البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : التاريخ

 موضوع النقاش : تراثنا 1    قيّم
التقييم :
( من قبل 1 أعضاء )

رأي الوراق :

 د يحيى 
19 - مايو - 2008
الثَّروة التُّراثِيَّة:
وردت كلمة التُّرَاث في القرآن الكريم مرة واحدة فقط وذلك في قوله سُبْحَانَهُ: "وَتَأْكُلُونَ التُّرَاث أَكْلاً لَّمًّا {19}" (سُوْرَةُ الفَجْرِ). وهي كلمة تعني لغةً الميراث والصِّلة الجزئية بين طرف وآخر. والتُّراث يرد بمعنى ما يُخَلِّفه الإنْسان لورَثَتِهِ وهو المعنى المعروف. إنَّنا نقصِد بالتُّرَاث هنا كل موروث ناتِج من فكر ونشاط بشري مُكتسب يتوارثه المسلمون ، ومعظمه ظهر في ظل الحضارة الإسلامية المترامية الأطراف جغرافياً، والممتدة على أزمنة مختلفة، في شعوب وأعراق مُتنوعة.
مدلول التُّرَاث الواسع كما نراه، والعميق كما يمكن أن نُدركه، يحتوي على صور ِنتاجية متعدِّدة نجدها مبثوثة في نتاج العلوم العقليِّة والنَّقليِّة والْتَّطْبِيْقِيَّة والفنِّية والصِّناعيَّة إلى غير ذلك مما تتواصل الأجيال تلو الأجيال في نقله ودراسته بصورة معنويّة كالعلوم والآداب، أو مادِّية كالمباني والآثار. وبعبارة موجزة فإنَّ التُّراث هو كل ما ورثناه من سعي الأسلاف.
هذا التُّرَاث البشري المتراكم عبر الأزمنة المُتطاولة منه ما قد يتَّفق مع مبادئ الدِّين الحنيف فيوافقه ولا يُخالفه فهو الأصيل المحمود وغيره دخيل مذموم ينبغي ردّه بالحسنى، ونقده بالحكمة وبإشراف أهل الاختصاص. التُّرَاث بمعناه العام يتَّسع مضمونه التَّربوي ليتضمن نتاج شريحة الْعُلَمَاء كأفراد ومذاهب وتيارات، وفي نفس اللَّحظة يندرج في النَّسيج التُّرَاثي عطاء عامَّة أفراد الشُّعوب في جميع المضامير- المادية والمعنوية - التي لها علاقة بمجرى التَّربية والتَّعْلِيْم طالما أنَّها تشكَّلت وانصهرت في ضوء مبادئ الإسلام.
التُّرَاث من الرَّحابة بمكان بحيث يتَّسِع لجميع الشَّرائح والطَّوائف والفصائل التي ساهمت في المسيرة الإسلاميَّة المتواصلة فالبعض أحسن وأصاب في جوانب معينة، والبعض انحرف وأخطأ في جوانب أخرى.
لعبت ينابيع العروبة دوراً عظيماً في تشكيل تراثنا الإسلامي، كيف لا؟ والعرب الأوائل طلائع الفتح الإسلامي الكريم الكبير في تاريخنا وهذا لا يعني أنَّ تراثنا عربي خالص لا أثر لغيره فيه ،أو أنَّه نشأ بمعزل عن إسهامات غير العرب. العروبة وعاء، والدَّاء في أن نتصور أن الوعاء في حد ذاته نهاية المطاف، ومن الخطأ أن نقبل من العروبة ما مِن شأنه أن يُقَلِّص المعاني الإسلامية من تصورات زائغة عن الحق تنحو منحى اعتبار العروبة فيصل الأمور كلها، وأنَّ النَّسب أساس الولاء والبراء. قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ ادّعَى دَعْوَى الْجَاهِلّيةِ، فَإِنّهُ مِنْ جُثَى جَهَنّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله وَإِنْ صَلّى وَصَامَ؟ فَقَالَ وَإِنْ صَلّى وَصَامَ. فَادْعُوا بِدَعْوَى الله الّذِي سَمَاكُم المُسْلِمِينَ المُؤْمِنينَ عِبَادَ الله" (رواه التِّرمذي، قال التِّرمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ. المجلَّد الرَّابع: 3- باب ما جاء مثل الصَّلاة والصِّيام والصّ‍َََدقة. الحديث رقم: 3023).
إنَّ الإسلام يُجِلُّ وشائج العقيدة ويجعلها أساس التَّناصر، ويحارب العصبيَّة العرقيَّة؛ لأنها أساس التَّناحر. ترفض التَّربية الإسلاميَّة النَّعرة العرقيَّة الجاهليَّة لأن العزَّة كلَّها، فكراً وعملاً، في اتباع موكب الإسلام .
