وإنني أيها السيد العربي ندمت ندامة الكسعي على أمر فرطت فيه وتهاونت به ولهوت عنه.. في حياتي الأدبية والعلمية التي عشتها بين هذه الأمة العربية وعشت فيها هموم العروبة ومآسيها وآمال الوطن العربي وتطلعاته حتى امتلأت من ذلك أضلعي وأخمصي واشتعلت كل شعرة من رأسي شيبا من شوب مفاسد الأحوال وقواصم الأهوال.. لعلك تسأل فيم ندمك.. ندمت أنني لم أر بغداد قبل خرابها وبوار سوقها ودق عظمها وكسر ساقها.. كنت أوان الحرب أتسمر أمام الشاشة.. فكلما هدم جانب في بغداد أحس أثر التداعي في أطراف من جسمي, أحسه مرة في حنكي كأن شقا منه يميل حتى يتدلى على عنقي وقفاي, ومرة من شدقي كأنه يتهدم ويرعد, وتارة في يدي كأنها شلاء, حتى طمست معالم بغداد فأحسست كأن وجهي طمست معارفه فسقطت عين على الفم واعتلى الأنف الجبهة ووقف الأنف حائرا علىالخد الأيسر واستلقت الأذنان على الحنك الأيمن..وتناثرت الأسنان والأضراس على الجانبين.. أنا لا أدري..أنا زهرة متألمة يا أخي..تعذبني الأخبار الآتية من البلاد.. تعذبني كل العذاب..صرت أخاف انفجار الفجر في كل يوم..لأنه لن يأتيني بنور من السماء لكنه سيأتينا بأخبار الموتى والقتلى والأشلاء.. أريدأن أعيش يوما أطمئن فيه على كل نفس.. يوما لا تزهق فيه روح..أرأيت سماحة العربي..أسمعت بها.. لعلك تسأل وما سماحة العربي وهل للعرب من سماحة سماحة العربي يعرفها كل من عاشرهم وساكنهم وخير العرب عرب الشام وخير أهل الشام أهل دمشق وخير أهل دمشق ..هذا فيه خلاف ولست شاميا.. سماحة العربي تحدثك عنها كتب العرب في آدابها وأخلاقها..ليس العربي إلامحبا للناس منفتحا عليهم مكرما لهم كماهي لغته..لكنه يأبى الضيم..فهو حر..وفيهم حثالة كباقي الخلائق..سنة الله ندمت على ما فاتني من بغداد وعيونها وكان الشافعي يقول لتلميذه من لم يزر بغداد لم ير الدنيا..لكنني لا أشعر اليوم بنفس الحرارة التي كانت تملأني كلما سمعت اسم بغداد, ولن يعود ذلك الشعور ولو بنوا بغداد مائة مرة أو صنعوا من مثلها مئة..لكن بغداد التي عرفها ويعرفها العرب قد رممناها في قلوبنا وإن لم يكن للترميم ما للمثال من دفء وحنين.. ندمت على ذلك..وسأندم مرة أخرى..في محل آخر أعمق في النفس..سأندم أنني لم أزر دمشق..دمشق التي لا يوجد عربي ولا مسلم لا يمتلأ فخرا إذا ذكر اسمها, دمشق التي قامت بالعروبة والإسلام منذ عهدهما الأول ونهضت بالفتوح من ما وراء النهر إلىما وراء البحر..لماذا دمشق..وليس فاس..أو القاهرة..أواسطنبول..أين السر فيك يا دمشق.. سر دمشق في روح أهلها..قد لا تحب شعوبا ممن عمروا الأرض.. لكن ليس في وسع قلبك ألا يحب أهالي الشام دمشق وحلب وحمص.. الجمال في الشام وأهلها أ نواع..جمال أهلها من رجال ونساء..وهو متوسط بين قريتين أحدهما علا حتى انسفل والآخر نزل فما علا..والجمال إنما محله الاعتدال.. وجمال أرضها وجوها..وجمال فنها وصناعاتها..وجمال لهجة سكانها..فالشامية من أطيب اللهجات وأرقها وألينها.. عمدوا إلى الامالة فلطفت مخارجهم وهذبت مناطقهم, ولم يبالغوا في ذلك ويجاوزوه إلى حد الافحاش كما فعل بعض مجاويريهم على الحدود..وفي كل خير.. إنني لا أريد أن أرى دمشق على مثل بغداد فلم يبق في الوجه ما يهدم أو يطمس.. أيها السادم أبناء الشام حدثونا عن الشام واجعلوها تحاورنا على لسانكم.. |