البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : التاريخ

 موضوع النقاش : تراثنا 1    قيّم
التقييم :
( من قبل 1 أعضاء )

رأي الوراق :

 د يحيى 
19 - مايو - 2008
الثَّروة التُّراثِيَّة:
وردت كلمة التُّرَاث في القرآن الكريم مرة واحدة فقط وذلك في قوله سُبْحَانَهُ: "وَتَأْكُلُونَ التُّرَاث أَكْلاً لَّمًّا {19}" (سُوْرَةُ الفَجْرِ). وهي كلمة تعني لغةً الميراث والصِّلة الجزئية بين طرف وآخر. والتُّراث يرد بمعنى ما يُخَلِّفه الإنْسان لورَثَتِهِ وهو المعنى المعروف. إنَّنا نقصِد بالتُّرَاث هنا كل موروث ناتِج من فكر ونشاط بشري مُكتسب يتوارثه المسلمون ، ومعظمه ظهر في ظل الحضارة الإسلامية المترامية الأطراف جغرافياً، والممتدة على أزمنة مختلفة، في شعوب وأعراق مُتنوعة.
مدلول التُّرَاث الواسع كما نراه، والعميق كما يمكن أن نُدركه، يحتوي على صور ِنتاجية متعدِّدة نجدها مبثوثة في نتاج العلوم العقليِّة والنَّقليِّة والْتَّطْبِيْقِيَّة والفنِّية والصِّناعيَّة إلى غير ذلك مما تتواصل الأجيال تلو الأجيال في نقله ودراسته بصورة معنويّة كالعلوم والآداب، أو مادِّية كالمباني والآثار. وبعبارة موجزة فإنَّ التُّراث هو كل ما ورثناه من سعي الأسلاف.
هذا التُّرَاث البشري المتراكم عبر الأزمنة المُتطاولة منه ما قد يتَّفق مع مبادئ الدِّين الحنيف فيوافقه ولا يُخالفه فهو الأصيل المحمود وغيره دخيل مذموم ينبغي ردّه بالحسنى، ونقده بالحكمة وبإشراف أهل الاختصاص. التُّرَاث بمعناه العام يتَّسع مضمونه التَّربوي ليتضمن نتاج شريحة الْعُلَمَاء كأفراد ومذاهب وتيارات، وفي نفس اللَّحظة يندرج في النَّسيج التُّرَاثي عطاء عامَّة أفراد الشُّعوب في جميع المضامير- المادية والمعنوية - التي لها علاقة بمجرى التَّربية والتَّعْلِيْم طالما أنَّها تشكَّلت وانصهرت في ضوء مبادئ الإسلام.
التُّرَاث من الرَّحابة بمكان بحيث يتَّسِع لجميع الشَّرائح والطَّوائف والفصائل التي ساهمت في المسيرة الإسلاميَّة المتواصلة فالبعض أحسن وأصاب في جوانب معينة، والبعض انحرف وأخطأ في جوانب أخرى.
لعبت ينابيع العروبة دوراً عظيماً في تشكيل تراثنا الإسلامي، كيف لا؟ والعرب الأوائل طلائع الفتح الإسلامي الكريم الكبير في تاريخنا وهذا لا يعني أنَّ تراثنا عربي خالص لا أثر لغيره فيه ،أو أنَّه نشأ بمعزل عن إسهامات غير العرب. العروبة وعاء، والدَّاء في أن نتصور أن الوعاء في حد ذاته نهاية المطاف، ومن الخطأ أن نقبل من العروبة ما مِن شأنه أن يُقَلِّص المعاني الإسلامية من تصورات زائغة عن الحق تنحو منحى اعتبار العروبة فيصل الأمور كلها، وأنَّ النَّسب أساس الولاء والبراء. قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ ادّعَى دَعْوَى الْجَاهِلّيةِ، فَإِنّهُ مِنْ جُثَى جَهَنّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله وَإِنْ صَلّى وَصَامَ؟ فَقَالَ وَإِنْ صَلّى وَصَامَ. فَادْعُوا بِدَعْوَى الله الّذِي سَمَاكُم المُسْلِمِينَ المُؤْمِنينَ عِبَادَ الله" (رواه التِّرمذي، قال التِّرمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ. المجلَّد الرَّابع: 3- باب ما جاء مثل الصَّلاة والصِّيام والصّ‍َََدقة. الحديث رقم: 3023).
إنَّ الإسلام يُجِلُّ وشائج العقيدة ويجعلها أساس التَّناصر، ويحارب العصبيَّة العرقيَّة؛ لأنها أساس التَّناحر. ترفض التَّربية الإسلاميَّة النَّعرة العرقيَّة الجاهليَّة لأن العزَّة كلَّها، فكراً وعملاً، في اتباع موكب الإسلام .
ولقد كانت معركة بدر الكبرى من أقوى تطبيقات معاني العقيدة. يومها وقف العربي المسلم فحارب قبيلته المُشْرِكة ليكون الميزان الإيماني هو الفيصل النهائي. من هذا المنطلق العادل ظهر أفضل مجتمع بشري عَرَفَهُ التَّارِيخُ الإنساني – في قيمه وواقعه وذلك في المدينة المنوَّرة على ساكنها أفضل الصَّلوات، وأتمّ السَّلام. وهنا تكمن الخصوصية الحضارية لتراثنا حيث تَرجم المسلمون في كثير من الأحيان تعاليم الدِّين، فتركوا لنا نماذج رائدة تُشجِّع على الاقتداء بها، وتربية النَّاشئة عليها.
 1  2  3 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
حال أجدادنا المسلمين3    كن أول من يقيّم
 
