أثر الحضارة الإسلامية في حضارات العالم 13 كن أول من يقيّم
تدل وصايا الْعُلَمَاء والأمهات والآباء على حرص المسلمين على توديع طلاب الْعِلْم وتذيكرهم بحِلية طالب الْعِلْمِ. درج العلماء على الاسْتِيصاَءِ بِمنْ يَطْلُب الْعِلمَ فيكثرون من مجالستهم لتزويدهم بالنَّصائح الأخلاقية التي تحثُّهم على توقير العلم وتحضّهم على مكارم الأخلاق وتحذِّرهم من عاقبة التَّملُّق والنَّفاق لكسب الشُّهرة والأرزاق. لا يمنع الإسلام السَّعي والكسب وطلب الرِّزق الحلال وإقامة علاقات قائمة على المصلحة المشروعة طالما أنَّ التّعامل لا يقوم على مساومة باطلة. لقد كان بعض الْعُلَمَاء يَقبل جوائز السُّلطان، وصِلة الإخوان دون التَّفريط بالحق. لم تكن معارضتهم للسِّياسيين إن ظهرت في بعض الأحيان من أجل المعارضة فقط، بل كانت من أجل تجلية الحق. تستدعي بعض العلوم الرِّحلة مثل عِلْمِ الحديث الذي يعتمد على لقاء وسماع المحدّثين ليكون السّماع صادقاً والسّند مُتَّصِلاً. اعتاد كثير من المستشرقين الرِّحْلَة للشَّرق لدراسة عادات الشّعوب وأثناء ذلك يتنعَّمون بالسَّكن في أرقى الفنادق ذات الشّهرة العالميَّة ويتنقلون عبر وسائل المواصلات المُريحة الآمنة ولكن الحال لم يكن كذلك مع علمائنا الذين تحمَّلوا أذى الطَّريق ومات منهم من مات فنهشته السِّباع، أو ضلَّ الطَّريق فمات من الجوع والعطش أو وقع في قبضة قطَّاع الطَّريق. لم تكن الرِّحْلَة سفراً سهلاً ولم يتجشَّموا مشاقّها لمجرَّد الحصول على الجوائز الماليَّة. لقد خَرج الرِّجال في الأسفار ليأخذوا الْعِلْم من أصله وحدث أن يدخل الواحد منهم في مدينة من المدن ومعه أصحابه أو بعض أولاده ليأخذ الْعِلْمَ من النِّساءِ بل ليطلب الرَّجلُ من المرأةِ الحافظةِ العالمةِ أن تُجيزهُ في الرِّواية عنها فتُعطيه الشَّهادة إذا كان يِستحقَّها ويعود الواحد منهم إلى بلده ليُعَلِّم غيره ويقول بكل فخر كتبت عن فلانة الشَّيخة، وأجازتني فلانة المُسْنِدَة، وسمعت من فلانة العالمِة فَهَلْ كَتَبَ الْتَّارِيْخ مثيلاً لهذه الرِّحْلات الفذَّة مع ملازمة لآدابها؟ وَهَلْ كَتَبَ الْتَّارِيْخ عن الرِّحلات الواسعة، وقصصها، وثمارها العِلْمِيَّة والمعاجم والموسوعات التي كُتبت لتقييد أسماء الأعيان والبلدان؟ طلب الأمير أبو مُحَمَّد الموفق من الإمام أبي داود أن يخصِّص لأولاد الخلفاء مجلساً ليعلِّمهم لأنهم لا يريدون أن يجلسوا مع عامة النَّاس. كان رد أبي داود: أما هذه فلا سبيل إليها، لأنَّ النّاس في الْعِلْمِ سواء" (الذَّهبي، ج13، ص 216). "النَّاس في الْعِلْم سواء" مفهوم طبَّقه وعشقه وعاش له جمع كبير من علمائنا مثل مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، والْبُخَارِيّ وغيرهم فكان دأبهم وأدبهم في التَّعْلِيْم يدور في دائرة هذا المفهوم. هذا مفهوم نَبيل لم يُعرف في حياة الشُّعوب الأخرى إلا عندما بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى وثارت الثَّورات، وأُريقت الدِّماء، وطالب الفقراء والنِّساء والضُّعفاء بحقوقهم بعدما عَرفوا حقيقة "النّاس في الْعِلْمِ سَواء". مَارس المسلمون مبدأ "النّاس في الْعِلْمِ سَواء" لا بِقوة القانون وضغوط الواقع، وسُلطان اللّعبة السِّياسيَّة ولكن بسماحة تعاليم الإسلام الذي يُنادي بالمساواة، وتحريم الطُّغيان وتكريم الإنسان مهما كان لونه أو عِرقه فأين المستشرق المُنصف؟ نزل البلاء في الغرب ولمدة قرون لأن الرَّجل الغربي الأبيض ظَنَّ أنَّ التَّعْلِيْمَ من حقوق طبقة الأثرياء فقط ولم يَعلمْ أنَّ النَّاس في الْعِلْمِ سَواء. لقد قُلنا إنَّ الباحث المسلم عليه في مجال تَخَصّصه أنْ يَرُدَّ على مَزاعم المُستشرقِين ويُفنِّد شُبهاتهم وهو ما فعلناه هنا لنُثبت أنَّ شُبهاتهم الواهية لا تصمد أمام قذائف الحق لأنَّها مُتهافتة "كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {41}" (سُوْرَةُ العَنكبوت). المصدر : تراثنا التربوي: ننطلق منه ولا ننغلق فيه د/ بدر ملك ، و د/لطيفة الكندري: جزاكم الله خير الجزاء |