رد موجز كن أول من يقيّم
أخي الكريم محمد: أشكرك على إثارة هذا الموضوع. إحدى كبريات الإشكاليّات التي تواجه أي باحث في تصدّيه للدراسات التاريخيّة القديمة للشرق الأدنى القديم هي الاستناد إلى نصوص أسفار التوراة والتلمود والمدراش وما يتبعها من أنطولوجيا الهَجداه والهَلخاه والأپوكريفا (المنحول) على اعتبارها وقائع تاريخيّة ثابتة قديمة ومتفرّدة في عصرها. يا للهول.. ليس في ذلك ذرة واحدة من المصداقيّة.. أبداً! رغم أنني الآن لست في وضع يسمح لي بالرّد بصورة كاملة، أحب أن أوجز الجواب، على أن أتوسّع به في مجلس مستقلّ عن أدبيّات «التلمود» كتاب اليهود المقدّس. فأقول: التوراة تنقسم إلى ثلاث مجموعات من الأسفار: أسـفار »توراه« תורה (أي الشريعة)، 5 أسفار: التّكوين، الخـُروج، اللّيويين، العَدَد، التّثنية - وجميعها يُنسب إلى موسى النّبي عليه السلام). وأسفار »نبيئيم« נביאים أي الأنبياء (ومنها أسفار ذات محتوى تاريخي)، وهي 21: يشوع، القضاة، صموئيل الأول والثاني، سفرا الملوك الأول والثاني، يَشَعياه، يِرمياه، يْحَزَقئيل، هُوشَع، يُوئيل، عاموس، عُوبَدياه، يُوناه، ميخايا، ناحوم، حَبَقّوق، صَفَنياه، حَجّاي، زكريّا، مَلاخيا. ثم الأسفار التاريخية والأدبية »كتوبيم« כתובים (المدوّنات) 13 سفراً: أخبار الأيام الأول والثاني، المزامير، أيّوب، الأمثال، راعوت، نشيد الأنشاد، الجامعة، مراثي يِرمْياه، سفر إستير، دانيئيل، عِزرا، نِحِمْياه. فأمّا سفر أستير، فهو أحد أسفار المجموعة الثالثة »كتوبيم« כתובים (المدوّنات التاريخية)، وتدوينه متأخر جداً عن المجموعتين الأوليين، ورغم أنه يضع الإطار التاريخي للحدث في بلا فارس ومادي بأيام الملك أحشويروش الأول (خسرويه الأول بالفارسية الأخمينية القديمة)، فهذا لا يعدو أمر التدليس وكون الرّواية برمّتها مختلقة، تهدف لإثارة عاطفة اليهود على النكبات الممضة التي لحقت بهم، لشدّ أزرهم ودفعهم إلى التكاتف. الأمر شبيه تماماً بإعادة جمع التّوراة الأولى على يد عزرا الكاتب (عزرا هسّوفير) في القرن الخامس قبل الميلاد. وحول ذلك نقرأ أساطير مغرقة في الخيال، نقل بعضها علاّمة بلاد الشام الأمير أبو الفداء في رائعته »المختصر في أخبار البشر«. لقد أدخل عزرا على نصوص التوراة القديمة مقاطع أدبيّة عجيبة غريبة لا تمتّ بصلة إلى أصولها القديمة.. كيف؟ كان الرجل يعيش في بلاط الأخمينيين العظماء في عاصمتهم »پرسيپوليس» Persipolis (تسمى اليوم بالفارسية: تخت جمشيد، أي كرسي الملك)، وكانت في هذه المدينة الباذخة مكتبة ملكيّة رائعة تضم تراث الشعوب جميعها، من بابليين وآشوريين وسومريين وأكاديين وكلدان وكنعانيين ويونان ومصريين، وتراث جزيرة العرب القديمة (وخاصة تراثها الجنوبي السبئي والحميري). على ذلك وجد هذا الكاتب أمامه معيناً مذهلاً للجمع والتأليف، ولا ريب أنه كان ذا مقدرة أدبية رفيعة ومخيّلة خصبة، مكنتاه من جمع مواد بقيت في وعاء ما نُسب إلى التّوراة الأولى، وكأنها جزء أصيل منها.. وعلى شاكلتها ما حصل فيما بعد بأمر سفر أستير (المجلاّه מגלה). فأين ذهب هذا التراث كله، الذي كان في مكتبة »پرسيپوليس» العظيمة؟ دمّره الغازي الغبي الإسكندر المقدوني (333 ق.م) وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.. وفقدت البشرية تراث الشرق الأدنى القديم المجموع كله في مكان واحد، مع ترجمات كاملة كانت له بلغة الفرس القديمة (الپهلويّة). أمّا ما تمكن بطليموس من جمعه فيما بعد في مكتبة الإسكندرية فكان شيئاً لا يقاس بذاك، وعلى أي حال فالأخرى احترقت وباد بها ما تبقى من هذا التراث القديم. التوراة الحالية إذاً نسخة مشوّهة عن مجاميع لعبت فيها يد النقل والقص واللصق والتحريف والقولبة بشكل هائل. ومنها بالطبع قصة إستير وابن عمّها مُردخاي في بلاط الملك، وحادثة مؤامرة الوزير هامان الأجاجي (الذي تجعله القصة عماليقياً عربياً). هذه كلها رواية مختلقة وبها من الافتراء والوضع ما يجعلها أسطورة تاريخية بامتياز.. لم يجر من وقائعها شيء. فحول أي هامان نناقش ونثبت؟؟ نص التوراة مزيف ولا مصداقية له. الأنكى من ذلك هي قصتها الموسعة على أديم الهجداه في التلمود (وهناك يصبح اسمها: الأجداه تمييزاً عن هجداه التوراه والمدراش).. ففيها نقرأ تفاصيل مسرحية وخطابات ومشاهد دراميّة لا ندري من الذي يمكن أن ينقلها في حومة تلك المأساة (إن وقعت فعلاً)؟؟ تختتم القصة بأن اليهود نجوا من الموت، وبحبكة درامية شكسپيريّة يتزوج الملك من الفاتنة إستير (هداسّا بالعبريّة)، ويقوم بشنق هامان (الشخصية المغرقة في الخيال)، وينجو اليهود من الذبح، ومنذ ذيّاك اليوم يحتفلون بنجاتهم بعيد كبير يسمّى في العبريّة: «يوم پوريم» יום פורים (أي عيد القرعة، بضم القاف) ويأكلون فيه الفطير (همتسوت)، ويتذكرون كيف نجوا من كيد هامان وخطر أحشويروش. هذه الرواية لا تزيد مصداقيتها على ما نقرأه في سيرة الملك الظاهر الشعبيّة للديناري! يبقى أن نقول إننا عندما نتعامل مع تاريخ اليهود لا نرى أمامنا إلا هذه النصوص، أمّا عندما نتعامل مع تراث الشعوب الحقيقية التي أقامت على هذه الأرض، فلدينا تراث أدبي وتاريخ مخطوط ومنقوش هائل، وآثار على الأرض في مواقعها ما تزال، وأخرى تغصّ بها أروقة المتاحف شرقاً وغرباً.. نقرأ عن الفينيقيين ونلمس بيدنا ناووس الملك أحيرام أو أشمنعزر في متاحف بيروت وصيدا وجبيل، ونقرأ عن الآراميين فتطالعنا نقوش بارركب ونقوش حداتو (ارسلان طاش)، ونقرأ عن المؤابيين فيطالعنا نقش الملك ميشع.. وهلمّ جرّا. أما تراث العربيّة القديم فمنه ملايين النقوش من حضرموت جنوباً إلى بادية تدمر في الشام شمالاً.. هذه آثارنا تدلّ علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار فليت شعري، أين هو تراث اليهود، وآثارهم، ونقوشهم، وهياكلهم؟؟؟ كذب في خيال في تنطّح في وهم.. أشبعنا رحبعام زئيڤي وأتباعه في الثمانينيات والتسعينيات كلاماً، ولكن علم الآثار والإپيغرافيا والتاريخ لا يعنيها الكلام، بل الوقائع والبراهين، أو حتى القرائن في أضعف الإيمان. لم نر أثراً واحداً لسليمان أو داود أو شاؤول.. أو أي ملك آخر سواهم. أين هو الهيكل المزعوم، وأين جرت كل تلك الوقائع؟؟؟ رحم الله الدّيناري.. لم يكن عزرا إلا كاتباً أديباً على منواله! يبقى أن أقدّم على صفحات الورّاق مجلساً عن التلمود وعن قصّة إستير المزعومة (المجلاّه). تحياتي القلبية لك أخي محمد. |