قالَ ابن قيم الجوزيَّة عن مكانة الأمة المسلمة ومنزلتها بين سائر الأمم من حيث العلوم والمعارف الْنَّافِعَة أنَّ الْصَّحَابَة "كانوا أميين فمذ بعث الله فيهم رسوله زكَّاهم، وعلَّمهم الكتاب والحكمة، وفضَّلهم في الْعِلْمِ، والعملِ والهدى، والمعارف الإلهية، والعلوم الْنَّافِعَة المكمِّلة للنُّفوس، على جميع الأمم. فلم تبق أمة من الأمم تُدانيهم في فضلهِم، وعلومهِم، وأعمالهِم، ومعارفهِم، فلو قيس ما عند جميع الأمم من معرفة، وعِلْم، وهدى، وبصيرة، إلى ما عندهم لم يظهر له نسبة إليه بوجه ما" "هداية الحيارى (تهذيب)". وهكذا فإنَّ العلوم الخاصة بالتَّربية وتهذيب الأخلاق "المكمِّلة للنُّفوس"، وتطبيق مبادئ العدالة في واقع التَّعليم من أهم ميادين عطاء الحضارة الإسلاميَّة. 
قال حاجي خليفة في مقدِّمة كتابه كشف الظُّنون مُبيناً دور المسلمين في تشييد صروح العلوم: "فلما كان كشف دقائق العلوم وتبين حقائقها من أجلِّ المواهب وأعزِّ المطالب قيَّض اللهُ سُبحانه وتعالى في كل عصر علماء قاموا بأعباء ذلك الأمر العظيم وكشفوا عن ساق الجد والاهتمام في التَّعليم والتَّفهيم سيما الأئمة الأعلام من علماء الإسلام … فمنهم من استنبط المسائل من الدَّلائل فأصَّل وفرَّع ومنهم من جمع وصنَّفَ فأبدع ومنهم من هذَّب وحرَّر فأجاد وحقَّق المباحث فوق ما يُراد، رحم الله أسلافهم وأيدَّ أخلافهم".
"وقد ارتفعت عدَّة نداءات في الآونة الأخيرة في أنحاء العالم الإسلامي تطالب بتدريس تاريخ العلوم الإسلامية. من ذلك قرارات صدرت بمناسبة احتفال العالم الإسلامي بإطلالة القرن الخامس عشر الهجري. كما أنَّ مؤتمر الطِّب الإسلامي الذي عقد في تركيا سنة 1984 قد نادى بإدخال مادة الطِّب الإسلامي في جميع كليات الطِّب بالعالم الإسلامي". والسَّبب في ذلك يعود إلى أهمية معرفة تاريخ العلوم وأنَّه يكشف عن فضل المسلمين في إرساء كثير مما لا يعرفه الأحفاد عن الأجداد كي يحذوا حذوهم في تعمير الحياة.
إنَّ الْعِلْمَ الحقيقي قادَ المسلمين إلى الإيمان الواعي، والإيمان قادهم إلى التَّواضع، فكلَّما زاد عِلْمُ الواحد منهم انكسر الكِبر في نفسه فاستصغر عِلْمَهُ وعرف نقصه فلا يَغترّ بالدُّنيا ويَعلم: "إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {3} (سُوْرَةُ لُقمان).
*د يحيى
23 - مايو - 2008
الإسهامات الحضارية للمرأة المسلمة 1    كن أول من يقيّم
 