ولقد كانت معركة بدر الكبرى من أقوى تطبيقات معاني العقيدة. يومها وقف العربي المسلم فحارب قبيلته المُشْرِكة ليكون الميزان الإيماني هو الفيصل النهائي. من هذا المنطلق العادل ظهر أفضل مجتمع بشري عَرَفَهُ التَّارِيخُ الإنساني – في قيمه وواقعه وذلك في المدينة المنوَّرة على ساكنها أفضل الصَّلوات، وأتمّ السَّلام. وهنا تكمن الخصوصية الحضارية لتراثنا حيث تَرجم المسلمون في كثير من الأحيان تعاليم الدِّين، فتركوا لنا نماذج رائدة تُشجِّع على الاقتداء بها، وتربية النَّاشئة عليها.
 1  2  3 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
الحضارة ليست بناء حجر، بل.....بناء عقول بشَر1    كن أول من يقيّم
 
الحَضارة ثمرة المُنجزات لا المُعجزات
يحقُّ لنا أن نُجادل شعوب العالم بكل فخر عن مُنجزاتنا وفي وسعنا أن نتحدَّى بثقة فنوجِّه الأسئلة التَّالِية: مَنْ الذي رَسَّخ مبدأ التَّعْلِيْم العام المجّاني في جميع المراحل الدِّراسيَّة، ووسَّع نِطاقه وطبَّقه كحق إنساني للمسلم وغيره؟ مَنْ الذي علَّم العالَم حبّ القراءة وشجَّع الجميع على مطالعة الكتب حتى أثناء السَّفر، وشيَّد المكتبات العامَّة بخزائنها الفاخرة وبما فيها من كتب حسنة النَّسخ، جيدة التَّجليد، وعظيمة الفائدة؟ مَنْ الذي فتح آفاق البحث الْعِلْمِي ودَرَس وترجم وَطَوَّر فنون الشُّعوب الأخرى؟ مَنْ الذي فتح لليتيم والأسود والمرأة والفقير والأعمى آفاق المجد والسُّؤدد والفخر والرِّياسة فساهموا؟ من الذي عُني بالتَّخَصُّصات العِلْمِيَّة وبحارها الزَّاخرة ومنح الشَّهادات وفتح الجامعات والكلِّيات ومساكن للطَّلبة الغرباء؟ من الذي علَّم الأُمم التَّسامح الدِّيني ففتح باب التَّعلم والتَّعْلِيْم للمسلم وغيره؟
صانِعُو الحضارة الإسلامية كما هو الحال في تراثنا عاشوا في عدَّة أقاليم مثل بغداد ومصر والشَّام والمغرب والأندلس والهند تحت راية التَّوحيد، ولغة القرآن. صانِعُو الحضارة الإسلامية منهم المفكِّر، والمفتي، والمجاهد القوي، والرَّسام المُتذوق، والخطَّاط المُجَدِّد، والصَّانع المجتهد، والعامل الأمين، والثَّري المُحسن، والعبقري المُبدع، والمرأة ذات الهمَّة العالية والرُّتبة الغالية، والأبيض والأسود، والأعمى والبصير، والعربي والأعجمي.
الْتَّارِيْخ يشهد بأنَّ إسهامات المسلمين الرّاقية كانت سبَّاقة بقرون. قال ول ديورنت المؤرخ الأمريكي المشهور "إنَّ قيام الحضارة الإسلامية واضمحلالها لمن الظواهر الكبرى في الْتَّارِيْخ، لقد ظلّ الإسلام خمسة قرون من عام 700 إلى عام 1200 يتزعَّم العالم كله في القوة والنّظام وبسطة الملك وجميع الطّباع والأخلاق وفي ارتفاع مستوى الحياة وفي التَّشريع الإنساني الرَّحيم والتَّسامح الدِّيني والآداب والبحث الْعِلْمِي والعلوم والطِّب والفَلسفة…وكان الملوك أنفسهم خطاطين وتجاراً وكانوا أطباء وكان في مقدورهم أن يكونوا فلاسفة" (ص 3132).
عندما حكم المسلمون وقادوا العالم فتحوا الْمَدَاَرِس ورسَّخوا قيم التَّسامح والعدالة وحينما خسر المسلمون وتخلّفوا عن ركب الحضارة جاء الرَّجل الأبيض واستغل الْعِلْمَ والمال والقوة للتَّحكم في الآخرين لا لإقامة موازين العدل في العالم. قال اللّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ "قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {1}" (سُوْرَةُ المائدة). قال المفكِّر الفرنسي المسلم رُوجي (روجيه) جارودي (2001) عن الحضارة الغربية المريضة "إنَّ خمسة قرون من هيمنة الحضارة الغربية، أدَّت إلى تلويث الطَّبِيْعَة واستنفاد مواردها وقدرة تقنية على إتلافها، وانفجار في مستنقعات السُّوق، التي فاقمت العنف، وسعَّرت الحروب، وألهبت نيران المزاحمة، وعمَّقت الهوَّة بين شمال مُستقطب للثَّروات المتناقصة وجنوب يتضوَّر جوعًا". هذه شهادة تاريخيّة لها وزنها في عالَمِ الفِكر لأنَّ رُوجي من أقرب الفلاسفة القادرين على تحليل سيكولوجية وأيديولوجية الفِكر الغربي لأنَّه عاش بينهم وفهم منظومة حياتهم.
