البيمارستانات وأنشطتها التَّعليمية
البيمارستان أو المارستان ويسمونه أيضاً بيت المرضى وهو سكن لعلاج المرضى يبنيه أحد الخلفاء أو المحسنين ويُرتَّب فيه الأشربة والأطباء والكحالين والجراحين، والطبائعيين، والأدوية ويوقف عليه كفايته بهدف علاج المرضى ورعايتهم وربما تكون مُلحقة بمدرسة كما كان وضع المدرسة النُّورية بدمشق وعادة تتوفر بها مكتبة وصالة للتَّعليم إلى جانب المسجد الذي يلازم عمائر المسلمين أينما كانوا. بيمارستان كلمة فارسية الأصل تعني دار المرضى. الْتَّارِيْخ يقرن بين اسم أبقراط العالم اليوناني وبين فكرة سكن لعلاج المرضى وقيل أن مناقيوش أحد ملوك القبط الأُوَل في مصر هو أوَّل من سبق في الدَّعوة إلى هذه الفكرة (المقريزي، ص 1804).
كان المسلمون في ذلك الوقت يُدركون أنَّ المستشفيات التي في الأقاليم الإسلامية في زمنهم لا مثيل لها في العالم كله؛ لأنها مُلحقة بها المساجد، والْمَدَاَرِس والمكتبات العامرة والمرافق المهمة العامَّة (ابن العماد، ج7، ص 361). ولعل أول ظهور مُنَظَّم للبيمارستانات في تاريخ المسلمين يمكن إرجاعه إلى عهد الوليد بن عبدالملك الأموي بدمشق عام (88 هـ = 706 م).
كانت البيمارستان تتكون من قاعات للمحاضرات وصيدلية يسمونها "الشَّراب خانه" وخِزانة كتب. ينال المريض رعاية فائقة إلى درجة أنَّه قد يأخذ بعض المال ليستعين به على قضاء حوائجه كنوع من المعونة نظراً لانقطاعه عن العمل الذي هو مصدر رزقه ورزق أسرته. قد يحضر القَصَّاص في بعض الأمسيات لرواية القصص ترفيهاً لنفوس المرضى. بعض السَّلاطين نجد أنهم كانوا يبنون الخَوَانِق للزَّمنى والعميان ويقوم السُّلطان بتفقد أحوالهم كل يوم اثنين وخميس (الذَّهبي، ج22، ص 335). الوليد بن عبد الملك أجرى على العميان والمجذومين والمجانين الأرزاق. الْتَّارِيْخ يخبرنا أيضاً أنَّ بعض الجوامع الكبيرة في مصر -مثل جامع ابن طولون-كان فيها خزانة للأدوية وخادم وطبيب جالس يوم الجمعة ؛تحسباً لأي حادث قد يحدث للحاضرين وكأن الجامع فيه مستشفى صغير مُتنقِّل في حالة تأهب للَّطوارئ.
في رحاب هذه البيمارستانات مارس المسلمون ما يُسمى (بالفحص السَّريري) لتشخيص حالات المرضى. علي بن رضوان رئيس الأطباء في القيروان يصف لنا طريقة هذا الفحص وخلاصته أنَّ الطبيب يطلب إلى المريض بالاستلقاء على ظهره ثمَّ يتعرَّف حال مزاج قلبه بالنَّبض، كما يمتحن عقله بأن يسأله عن أشياء... يعلِّق د. أحمد شوقي الفنجري على هذا الوصف قائلاً "فهذا الأسلوب العلمي الدَّقيق في الكشف على المرضى قد أحدث ثورة في مجال تشخيص المرض ومعرفته قبل بداية العلاج.. وقد نقله الغرب عن المسلمين بعد ستة قرون كاملة".