الإسهامات الحضاريَّة للمرأة المسلمة
إنَّ الرِّجال والنِّساء لهم إسهاماتهم النفيسة في صنع حضارتنا وهذا العطاء المُشترك من مفاخر تاريخنا الإسلامي ولا رَيب أنَّ المرأة شاركت الرَّجل في صُنع الحياة منذ مطلع فجر الْتَّارِيْخ الإسلامي. القرآن الكريم من قبل مئات السِّنين قَدَّم لنا وثيقة تاريخيَّة صادقة نادرة تدلُّ على حفاوة الإسلام بمكانة المرأة وأهليتها وذلك في قوله سُبْحَانَهُ "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا {35}" (سُوْرَةُ الأحزاب).  
نزلت هذه الآيات والعالم كلّه يحتقر المرأة ويعاملها كمخلوقة من الدَّرجة الثَّانية بل يَشك البعض في حقِّها في الحياة بعد وفاة زوجها أو يَشك في أنَّ لها رُوحاً مثلها مثل الرَّجل سَوَاءً بِسَوَاءٍ. تكرار الإشارة للمرأة في الآية السَّابقة وغيرها من الآيات في زمن تخلو فيه الكُتب من تعظيم منزلة المرأة من الأدلَّة المعجزة للقرآن الذي نزل لتحرير المرأة – في كل عصر ومصر- من فكَّي الإفراط والتَّفريط. إنَّ تحرير المرأة فعلاً كان ويكون مع مثل قوله تعالى "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْض" (سُوْرَةُ آل عمران 195). قالَ رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِه" (رواه التِّرمذي (من هنا كان معيار الأسرة المسلمة للتَّربية السَّليمة هو مدى الإحسان إلى المرأة وفي ذلك يقول ابن مِسكويه "وليس بعدلٍ مَنْ لم يُكرِم زوجته وأهلها المُتَّصلين بها" (ص 20) وكما يقول الشَّيخ الرَّئيس ابن سينا "على أنَّ المرأة كلَّما كانت أعظم شأناً، وأفخم أمراً كان ذلك أدلّ على نبل زوجها، وشرفه، وعلى جلالته".
*د يحيى
23 - مايو - 2008
الإسهامات الحضارية للمرأة المسلمة 2    كن أول من يقيّم
 
قال الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم "إِنّ النِّسَاءَ شقَائِقُ الرّجَال" (رواه الترمذي). يقول د. حسن الترابي (2001 م) في كتابه المرأة في تعاليم الإسلام "المرأة في الدِّين كائن إنساني قائم بذاته فهي موضع للتَّكليف مُوجَّه إليها الخطاب بالدِّين مباشرة لا يتوسط إليها بولي من الرِّجال وتحق عليها المسئولية متى استوت عندها أهلية الرُّشد وبلغتها كلمة التَّذكير".
لا شك أنَّ الإسلام جاء لحفظ حق البشر كي يعيشوا حياة حرَّة كريمة. من صور تشجيع النَّبي صلى الله عليه وسلم لمن يقوم برعاية البنات ما نجده في الحديث أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءتنِي امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا فَسَأَلَتْنِي فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا فَأَخَذَتْهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ وَابْنَتَاهَا فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ ابْتُلِيَ مِنْ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ" (صحيح مسلم: كتاب البر والصِّلة والآداب). وفي سنن أبي داود: كتاب الأدب قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ عَالَ ثَلاثَ بَنَاتٍ فَأَدَّبَهُنَّ وَزَوَّجَهُنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ".
ولَعَلَّ من الحقائق الثَّابتة تاريخياً ومنطقياً أنَّ أهم وظيفة كرَّم الله عزّ وجلّ المرأة بها هي أن تقوم بدورها الاجتماعي الفِطري نحو أسرتها فهي تُشارك الزَّوج في تحمُّل المسئولية لقوله صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح الْبُخَارِيّ "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الإمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا" (كتاب الجمعة). ويمتدُّ دور المرأة ليشمل المجتمع الخارجي ولتؤدِّي دورها الرِّيادي في نشر الخير والنَّهي عن الشَّر فقال سُبْحَانَهُ "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {71} (سُوْرَةُ التوبة).
هذه الإرشادات الكريمة التي ذكرناها آنفاً من مَعين القرآن والسُّنَّة، منها تكوَّنت نهضة اجتماعية يسودها التَّكافل فأصبحت المرأة أمينة يثق بها الرِّجال فيضعون نُسخ القرآن الكريم عندها، ومن فَمها يأخذون ما ورد من سَلسبيل الوحي على لسان وقلب النَّبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كانت حَفصة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا ساهمت في حفظ المصحف الكريم في دارها فإنَّ كريمة بنت أحمد المروزية (ت 462 هـ = 1069 م) ساهمت في نَقل نسخة صحيح الْبُخَارِيّ وأمّ الخير أَمَةُ الخالق (ت 902 هـ = 1496 م) كانت تَروي صحيح البخاري وبوفاتها نزل أهل الأرض درجة في "رواية البخاري" كما يقول ابن العماد (ج 10، ص 21).
*د يحيى
23 - مايو - 2008
الإسهامات الحضارية للمرأة المسلمة 3    كن أول من يقيّم
 