*د يحيى
23 - مايو - 2008
الحضارة ليست بناء حجر، بل.....بناء عقول بشَر2    كن أول من يقيّم
 
مُنجزات الغرب المادِّية اليوم مُذهلة ويجب أن يلحق بها المسلمون ويضيفوا إليها، بَيْدَ أن المسلم عليه أن يعلم أنَّ الأمم عاشت من قبل من غير تلك المنجزات المادِّية وسترثها أممٌ من بعد بخير منها فهي مُنجزات لا مُعجزات. غاية أمر هذه المُنجزات الملموسة أنها وفَّرت المزيد من الرَّفاهية أمَّا منجزات الحضارة الإسلاميَّة الإنسانيَّة مِنْ غرس لقيم الحرِّية، والعدل، والإخاء، والمساواة، والتَّسامح الدِّيني، وتسخير الْعِلْمِ لخدمة النَّاسِ، وغيرها من المبادئ لا يمكن العيش بدونها أو التَّفريط بِطَرَفٍ منها. حضارة التَّوحيد هي التي تصل بالنَّفس إلى أعلى مراحل السَّعادة "فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {38}" (سُوْرَةُ البَقَرة). حَضارة التَّوحيد تَستضيء بالقيم الإنسانية الخالدة والمعاني التَّربويَّة الرَّبانِيَّة البانية للعدالة ليقومَ النَّاسُ بالإحسانِ قدر المُستطاع.
لقد سبق المسلمون سائر الحضارات برقي النَّظام التَّعْلِيْمِي وتفوقه أخلاقياً لأنهم طبَّقوا مفهوم التَّوحيد أولاً  فقدَّموا أروع النَّماذج الحضارية في العدالة التي هي أهم مُقتضيات التَّوحيد. هذه قيم لا يمكن أبداً أن يعيش الإنسان من غيرها فيزهد فيها، أمَّا التَّكنولوجيا الحديثة المصنوعة لخدمة النَّاس وأحياناً لإذلال الشُّعوب الضَّعيفة فلا يموت النَّاس من غيرها وإذا ماتوا فيمكن أن يموتوا كُرماء أما القيم الإنسانيَّة التي طبَّقها المسلمون ومازالت بأيدينا شواهدها وتطبيقاتها لا يمكن بحال من الأحوال أن يُفرِّط فيها عاقل يرجو عزَّ الدَّارين. وإذا أردنا أن نصل إلى الذي وصل إليه أسلافنا من المَجد فعلينا أن نبذل ما بذلوا من الجِد. قال الله عزَّ وَجَلَّ "لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ {92} (سُوْرَةُ آل عمران).
إنَّ دراسة جميع الحضارات الحاضرة القائمة أو الغائبة التي قامت في المراحل التَّاريخية المختلفة تُرشدنا إلى أنَّ الحضارة ثمرة من ثمار تخطيط تربوي صحيح، وخطوات عِلمية متواصلة، ومَناهج تعليمية مُتماسكة، وخبرات تطبيقية مُتراكمة. المُنجزات المادية والمعنوية هي مجموعة اسهامات ومجهودات لعدد من الأفراد بذلوا الأسباب المطلوبة فنالوا الغاية الغالية وكل أمَّة تنال نصيبها على قَدر تحصيلها ولا حصاد للزرع بلا حراثة للأرض وقديماً قال الحُكماء "كلٌ يَحصد ما يزرع ويُجزى بما يصنع، وزرع يومك حصاد غدك". الحضارة التي تتكون من رُؤية فلسفية لكيفية الحياة، ومِنْ نُظم وتشريعات، وعلوم ومعارف وفنون وعادات هي وليدة الجهود المبذولة في عِدَّةِ ميادين ويستحيل أن تصل أمَّة من الأمم إلى عصر القوة والرَّخاء من غير بذل وعطاء. الأمم السَّابقة والحالية واللاحقة، المُسلمة والكافرة، العربية والأعجمية، تجري عليها السُّنن الكونية المُستندة للنَّشاط والعمل وهذه السُّنن التي وضعها اللّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِعباده لا تتخلف كما أنَّها لا تُحابي أحداً، ولا تقوم على الصُّدف أبداً.
