حول كن أول من يقيّم
حضرة الدكتور الفاضل ، أستاذنا صبري أبو حسين ، حفظه الله ورعاه ،
شاكرا لحضرتكم تعقيبكم الذي ينم عن الذكاء وسعة الاطلاع ، أتقدم بما يلي راجيا أن يجد ما أتقدم به قبولا عند حضرتكم الكريمة :
إنني من المغرمين بشدة بالأوزان الشعرية العربية الأصيلة ، خاصة تلك المنبثقة من بحور الشعر العربي المعروفة ، فهذه الأوزان لا بد وان تكون قد بزغت مع بزوغ شمس اللغة وأوزان ألفاظها وأجراسها الموسيقية ، وسارت في سيرها معها حتى وصلت إلى قمة النضوج الإيقاعي الجميل . وعلى هذا ، فإن الأوزان المخترعة التي حاول مخترعوها أن يذيعوها بين الناس ، لم تلق الرواج الذي لقيته أوزان البحور الخليلية ، رغم أن بعضها مشتق حسابيا من دوائر الخليل نفسها .
و إن الوزن الذي نظم عليه أمير الشعراء ، وتفضلت حضرتك بذكره ، قصيدته " مال واحتجب " ، والتي قلدته أنا في نفس وزنها وقافيتها ورويها ، لهو وزن جميل حقا ، وله ، كما تفضلت ، أغراضه التي تناسبه ، ومنها غرض الأحجية ، وإن رفضه بعض الباحثين الذين يرون في الشعر وجوب أن يكون ذاتيا ، فهناك من يعارضهم في ذلك ، وفي معنى الذاتية وغير الذاتية . وبما أننا لا يحرم علينا إحياء ما اقترب أن يندرس من الأوزان الشعرية ، ولو من باب الذكريات الجميلة على الأقل ، فإننا نشبه في ذلك من ما زال يتغنى بألوان الغناء الشعبي كما هي على حالها القديم ، ويعجب غالب الناس تغنيه . ولن يكون مصيبا من ينعى على الناس البوح بما يحبونه من تراثهم الأصيل بحجة عدم صلاحيته لعصرنا الحاضر ، في الوقت الذي نرى فيه الأمم الأخرى تعتز بتراثها أيما اعتزاز ، وتفخر به أيما فخر ، خصوصا ما كان منه في الآداب والفنون بعامة .
ونحن من الذين لا ينكرون التجديد المنضبط بالقواعد والأصول . وكلنا نعلم أن التجديد في الشعر ، في لغته وأغراضه ، لن يكون مرفوضا ما دام يمس نفوس قارئيه وسامعيه ، فيصيب منها ما تنفعل به وتتفاعل معه قلوبها بصدق وعفوية ، ولكن ، هل هذا التجديد في الشعر ، والذي تخلى عن الأوزان الشعرية التي نبعت من معين اللغة وأوزان ألفاظها ، ومن دقة معانيها وصوابها ، هو تجديد سليم البنية حقا؟!هذا التجديد ، لن نكون مجبرين على تفضيله على البنية الشعرية الموروثة من ناحية الوزن على أقل تقدير .
إنني أتحدث إلى دكتور شاعر لبيب ، وأديب ناقد أريب ، وحديثي معروف لديه ، وله خبرته في ما هو معقول منه او غير معقول ، وما هو صائب او غير صائب ؛ ولكنني لا أهدف من وراءه إلا الفائدة لنفسي قبل غيري ، ولهذا أتحدث به .
أما الشاعر الشهير حافظ إبراهيم ، فإنه من الممكن أن تكون سخريته بقصيدة أمير الشعراء ووزنها ، مدفوعة بالمماحكة والجدل بين شاعرين قديرين من جيل واحد بينهما فارق المكانة الاجتماعية ، وفارق الظروف الحياتية الأخرى ، إضافة إلى ندرة الوزن على ما يبدو . ولكننا نعلم أن أمير الشعراء كان يجيد نظم المعاني وفقا لما يناسبها من أوزان ، ولم يكن يتقبل القول بأن وزن بحر الرجز ، مثلا ، ليس من أوزان الشعر المعتبرة ، وأنه سهل الركوب على الشعراء من جهة وزنه كما يسهل ركوب الحمير الصابرة المطيعة ؛ وإنما كان يعتبر الشعر الجيد بمعانيه المناسبة للوزن المناسب من أوزان البحور . فالكأس عنده لا تقوّم ما فيها من جودة الشراب ؛ وإنما الشراب الجيد هو الذي يهب نفسه المذاق الطيب ، وهو بذلك يرى خلاف رأي أولئك الذين قالوا عن الرجز ما قالوا ، فيقول :
يرون رأيا وأرى خلافه |
|
فالكأس لا تقوم iiالسلافة |
أما الأحجية التي تقدمتُ بها ، فقد كان الأجمل بي ، لو كنت ذكيا ، أن يكون جوابها " اللغة العربية " كما تفضلت ، وكيف كانت ثم ما آل إليه حالها ، أو " واقع العرب المعاصرين " كما تفضل أستاذنا زهير ، ولكنني آسف على ما فاتني من نباهتك يا أستاذنا الدكتور صبري ، ومن نباهة أستاذنا زهير ، فعنيت بالحديقة اليابسة ، التي تجتنى الرطب من يبوسها ، الشيخوخة التي ولت أيام صباها ، ولكنها مترعة بالحكمة وجودة الفهم .
تحياتي ومودتي لشخصكم الكريم .
|