فيما يلي نستعرض بعض صور العظمة التي يمكن القول بثقة أنَّها من مفاخر ومنجزات الحضارة الإسلاميَّة ولا نظير لها في تاريخ الشُّعوب والدَّافع لإيراد هذه الصّور أن يعرف المسلم تاريخه ليعيد أمجاد الخير. إنَّ هذه النماذج النِّسائية هي ثمرة لعناية الإسلام الفائقة بتعليم المرأة وتحريرها لا لأنَّها سَتطالب مُستقبلاً بحقوقها، ولا لأنَّها أصبحت قوة اقتصادية يُخشى منها بل لأنَّ الله كَرَّمها وأمر بتكريمها كأم وأخت وزوجة وبنت. المرأة المسلمة هي حفيدة سارة في ثَباتها، ومريم في عِفَّتها، وخديجة في عطائِها، ووريثة عائشة في عِلْمها وثباتها وعِفَّتها وعطائها.
"إِنّ النسَاءَ شقَائِقُ الرّجَال" مَقولة نبوية صادقة فتحت للمرأة ميدان الحرِّية والعطاء والحياة الكريمة. كثير من كتب الإغريق والرُّومان والهند والصِّين القديمة التي بين أيدينا في كثير من المواطن تدعو صراحة إلى تهميش المرأة واحتقار حقوقها المالية والزَّوجية والدِّينية والإنسانية في حين أنَّ الإسلام أعطاها الثَّقة الكاملة حتى أصبحنا نأخذ شطراً عظيماً من ديننا مما تناقلته شفاه أمهات المؤمنين في بيت النُّبوة ومما تناقلته شفاه المُحَدِّثات من بعدهن.
روى الْبُخَارِيّ في كتابه الأدب المُفرد أنَّ عائشة بنت طلحة قالت: قلت لعائشة وأنا في حِجرها وكان النَّاس يأتونها من كل مصر فكان الشُّيوخ ينتابوني لمكاني منها وكان الشَّباب يتآخوني فيهدون إِليَّ ويكتبون إليَّ من الأمصار فأقول لعائشة يا خالة هذا كتاب فلان وهديته فتقول لي عائشة أي بنية فأجيبيه وأثيبيه فإن لم يكن عندك ثواب أعطيتك، فقالت: تعطيني. ورد هذا الحديث تحت عنوان "باب الكتابة إلى النِّساء وجوابهن" وهو ظاهر الدّلالة على حرص الْصَّحَابيات رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَجْمَعِيْن على تشجيع الكتابة وتربية النَّاشئة على تكوين العلاقات الْنَّافِعَة.
ذكر ابن الجوزي (ت 597 هـ   =1201 م) في كتابه أحكام المرأة تَرْجَمَة لـ 66 امرأة وهو كما يقول عن كتابه "ولم أر من سبقني إلى تصنيف مثله" ثم في كتابه صفة الصَّفوة كتب تَرْجَمَة لـ 10033 شَخْصِيَّة  منهم 240 من النِّساء وهو ما معدله 23% من مُجمل الكِتاب مما يدل كما تقول الباحثة روث رودد (Ruded, 1994) على أنَّ المرأة المسلمة – لها إرث ثقافي إلى الآن لم يُدرس من كثرته كما ينبغي على عكس المرأة الغربية التي لم تظهر على ساحة الثَّقَافَة إلا حديثاً ولا يمكن معرفة تاريخها لأنهَّا كانت مُهَمَّشَة. ذكرت رودد أنَّ المرأة المسلمة ساهمت بسخاء في تأسيس المشاريع الوقفيَّة الخيريَّة حيث أثبتت بعض دراساتها أنَّ 30 إلى 50 %  من الأوقاف تأسَّست من تَبرع نساء خيِّرات (ص 136). خدمة النَّاس من أعظم القرب إلى اللّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لذلك كانت المرأة المسلمة منذ صدر الإسلام تَهب من مالها وممتلكاتها كي تنال الثَّواب ولقد رُوي عن حَفصة رَضِي اللهُ عَنها أنّها سَبَلَتْ مُصحفاً لها (السَّرخسي).
*د يحيى
23 - مايو - 2008
الإسهامات الحضارية للمرأة المسلمة4    كن أول من يقيّم
 