*د يحيى
23 - مايو - 2008
حكاية مدارس المسلمين 1    كن أول من يقيّم
 
تأسيسُ الْمَدَاَرِس ووظائفها:
كانت دار الْصَّحَابِي الجليل الأرقم بن أبي الأرقم في مكة المكرمة من المُؤَسَّسَات التَّعْلِيْمِية المهمة والأولى في الْتَّارِيْخ الإسلامي وكان سيدنا ونبينا وحبيبنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مُؤَسِّسها ومُعَلّمها. تعلَّم الْصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أَجْمَعِيْن في مدرسة الأرقم بن أبي الأرقم أركان العقيدة، وتلاوة القرآن، ومعنى الرِّسالة الإسلاميِّة الخالدة وكان المنهج الدِّراسي يتكوّن من آيات من الذِّكر الحكيم فكانت تلك الآيات الكريمات البحر الزَّاخر الذي لا ينزف ولا تُكَدِّره الدِّلاء.
أَوّل مَسْجِدٍ أُسِّس على التَّقوى في الإسلام بالمدينة المنوَّرة هو مسجد قُبَاء وذلك في السَّنة الأولى من الهجرة (622 م) ثمَّ أُسِّس المسجد النَّبوي الشَّريف الذي تُشدُّ إليه الرِّحال. في هذا المسجد تلَقَّى الْصَّحَابَة بصورة علنية الدُّروس الأولى التي غيَّرت مجرى الْتَّارِيْخ فكان المسجد أول وأهم صروح التَّربية الفردية والمجتمعية. كانت هذه المدرسة أكرم مدرسة عرفتها البشرية؛ لأنها عَلّمت الإنسان من هو الخالق الرَّازق وكيف يُعبد..وعلّمته ما لم يعلم من أمر الغيب، وعلمته فضل الْعِلْم والقَلَم..
كانت هذه المدرسة أكرم مدرسة عرفتها البشرية؛ لأنَّها علّمت الإنسان أنَّ النَّاس كلهم سواسية..
كانت هذه المدرسة أكرم مدرسة عرفتها البشرية؛ لأنَّها علَّمت الإنسان العدل والميزان والإحسان..
كانت هذه المدرسة أكرم مدرسة عرفتها البشرية لأنَّها علّمت الإنسان أنَّ الهداية لا تكون بغير القرآن...
كانت هذه المدرسة أكرم مدرسة عرفتها البشرية ؛لأنَّها علَّمت الإنسان أنَّ الإسلام رحمة للعالمين..
مَهَّد المسجد النَّبوي الشَّريف الطَّريق لانطلاقة ثقافيَّة إنسانيَّة راقيَّة، وقيم روحيَّة واعية، ساهمت في تقدُّم العلوم وقيادة الأمم وتصحيح مسار التَّاريخ لمدَّة عدَّة قرون. في البداية توالت حلقات الْعِلْمِ في البيوت ثمَّ نشأت الْمَدَاَرِس وتعلَّم النَّاسُ معنى أخذ الْعِلْمِ من أهل الاختصاص امتثالاً لقوله سُبْحَانَهُ "فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" {43} (سُوْرَةُ النَّحل). بعد فتوح الأمصار زادت الرِّحلة العلميَّة إلى المدينة المنوَّرة فأقبل الطُّلاب من مصر والشَّام والعراق وتصدَّى الصَّحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أَجْمَعِيْن للمَهمَّة الكبرى فقاموا بالتَّدريس والفتوى والتحدِّيث حتى نشروا الميراث النَّبوي وزرعوا حبَّ العلم في قلوب النَّاس. كانت حلقات أم المؤمنين عائشة، وابن عباس، وأبي هريرة، وابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أَجْمَعِيْن ذات نفع عظيم إلى يومنا هذا فما زلنا نقطف ثمارها، ونرتع في ظلالها كلَّما قرأنا حديثاً نبوياً.
*د يحيى
23 - مايو - 2008
حكاية مدارس المسلمين 2    كن أول من يقيّم
 
عَرف الجيل الفريد، جيل الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أَجْمَعِيْن، أهمية الأمانة في نقل العِلْمِ، وضرورة العَمَل بالعِلْمِ، وأهميَّة الإخلاص، وفضل التَّعليم، والمسؤوليَّة الاجتماعية في نقله مع مراعاة الفروق الفردية، والتَّحرر من الهوى والتَّقليد الأعمى، والعمل على توفير التَّشجيع الدَّائم والمُناخ الْعِلْمي للمتعلِّمين والمعلِّمين، وإنصاف الرَّأي المخالف، وقيمة الأخلاق في مسيرة التَّربية والتَّعليم. هذه المفاهيم قادت إلى انقلاب شامل في شبه الجزيرة العربيَّة وفي أقل من مِئة سنة اكتسحت هذه المبادئ الأقاليم النَّائية فانتشر الإسلام بشكل كبير، في زمن قصير، حيّر وما زال يُحيِّر المؤرِّخين. من المدينة المنوَّرة جاءت البُشرى، وانطلقت التَّربية الانطلاقة الكبرى، لتنير المُدن الأخرى، وعلى رأسها أمُّ القرى.