ومن المنجزات الدَّالة على مهارة الإدارة النَّاجحة في توفير الخِدمات العامَّة بصورة مُنظَّمة أنَّه إذا جاء المريض إلى المارستان تُنزع ثيابه وتُحفظ عند أمين المارستان ثم يلبَس ثياباً خاصة بالمرضى ويُفرش له ويُغذَّى الطَّعام المُناسب لكل حالة مرضيَّة ثمَّ يعوده الأطباء ويُعطى الأدوية حتى يبرأ وأخيراً يستعيد ثيابه وممتلكاته التي سلَّمها لأمين المارستان في أول يومٍ من دخوله المارستان وقد يصل الأمر إلى أنَّه قد يحصل المريض على معونة ماليَّة لتصريف شؤون حياته الضَّروريَّة. يخبرنا ابن جبير أنَّ بعض السَّلاطين قد يتوسعون في إكرام الغرباء ممن يفدون من الأقطار النَّائية ومن الغرباء الطارئين فيبنون لهم المدارس ويجرون لهم الرَّواتب كما يبنون لهم المارستانات لعلاج مَن مرض منهم فيتفقَّد الأطباء "أحوالهم وتحت أيديهم خدام يأمرونهم بالنَّظر في مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء". يحق لابن الجُبير أن يكرر كلمة "مفاخر" "ومناقب" كلَّما تكلم عن هذه الرَّوائع في البلاد التي زارها إذ أنَّه يقول مثلاً "ومن مناقب هذا البلد ومفاخره.." (ص 7) ومن مفاخر هذه البلاد.." (ص 180) وهذه المفاخر الإنسانيَّة هي التي نسميها في هذا الفصل من كتابنا بـ "منجزات" لأنها مفاخر ينبغي الإعتزاز بها وتعزيز ذلك يكون بالإقتداء بها والعمل على نموها.
ذكر الزَّبيدي في معجمه تاج العروس تعريفاً لوظيفة علميَّة وإداريَّة مهمة في البيمارستانات ، وهي وظيفة "السَّاعور" وهو "مُقدَّمُ النَّصارى في معرفة علم الطِّب وأدواته وأصله بالسّريانيَّة ساعوراً، ومعناه متفقد المرضى" (ص 4261). ارتبط اسم السَّاعور في تراثنا الإسلامي بمن يتسلم رئاسة الأطبَّاء ويقوم بالإشراف على سير شؤون البيمارستان. يُختار من بين الأطبَّاء المشهورين في زمنه (الصفدي، ص 4079) وعادة يكون من أصحاب السُّمعة والوجاهة (القفطي، ص 243)، وقد يكون أوحد زمانه في صناعة الطِّب وفي مباشرة أعمالها، ومشهوراً بتصانيفه وحواشيه على الكتب الطِّبِية (ابن أبي أصيبعة، ص 352)، وربما يكون خبيراً باللِّسان السرياني والفارسي مُتبحراً في اللُّغة العربيَّة (ابن سينا، القانون في الطِّب، ص 2334). من النَّاحية التَّربوية يُشَبِّهُ بعض الباحثين في الحقل الطِّبي وظيفة السَّاعور في البيمارستانات الإسلاميَّة بعمل مدير أو عميد كلية الطِّب (الفنجري، 2001 م). معظم هذه المؤهلات العاليَّة التي جمعناها من كتب التَّراجم وغيرها كانت فعلاً مُؤهلات توفرت في عدد من الأطباء المسلمين ممن عملوا في هذه المهنة التي تمثِّل قمَّة الهيكل الإداري داخل البيمارستان. هذه المكانة القيادية الرَّفيعة تعكس ثِقل هذه المهنة وعظيم رسالتها في تحقيق هدف البيمارستان علميّاً وعمليّاً.
