعرف أسماء بعض المقامات دون أن أتمكن من نسبة كل اسم إلى المقام الخاص به . ومن أجل أن أجيب على أسئلة الشيخ بسلام ، رغبت في أن لا أخفي عنه قصوري في معرفة المقامات كما يجب ، خشية أن أقع فريسة لنقده المرير الذي أخشى أن يقوم فيه (بطلمستي ) . ولكن الشيخ ، لما اكتشف أن معلوماتي عن الموسيقى ليست كما يجب أن تكون في حسابه ، انبسطت أسارير وجهه ، وبدا عليه الارتياح ، وبدأ يعد العدة للانقضاض علي ، فبدأ يترنم ببيتين من الشعر ويغنيهما : تحيرت والرحمن لا شك في iiأمري | | وحلت بي الأقدار من حيث لا أدري | سـأصـبر حتى يعلم الصبر iiأنني | | صبرت على شيء أحر من iiالجمر | كان غناؤه من نغمة محزنة مشجية ، تنفذ إلى قلوب سامعيها بسهولة ويسر ، فتثير فيها ما تثير من أحزان وأشجان . ولكني قطعت على الشيخ ترنمه ، وعلى السامعين انفعالهم بغنائه ، لما تيقنت أنه سوف يسألني عن اسم المقام الذي يؤدي عليه ، فخاطبته : يا مولانا ، فيما يخص المقامات ، فإنني أعرف بعض أسمائها ، وأنا فيها كالذي يعرف وزن القصيدة صحيحا أم مختلا من إيقاع أبياتها ، دون أن يكون على معرفة ببحر الشعر الذي تنتمي إليه تلك القصيدة . ورد الشيخ : " واللهِ عال ! بتقول إنك بتعرف في الموسيقى ؟! " ، ثم أخذ الشيخ يردد البيتين السابقين ويتغنى بهما ، ثم توقف فجأة ليسألني : "من أيْ مقامْ هدا يا شيخ ياسين ، ها ؟" ، فقلت له : قلت لك يا سيدي الشيخ ، أنني لا أعرف اسم المقام ، ولكنك لو أخطأت فشذذت عن طبيعة أدائه ، فربما انتبهتُ إلى خطئك . وهنا تذكرت الرصيف والخطوتين ، وقد تأكد لي أن الشيخ يومها ما قصد إلا الغمز فيّ وتجهيلي ، فتابعت مخاطبا إياه : وهل من الضروري أن أعرف اسم المقام الذي تريد؟ أجاب الشيخ : " طبعا طبعا . عال والله! لازم تعرف المقام ، لأنه المقام أهم إشي بالموسيقى والتواشيح " . وهنا تدخل أخ لي يكبرني سنا ، وكان هو من دعا الشيخ ضيفا وأصدقاء آخرين ، وكان صديقا للشيخ ويعرف طباعه ، فقال : " ياسيدي الشيخ ، أخي يرغب أن يتعلم منك المقامات فما قولك؟ " وهنا ، بدت على محيا الشيخ سعادة غامرة ، وغشيه ما غشيه من الاعتداد بالنفس ، فقال : " حاضر ، بس بدي ياسين يكون ذكي وفهمان ، وهلأ بنبدا الدرس". واقترح أخي على الشيخ أن يؤدي بيتا من الشعر واحدا ، يؤديه هو نفسه عدة مرات ، كل مرة على مقام مختلف ، حتى يتمكن الحاضرون من تعلم شيء عن المقامات . واستحسن الشيخ الاقتراح ، وأخذ يغني : قرأنا في الضحى ولسوف يعطي | | فـسـر قـلـوبنا ذاك iiالعطاء | كان أداء الشيخ من نفس النغمة الحزينة السابقة ، وراح يزيد ويعيد ، ويتفنن في الأداء ، فصار ينتقل من مقام إلى مقام ، ثم يعود إلى المقام الأول ، ثم ينتقل إلى مقام جديد ، وهكذا ، حتى انتهى من عدة نغمات أحسست أنها متباينة بعض التباين ، وقد تم ذلك للشيخ في أقل من دقيقتين . وفجأة راح الشيخ يلح علي بأن أجيبه فأذكر كل المقامات التي تغنى بها مشترطا ان آتيه باسمائها مرتبة كما أداها . قلت للشيخ : إذا كان هذا هو الدرس الأول ، فكيف هو الدرس الثاني؟!! وهنا ، كان أخي قد أحضر مشروب الشيخ الذي يحبه ، وهو كوب كبير ممتليء من حليب ( النيدو) ، والذي تناوله الشيخ وأخذ يرتشف ما لذ فيه من الحليب قائلا : " إذا حصل الهرس ، بطل الدرس ". وكانت تلك البرهة فرصة سنحت لي ، تخلصت فيها ، ولو مدة قصيرة ، من عناء الإجابة على سؤال الشيخ ، والذي ربما يعجز عنه الموسيقي المحترف . وما أسرع ما انتهى الشيخ من شرب الحليب ، وأخرج منديله من جيب معطفه يمسح به شفتيه ، وأخذ ، وهو في هذه الحال ، يعيد علي السؤال مصرا على سماع إجابتي التي لا بد وأنه متأكد من خطئي فيها . ولم يكن لدي من الإجابة مفر ، فالشيخ مصر على سماعها بحجة أن ذلك جزء من الدرس لا مناص لي منه ؛ بينما لا يمكنني التهرب من الشيخ وإصراره ، خجلا منه ، إن لم ألبّ ما طلب . وما كان مني إلا أن وقعت في فخ الشيخ الذي نصبه ليصطادني ، فقد كانت إجابتي (خربشات ) كما يحب ويشتهي . وما كان من الشيخ الصياد ساعتها إلا أن راح يترنم مسرورا ، ويهمهم ، محبورا ، همهمة تنطلق بخفة من حنجرته صافية نقية ؛ تعلو متدرجة في العلو ، وتنخفض متدرجة في الانخفاض ، ثم تعلو قليلا حتى تكون بين بين ، ثم أخذ يغني ، مبتدأً من تلك الدرجة المتوسطة : يـا بـو العيون iiالسود | | يـا الـلي جمالك iiزين | إيـمـتـى الوداد iiيعود | | ويـتشوف مناها iiالعين | حـبيت وقلت يا iiريت | | إلـحِـبّ iiيـصـفالي | ويا ريت ما كنتِ هويت | | ولا كـان عـلـى بالي | لـيـه يا جميل iiصديت | | شــمّـتّ iiعـزالـي | يـا بـو يا بو يا بوي.. | ثم انتقل الشيخ في الغناء من العيون السود وجمالها إلى أبيات شعرية في مديح النبي ـ صلوات الله عليه ـ ولكن من نفس النغمة التي كان يسير عليها ، مترنما بأبيات غالبها من الزيادات التي طرأت على بردة البوصيري : يا رب واجعل رجائي غير منعكس | | لـديك واجعل حسابي غير iiمنخرم | ثم الرضا عن أبي بكر وعن iiعمر | | وعن علي وعن عثمان ذي iiالكرم | والآل والـصحب ثم التابعين iiفهم | | أهـل التقى والنقى والحلم iiوالكرم | وهـذه بـردة الـمختار قد iiختمت | | فـرج بـها كربنا يا واسع iiالكرم | أبـيـاتـهـا بلغت ستين مع iiمئة | | الـحـمـد لـله في بدء وفي iiختم | بعد ذلك ، راح الشيخ يتغنى ببيتين من الشعر ، ولكن من نفس النغمة التي غنى بها الأبيات السابقة : تحيرت والرحمن لا شك في iiأمري | | وحلت بي الأقدار من حيث لا أدري | سـأصـبر حتى يعلم الصبر iiأنني | | صبرت على شيء أحر من iiالجمر | كان الشيخ يتغنى بالبيتين من نغمة واحدة ، ويستبدل أحيانا " أحر من الجمر " بـ " أمر من الصبر " .. وطال به الغناء بتلك النغمة مدة حتى طلب منه واحد من الحاضرين أن يعود إلى بيت الشعر موضوع تطبيق المقامات عليه ، فعاد ، وصار يغنيه من نفس المقام المعتاد . ولما أراد أن يتمثل مقاما ثانيا ويطبقه على نفس البيت ، بدا وكأنه أرتج عليه ، فصار يتعثر في الغناء ، فيقول : " قرأنا في الضحى... ويسكت فجأة ، ثم يقول " إهْ ! سَحْلت " ، ثم يتابع الغناء : " قرأنا في الضـّ ... ويسكت مرة أخرى ، ويقول : " وين راحت؟! " ، ثم يحاول مرة أخرى ، فيقع في نفس المأزق : " قرأنا في الضـّ... مالي؟! شو صار معي؟! " ، ومرة : " مَزطتْ مني! ، راحت! " .. ثم قال : " عارفين شو صار معي؟ صار معي متل اللي دخل في هالطـّريق ، وسكّرت عليه هديك الطريق ! " ثم راح يقهقه بصوت عال ، ولكن قهقهته بدت متصنعة ، وكأنه يريد أن يظهر أن ما حصل معه كان طبيعي الحصول . ولما سأله الحاضرون عمن هي تلك التي ( سحلت وراحت ومزطت ) ، وماذا يعني بها ، قال : " النغمة!.. النغمة راحت مني !.. النغمة اللي بتخلليني أنتقل من مقام إلى مقام ضاعت مني " . أحسست عندها أن ما حصل للشيخ كان وكأنه انتقام منه على ما اعتاد عليه من نقد الغير ، ولكنني ، وبعد مدة ازداد فيها وعيي ، وصرت اقرب إلى إصدار الأحكام الصحيحة مني إلى الأحكام الخاطئة ، أدركت أن الشيخ ربما سيطرت عليه نغمة المقام الموسيقي المحزن حزنا ممزوجا بالكثير من الشجن ، وأن معنى البيتين اللذين تغنى بهما ، وما فيهما من حيرة وحث على الصبر ، كان له في نفسه صدى مؤثرا إلى أبعد حدود التأثير . لقد كان المقام الموسيقي الذي سيطر على عاطفة الشيخ ولم يمكنه من الإفلات إلى مقامات أخرى هو مقام ( الصَّـبا ) الذي عرفت نسبة اسمه إلى جسمه فيما بعد ؛ ذلك المقام الذي غنى عليه الناس كثيرا من أحزانهم ، وبثوا عن طريقه صادق أشجانهم . وهو ، أيضا ، نفس المقام الذي أدمن الشيخ عليه في تسبيحه وأذانه فجر كل يوم حتى توفاه الله . رحم الله الشيخ وغفر له ، ورحمنا معه وغفر لنا . |