عندما نستعرض حياة عُظَمَاء الْعُلَمَاء قديماً نُدرك أنَّ كِبار الْعُلَمَاء في الْمَدَاَرِس الإسلامية الكبرى يقومون عادةً بجملة وظائف أهمها التَّدريس، والتَّصنيف، والفتوى، والتَّذكير والوعظ لعامَّة النَّاس، ومتابعة الطُّلاب النُّجباء والمريدين الصُّلحاء. كان المعلم يُشرف على عملية تسميع وترتيل القرآن الكريم لمن أراد أن يتثبَّت من حفظه، ويقوم بقضاء مصالح النَّاس قدْر المستطاع، ويحرِص على التَّواجد في مناسبات التَّهاني والتَّعازي. ومن أخلاقهم النَّبيلة أنَّ الواحد منهم كان لا يستصغر أحداً، ويُكثر الذِّكر ويُقِلّ من اللَّغو، ولا يَستنكِف أن يعزوَ الفائدة إلى قائلها مهما صغُر سن القائل، فيقول العالِم بكل تواضع: هذه فائدة تعلَّمتها من مقولة فلان الفلاني، وإذا لم يرض العالم عن كلامه لعلَّةٍ فيه فإنَّه ينتقده برِفقٍ ويردّه ويبين زيفه وسبب ضعفه، ولو كان القول قول أبيه فالعالِم عليه أن لا يجامل أحداً. وكان المعلم يجاهد نفسه كي تتخلَّق بهذه الصِّفات الصَّالحة ومن خلال وسائل التَّربية الحميدة يعمل على إعداد الأصفياء من العلماء لقيادة المجتمعات المسلمة في المُستقبل. لم تكن مجالس العلم تخلو من بعض ألوان المرح والتَّرويح وربما أطلق الأستاذ على تلميذه لقباً من باب المزاح ثمَّ يُعرف الطَّالب بعدها بذلك كما حدث لمُحَمَدُ بِنُ المُسْتَنِير (ت 206 هـ = 821 م)  الُملقِّبَ بِـ "بقُطْرُب" وهو الاسم الذي يتكرر في كتب النَّحو واللُّغة والعربية بكثرة، ولُقِّبَ بِذَلِكَ لأنَّهُ كَانَ يُبكِّرُ إِلَى سِيبَويْهِ طَلَباً لِلْعِلْمِ، فكُلَّما فَتَحَ بابَهُ وَجَدَه، فَقَالَ: "مَا أنْتَ إلاَّ قُطْرُبُ لَيْلٍ". وَالْقُطْرُبُ حَشَرَةٌ صَغِيرَةٌ لا تَسْتَريحُ نَهارهَا سَعْياً  ثُمَّ تَنَامُ طُوْلَ لَيْلِهاَ.
اهتم مؤرخو الإسلام بتدوين حياة الْعُلَمَاء ومراحل تطوُّر أو تغُّير مُؤَسَّسَات التَّعْلِيْم ووسائله. يبيِّن لنا المقريزي في كتابه المواعظ والاعتبار المراد بكلمة مدارس من حيث اللُّغةُ ثم يسرد بداية ظهور المدارس في تاريخنا. "لغةً دَرَسَ الكتابَ يدرسه درساً ودراسة ودارسه من ذلك كأنَّه عاوده حتى انقاد لحفظه. درَستُ ودرسَت أي هذه أخبار قد عفت وانمحت. والمدارس الموضع الذي يُدرس فيها. ولما أراد الخليفة المعتضد بالله بناء قصره في  ببغداد استزاد في الذرع بعد أن فرغ من تقدير ما أراد فسُئل عن ذلك فذكر أنَّه يريده ليبني فيه دوراً ومساكن ومقاصير يرتِّب في كل موضع رؤساء كلّ صناعة ومذهب من مذاهب العلوم الْنَّظَرِية والعَمَلِية ويجري عليهم الأرزاق السَّنية ليقصد كل من اختار عِلْماً أو صناعة رئيس ما يختاره فيأخذ عنه. والْمَدَاَرِس مما حدث في الإسلام ولم تكن تُعرف في زمن الْصَّحَابَة ولا التَّابِعين وإنما حدث عملها بعد الأربع مئة من سني الهجرة وأوّل من حُفظ عنه أنَّه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور فبُنيت بها المدرسة البيهقيَّة وبنى بها أيضاً الأمير نصر بن سبكتكين مدرسة وبنى بها أخوه السُّلطان محمود بن سبكتكين مدرسة وبنى بها أيضاً المدرسة السَّعيدية وبنى بها أيضاً مدرسة رابعة وأشهر ما بُني في القديم المدرسة النِّظَامِية ببغداد لأنَّها أوّل مدرسة قرّر بها للفقهاء معاليم وهي منسوبة إلى الوزير نظام الملك وزير ملك شاه بن ألب أرسلان في مدينة بغداد وشرع في بنائها (457 هـ = 1064 م) وفرغت في (459 هـ = 1066 م) ودرَّس فيها الشَّيخ أبو إسحاق الشِّيرازيّ الفيروز أبادي صاحب كتاب التَّنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فاقتدى النَّاس به من حينئذ في بلاد العراق وخراسان وما وراء النَّهر وفي بلاد الجزيرة وديار بكر" (ص 1719باختصار وتصرّف).