ووجدت روث أيضاً أنَّ بعض المراجع الْتَّارِيْخيَّة الإسلاميَّة لم تَذكر تَراجم نسائيَّة كثيرة لكن في نفس اللَّحظة يمكن مُلاحظة مَراجع أخرى اعتنت بهذا الموضوع وهو نادر في أدبيات الأمم الأخرى. ذكر ابن سعد (ت230 هـ = 845 م) في كِتابه الْطَّبَقاَت الكبرى تَرْجَمَة لـ 4250 شَخْصِيَّة منها 629 شَخْصِيَّة نِسائية أي 15%  من مُجمل الشَّخْصِيَّات. ذكر السَّخاوي (ت 902 هـ = 1497م) في كتابه الضُّوء اللاَّمع لأهل القرن التّاسع 691, 11 شَخْصِيَّة  منها 1075 شَخْصِيَّة نسائيَّة أي أنَّ 9 % من المجموع العام نِساء. ذكر الذَّهبي (748 هـ = 1347م) في سير أعلام النُّبلاء 5924 شَخْصِيَّة  منها 93 شَخْصِيَّة  نسائية أي 2% من المجموع العام (ص 3، 143، 144).
ذكر الحافظ الشَّهير صاحب كتاب فتح الباري ابن حَجر العَسْقَلاني (ت 852 هـ = 1449م) في كتابه الإصابة في تمييز الْصَّحَابَة 304, 12 شَخْصِيَّة  منها 1551 شَخْصِيَّة نسائيّة أي 13% من المجموع العام. القسم الأخير من كتاب الإصابة خصَّصه العسقلاني كاملاً للتَّعريف بالشَّخصيّات النِّسائيّة ومعظمها تَراجم الْصَّحَابيّات رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَجْمَعِيْن التي بدأت مع رقم 10753 وهي شَخْصِيَّة  "آسية بنت الحارث السّعدية أخت النّبي صلى الله عليه وسلم من الرَّضاعة ذكرها أبو سعد النِّيسابوري في شرف المصطفى" وانتهى الكتاب برقم 12304 مع تتبع اسم أم يحيى وهل هي صحابيَّة أم لا والْعِلْم الذي تركته في ميدان رواية الحديث. درس العسقلاني بنفسه على يد فاطمة بنت المنُجَّى ويقال لها شيخة ابن حجر العسقلاني التي أخذ عنها الْعِلْمَ بكثرة كما أنَّ زينب بنت عبدالله (ت 799 هـ = 1396 م) أجازت له وكذلك فعلت زينب بنت مُحَمَّد (ت 799 هـ = 1396 م) أما فاطمة بنت مُحَمَّد (ت 803 هـ = 1400م) فيقول ابن حَجر "قرأت عليها الكثير من الكتب والأجزاء نِعْمَ الشّيخة كانت" (ابن العماد، ج 8، 444 ، 610، ج 9، ص 55، بتصرف). درس ابن عساكر (ت 571 هـ = 1175 م) عند أكثر من ثمانين امرأة والمؤرِّخون يذكرون هذا على سبيل الفخر والمدح (الحموي، ص 1009).
لم يجد الْعُلَمَاء المسلمون أي غضاضة في سرد جهود المرأة العِلْمِيَّة في مصنّفاتهم. في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء قال ابن أبي أصيبعة أنَّ زينب طبيبة بني أود كانت عارفة بالأعمال الطِّبية، خبيرة بالعلاج ومداواة آلام العين والجراحات، مشهورة بين العرب بذلك، يقول أحد العرب أتيت امرأة من بني أود لتكحلني من رمد كان قد أصابني فكحلتني، ثم قالت اضطجع قليلاً حتى يدور الدواء في عينيك، فاضطجعت ثم تمثلت قول الشاعر:
 