كانت البيمارستانات التي فيها حلقات لتدريس الطِّب كثيرة في الأقاليم الإسلامية ويُقال إنَّ المقتدر بالله العباسي هو أول من طالب بالامتحانات لنيل إجازة التطبب حتى لا يمارس المهنة من ليس من أهلها وكان الطَّبِيْب المشهور سنان بن ثابت بن قرة (ت 331 هـ = 942 م) ممن يمتحن الأطباء. كانت الامتحانات على شكل تقديم "أطروحة" عن موضوع طبي يقوم الطَّبِيْب بكتابتها ثم يُمتحن بها أو أنَّه يُسأل عن بعض ما كتبه عُلَمَاء الطِّب (عبدالدائم، 1997، ص 164، الفنجري، ص 2001 م). مُحَمَّد بن أبي مُحَمَّد (ت 776 هـ = 1474 م) من الْعُلَمَاء الذين دَرَّسُوا في المارستان المنصوري وكان عالماً بالعلوم العقلية والنَّقلية وانتفع النَّاس به وأخذ معلوماً (راتباً) على عمله في التَّدريس في المارستان (ابن العماد، ج 8، 428).
كان من دأب بعض الأطباء التَّدريس في البيمارستانات كما تدل المعلومات المتناثرة في الكتب المعنية بتاريخ الطِّب، وأخبار الحكماء وعلوم الأوائل في الإسلام (ابن أبي أصيبعة، ص 415). لا ريب في أنَّ عمليّة التَّدريس في البيمارستانات كممارسة حضاريَّة تُعدُّ فكرة وخطوة عمليَّة قام بها المسلمون لتحرير نطاق الطِّب من الجدل الفلسفي العقيم ونقله من مرحلة التأمُّل الفكري العميق إلى مرحلة العمل الواقعي الدَّقيق. هذه الخطوة ساهمت في تقريب مهنة الطبَّ من واقع الحياة لأنها بدأت ترتبط بالتَّجربة والممارسة العمليَّة في المؤسسات التَّخصصيَّة ذات الإدارة الدَّقيقة، والسِّياسات الواضحة، والمسؤوليات المهمة. هذا كله بطبيعة الحال ساهم في رفع مستوى علم الطِّب عامة ودفع به عالمياً نحو آفاق جديدة في مسيرة تقدم العلوم.
ذكر السَّامرائي (2001 م) في بحثه عن تعليم الطِّب في العصور الإسلامية أنَّ مهنة الطِّب عند العرب قبل الإسلام كانت "بسيطة إلى أن ظهرت الحاجة إلى هذه المهنة في المدن. وتطوَّر الفِكر العربي بعد اتصال المسلمين بعلوم الحضارات المجاورة للبلاد الإسلامية الذين كانوا يومئذ يتمتَّعون بمعلومات وفيرة في العلوم الطَّبيعية، وممارسة واسعة في الطِّب العلمي. ولما كثر طلاب المدارس البيتية اضطر المعلمون أن يقيموا دروسهم في أماكن أوسع، فانتقلوا إِلى أحد أركان المساجد حيث تُقام بنفس الوقت دروس علوم الدِّين في أركان أخري منها. دور العبادة كانت منذ أقدم الأزمان مدارساً للتَّعليم، وصارت في العصور الإسلامية أشبه بالجامعات، فيها حركة دائبة لتعليم أعلى صنوف العلوم الأدبيَّة والعقائدية. وعلى أساس أنَّ الطِّب علم تطبيقي لا يسهل إدراكه إلا بمشاهدة المرضى ودراسة شكاواهم وتجربة الأدوية عليهم، لذلك لا يعترف البعض بوجود مدرسة طبية بالشَّكل العلمي والعملي في الأقطار الإسلامية قبل استحداث المستشفيات فيها. ولما كثر الأطباء من ذوي المستويات العالية، وأصحاب الكفاءات والتَّجربة في تعليم الطِّب، كثرت أيضا مراكز التَّعليم في البيمارستانات التي كان أوسعها وأشهرها البيمارستان العضدي في بغداد، الذي عمل فيه ما يزيد على عشرين طبيباً أكثرهم من ذوي الخبرة في التَّطبيب والتَّعليم. لم تكن دروس الطِّب مقتصرة على التَّلاميذ وحدهم، بل يدخلها أيضاً الأطبَّاء الممارسون ليستزيدوا من خبرة الشَّيخ الذي يدير الحلقة،، يشارك كل واحد منهم في المناقشات والتَّساؤل على قدر معلوماته" (باختصار).
جزى الله خيراً كاتبها وقارئها وموصلها. |