*د يحيى
23 - مايو - 2008
حكاية مدارس المسلمين 3    كن أول من يقيّم
 
اشترى الوزير أبو نصر سابور بن أزدشير داراً بالكرخ سنة 383 هـ = 993 م "وجدَّد عمارتها ونقل إليها كتباً كثيرة ووقفها على الفقهاء وسماها دار الْعِلْم ولعل هذه أول مدرسة وقفت على الفقهاء وكانت قبل النِّظامية بمدة طويلة" (ابن كثير في البداية، بتصرُّف).
ذكر جورج مقدسي في دراسة مُوسعة عن نشوء مؤسسات التَّعْلِيْم في الْتَّارِيْخِ الإسلامي وفي بلاد الغرب أنَّ أم المقتدر، السَّيدة (ت 329 هـ = 933 م)، وبدر ابن حسنويه (ت 405 هـ = 1014م) ونظام الملك (ت 485 هـ = 1092م) باني الْمَدَاَرِس النِّظَامِيَّة من أشهر المتبرعين لبناء الْمَدَاَرِس الوقفيَّة مع توفير سكن وطعام وملبس للطُّلاب وأنَّ إسهاماتهم كبيرة في دعم المسيرة التَّعْلِيْمِيَّة المُؤَسَّسِيَّة من خلال تسخير نفوذهم السِّياسي وثروتهم الماليَّة لتلك الأهداف السَّامية.
بدر بن حسنويه ونظام الملك من أهم الشَّخصيات الْسِّيَاسِيَّة الإداريّة القيادية التي ساهمت بعمق في توسيع نطاق بناء الْمَدَاَرِس في تاريخ الإسلام. كانت جهودهما المنظمة الواسعة المتميزة لأكثر من 30 سنة في بناء الْمَدَاَرِس وراء ظهور الكلِّيات التَّعْلِيْمِية التَخَصُّصِية العليا ووراء انتشار التَّعْلِيْم ورخاء حياة الطُّلاَب والمُعَلِّمين في المشرق الإسلامي (Maqdisi, 1981, p. 22, 24, 29, 30, 32, 38, 40, 147, 282, 311, 317).
كان بدر بن حسنويه بن الحسين أبو النجم الكردي من خيار الملوك بناحية الدينور وهمدان، وله سياسة وصدقة كثيرة، كُني بأبي النَّجم، ولَقَبه ناصر الدولة، وقِيل مجد الدولة، كان يصرف كل يوم جمعة عشرين ألف درهم على الفقراء والأرامل، وعمَّر في أيامه من المساجد والخانات ما ينيف على ثلاثة آلاف مسجد وخان للغرباء، هذا كله خارجاً عما يصرف من ديوانه من الجرايات والنَّفقات والصَّدقات، والبر والصِّلات، على أصناف النَّاس من الفقهاء والقضاة والمؤذنين والأشراف، والفقراء، والمساكين والأيتام والأرامل (انظر ابن كثير وابن العماد في أحداث سنة 405 هـ والمنتظم لابن الجوزي ص 3384). كان بدر بن حسنويه من مفاتيح الحكمة، ومصابيح الرحمة سخَّر عقله وماله وخِبرته لتمويل بناء الْمَدَاَرِس وإدارتها وتطويرها، وسيرته في دعم مسيرة التَّعليم جديرة بالذِّكر والفخر وتستوجب الاقتداء بها.
يُحدثنا ابن العماد في شَذراته أنَّ المؤرخين يصفون نظام الملك، الوزير الحكيم، بأنَّه كعبة المجد، ومنبع الجود، فهو الذي بنى الكثير من المساجد والرّبط، ورغَّب في الْعِلْمِ، وأكرم الْعُلَمَاء، وكان هو نفسه عالماً، وهو أول من أنشأ الْمَدَاَرِس في الأمصار بهذه السّعة، فاقتدى النَّاس به ولا عجب بعد هذا بأن يُوصف نظام الملك بأنَّه من حسنات الدَّهر وأنَّه اللُّؤلؤة النَّفِيْسَة التي صاغها الله سُبْحَانَهُ من شرف (ج5، ص 362، 363، 364). يُؤكد المؤرخون على أنَّ الْمَدَاَرِس النِّظَامِيَّة من أرقى وأشهر الْمَدَاَرِس لأنَّ نظام الملك أمدَّها بما تحتاج من كتب وعيّن لها المدرسين والطُّلاَب والخدم ولم يخل بلد من شيء منها حتى جزيرة ابن عمرو التي هي زاوية من الأرض لا يُؤتى لها، بنى فيها مدرسة كبيرة حسنة ومَن وُجد في بلدة تميز وتبحر في الْعِلْمِ شجَّعهُ وبنى له مدرسةً ووقف عليها وقفاً وجعل فيها دار كُتبٍ (عبدالدائم، 1997، ص 156).
استناداً إلى النُّصوص التَّارِيخِيَّة السَّابقة وغيرها المتصلة بشأن مسيرة التَّعْلِيْم في الأقطار الإسلامية وتتبُّع نشوء المُؤَسَّسَات التَّعْلِيْمِيَّة يمكننا استخلاص نتيجة عامة وهي أنَّ الوزير نظام الملك هو أول من عمّم وطبَّق فكرة مُؤسَّسَات التَّعْلِيْم في أرجاء العالم الإسلامي في القرن الخامس الهجري بشكل مُنظم وواسع ورسمي ومتطور من خلال جهود مُؤَسَّسِيَّة استمرت لمدة تُقارب الثّلاثين سنة وأشرف بنفسه على ذلك كله ونالت استحسان النَّاس، ودعم الأمراء، ومساندة المحسنين، وإقبال طُلاب الْعِلْمِ والمُعَلِّمِين.
*د يحيى
23 - مايو - 2008
حكاية مدارس المسلمين 4    كن أول من يقيّم
 
ظهرت الْمَدَاَرِس لعدة أسباب منها أنَّ طبيعة الحياة المدنيَّة المختلفة عن حياة البداوة البسيطة جعلت الحاجة ماسَّة إلى تجهيز الْمَدَاَرِس وصرف الرَّواتب للمعلمين لتنظيم الحياة ومواجهة تغيراتها ومتطلباتها لمساندة الأسرة، والمسجد، والجامع في عَمَلِيَّة التَّطبيع الاجتماعي. لَقد أجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ على أَنَّ العمل الجماعي المنظم في التَّعاون على البر والتَّقوى من سمات هذا الدِّين وَهُوَ مِمَّا عُلِمَ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ والنَّقل الْصَحيْح. قال الله عزَّ وَجَلَّ "وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {2}"(سُوْرَةُ المائدة). ويدخل تحت معاني هذه الآية الكريمة الجامعة وجوب التَّعاون من أجل تعليم النَّاسِ الْعِلْمَ وإرشادهم، وكل وسيلة تساهم في تحقيق هذا المقصد هي وسيلة مرغوبة محمودة.
ضعفت اللُّغَة الْعَرَبِيَّةِ بعد عصر التَّابعين ومع دخول العجم في الإسلام ، وظهرت الانحرافات، وقلّ تعلُّق النَّاس بالصَّحيح من أحكام الدِّين فزادت الحاجة إلى معاهد فيها طائفة من أولِي المعارف والنُّهَى كي يقودوا المجتمع.
تأييد أحد المذاهب الفقهيَّة الأربعة المشهورة أو غيرها من أسباب بناء المدارس بل من أهمها. كانت المدارس الفقهيَّة تتسابق في نشر وخدمة أفكارها وتراثها بين العلماء والعوام. كان أتباع كل مذهب يبنون المدارس الكافية لنشر فكرهم والدِّفاع عن أصول منهجهم في الاجتهاد، وشرح قوانينهم الكُليَّة وفوائدهم الجزئيَّة في قضايا الفقه والعقيدة.
ولعل أهم أسباب ظهور المدارس وعناية الحكام والولاة بها أنها كانت ومازالت تلعب دوراً واضحاً في تثبيت أركان النِّظام السِّياسي الحاكم وضمان السَّيطرة الواعية على تنشئة طبقة الصَّفوة المتعلِّمة في المجتمع.
كانت مُهمة المدارس والمعاهد الإسلامية المتنوعة واضحة ومهمة وهذه المهام مُرتبطة بعدَّة أهداف ساهمت في ظهور وانتشار الْمَدَاَرِس الإسلامية في أقاليمها الكثيرة. وهكذا ظهرت الْمَدَاَرِس ودُور العلم والمعاهد لتُلبي احتياجات النَّهضة الحضاريَّة، ولتحقق أهداف الفرد ومطالب المجتمع، ولتواجه التَّحديات المعيشيَّة. لذلك قامت المَدارس لأداء طائفة من الوظائف ومن أهمها:
تدريس العلوم الدِّينيَّة والدُّنيويَّة. غرس العقيدة الإسلاميَّة كان بدون أدنى شك من أسنى مقاصد بناء الْمَدَاَرِس في ديار الإسلام كما أنَّ تعليم المهارات والصَّنائع اللازمة لتغطية حاجة المجتمع من الوظائف الدِّينية والإداريَّة والمهنيَّة كانت من أسمى وظائف الْمَدَاَرِس.
خدمة المجتمع من خلال الإجابة عن أسئلة النَّاس، ومشاركتهم حياتهم اليوميَّة، وتوفير المكتبات العامَّة العامرة التي تيسِّر الإفادة المجانيَّة منها للمتعلِّمين والمُعلِّمين، وحثّ العامَّة والخاصة على العمل بفضائل الأعمال. المدرسة ومساجدها وصالاتها الملحقة بها هي في حقيقتها منتدى اجتماعي وصالون ثقافي يجمع بين الْعُلَمَاء والأمراء وبين عامَّة النَّاس خاصة في المناسبات العامَّة. الإيوان في الْمَدَاَرِس أشبه ما يكون بقاعة المحاضرات في تعبيرنا العصري وكان الإيوان مكاناً فسيحاً يجمع النَّاس في المناسبات الدِّينيَّة والاجْتِمَاعِية.
*د يحيى
23 - مايو - 2008
حكاية مدارس المسلمين 5    كن أول من يقيّم
 
كانت المدارس أيضاً سبباً في تشجيع عمليَّة البحث والتَّأليف والنَّشر، وإن كان بعض المعلمين من كثرة التَّعْلِيْم لا يتفرغ للتصدي للتَّأليف نظراً لكثرة مهامه التَّعليميَّة إذ أنَّ الواحد من المُعَلِّمين الكبار قد يُدَرِّس في غير مدرسة (ابن العماد، ج7، 106).
رعاية الطلاب والْعُلَمَاء من مختلف الأصقاع والأقطار، ماديّاً وعِلْميّاً. ومن أوجه الرِّعاية الفكريّة أن تقوم المدرسة بغرس المنهج السَّليم في التَّفكير فيتعلم الطَّالب البحث عن الدَّليل فَيُرحِّب بالمعرفة الموثَّقة ويرفض الفكر الغيبي الخرافي الذي يتجاوز حدود الدِّين.
تشجيع المشاركة في تَرْجَمَة الكتب من شتى العلوم ثم مناقشتها والإفادة منها عملياً.
التَّنوير الحضاري. الْمَدَاَرِس كانت علامات للاستنارة العِلْمِية والعقدية لأنها كانت تُعطي دول العالَم في تلك الفترة الوجه الحضاري للإسلام الذي يدعو ويعمل لتأصيل القيم الإنسانيَّة السَّامية نظرياً وعملياً. حلقات النِّقاش والوعظ والمناظرة كانت سلسلة من الجهود المُكثَّفة نحو هذا الهدف الشَّامل.
تلبية حاجة الأجيال القادمة والاهتمام بتعليم الأطفال وترغيبهم بالْعِلْمِ والحث على العمل، ولقد قام الْعُلَمَاء بتقديم صورة قيادية صالحة يتأسى بها الصَّغير كأنموذج واقعي فِي هِدَايَتِهِم وَدِرَايَتِهِم. هذه الصُّورة التي حرَصوا على تقديمها للنَّاشئة هي ترجمة لتطبيق مفهوم "اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ {6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ". كانت المدارس لا تسأم من سماع خاتمة كثير من الحلقات الدِّراسية التي قد تنتهي بكلمات ودعوات تُعمِّق مفهوم "اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ {6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ" في نفوس المتعلِّمين مثل قول العلماء "نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".
التَّحذير من التَّيارات العقديَّة المنحرفة والرَّد على الأفكار المناوئة، والمذاهب الهدَّامة مثل الحركات الباطنيَّة، وشبهات الفلاسفة اليونان في شأن الدِّين والبعث والنُّشور، وكذلك كان يهدف التَّعْلِيْم إلى تفنيد شبهات الملحدين وتحصين أبناء المسلمين من كل أمر منحرف عن الصِّراط المستقيم وهذا المقصد من أكبر الأهداف والدَّوافع الإصلاحية للتَّربية الإسلاميَّة ومؤسساتها المتنوعة قديماً وحديثاً.
***المحافظة على نفائس التُّراث ونقلها للأجيال القادمة.
وهكذا كانت الْمَدَاَرِس الإسلامية وجميع المرافق التَّابعة لها تؤدي وظائف حيويَّة ما زالت المُؤَسَّسَات المعاصرة تجاهد من أجل القيام بها والوفاء بحقوقها وواجباتها.
إذا أردنا تلخيص وظائف وأهداف المَدارس التي ذكرناها سابقاً نجدها تدور حول ثلاث غايات كُلِّيَّة عُليا وهي:
1- ضمان توفير التَّعليم الوقائي بغرض تبصير النَّاس وتقديم الأسوة السُّلوكية.
2- التَّعليم العلاجي بغرض تصويب الأخطاء ومواجهة الظَّواهر الَّسَّلبية.
3- التَّعليم التَّنموي بغرض تشجيع الفكر الابتكاري ومضاعفة الفرص الإنتاجية.
جزى الله خيراً كاتِبَها وقارِئها.
*د يحيى
23 - مايو - 2008
 1  2  3