أمخترمي ريب المنون ولم أزر طبيب

 
بني أود علـى النَّأي زينبا

فضحكت ثم قالت: أتدري فيمن قيل هذا الشِّعر؟ قلت: لا. قالت: فيَّ واللَّه قيل، وأنا زينب التي عَناها، وأنا طبيبة بني أود، أفتدري من الشَّاعر؟ قلت: لا. قالت: أبو سمَّاك الأسدي (ص160، باختصار).
*د يحيى
23 - مايو - 2008
الإسهامات الحضارية للمرأة المسلمة5    كن أول من يقيّم
 
وعن التِّفاصيل التَّعليميَّة لحياة لمرأة المسلمة نجد مثلاً الذّهبي في كتابه تاريخ الإسلام قدَّم نبذة سريعة عن أم الفتح والمنهج الدِّراسي الذي تعلمت منه فذَكر فاطمة القرطبيَّة وعدَّدَ أسماء الكتب التي حفظتها أو درستها ومنها كتاب الكامل في اللُّغة والأدب للمبرِّد، وصحيح مسلم، والسِّيرة لابن اسحاق ثمَّ ذكر أسماء مَنْ تعلَّم منها وماذا أخذ عنها (ص 10382).      
رابعة العدوية من ألمع الشَّخصيات التي نادت بالتَّربية الزُّهديَّة، والاعتناء بتنقية القلب وكان الْعُلَمَاء يزورونها في دارها فيتعلَّمون من كلماتها الشَّيء الكثير. عاشت رابعة في القرن الثَّاني الهجري (ت 185 هـ = 801 م) في مدينة البصرة. تتبَّع الْعُلَمَاء حِكَمَها التي أَثْرت التُّراث العربي ونسج النَّاس حولها الأساطير ونسب الصُّوفيون إليها بعض الأقوال منها الصَّحيحة ومنها غير ذلك. قال ابن كثير "هي رابعة بنت إسماعيل مولاة آل عتيك العدوية البصرية العابدة المشهورة" ذكرها كثير من العلماء وأثنى عليها أكثر النَّاس. جاءَ في الأذْكَار النَّوَويَّة عن رابعة العدوية: "استغفارُنا يحتاجُ إلى استغفار كثير". أي أنَّنا إذا استغفرنا ثم أصررنا على فعل المعاصي ولم نُقْلِع عن الذُّنوب فإنَّ توبتنا في هذه الحالة تحتاج إلى توبة أخرى صادقة. ميراث رابعة وسيرتها جزء مُتمِّيز في ثنايا الثَّقافة الشَّعبية والدِّينية في تاريخنا الإسلامي منذ أكثر من 1200 سَنة. يرى بعض المستشرقين أنَّ شَخْصِيَّة وأفكار رابعة العدوية – بصورة أو بأخرى – ظهرت في تُراث الغرب قبل عدّة قرون خاصة في فرنسا (Knsyh, 2000, p. 32).
شَخْصِيَّة  أخرى عُرفت بالزُّهد والقنوت هي شَخْصِيَّة  فاطمة بنت عبَّاس (ت 714 هـ = 1314 م) الموسومة بالخير والفضل. كانت عالمة فقيهة فصيحة لها خاطر وقّاد. حضر النَّاس مجالسها وانتفعوا من سمتها وتاب خَلق على يديها في دمشق ومصر وزارها الْعُلَمَاء، وكانت من مفاتيح الإصلاح في عصرها. كانت فاطمة المعروفة بأمّ زينب لها هيبة في النُّفوس ووجاهة في المكانة عند الخاصة من الْعُلَمَاء والعامَّة من النَّاس وكانت ذات مَواعظ مؤثِّرة في الجميع.  وسمّاها ابن كثير الشَّيخة الصَّالحة العابدة النَّاسكة وذكر أنَّها كانت من العالمات الفاضلات تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ما لا تقدر عليه الرِّجال وقد كانت تحضر مجلس الشَّيخ تقي الدِّين بن تيميَّة فاستفادت منه ذلك وغيره وقد سَمِعْتُ الشَّيخ تقي الدين يُثنى عليها ويصفها بالفضيلة والْعِلْم ويذكر عنها أنَّها كانت تستحضر كثيراً من كتاب المُغْني أو أكثره وأنَّه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحُسن سؤالاتها وسُرعة فهمها.
وممن أخذ القرآن عن فاطمة بنت عباس تلميذها عائشة بنت إبراهيم بن صديق (ت 741 = 1340 م) زوجة الحافظ جمال الدين الِمزِّي وكانت عديمة النَّظير في نساء زمانها لكثرة عبادتها وتلاوتها وإقرائها القرآن العظيم بفصاحة وبلاغة وأداء صحيح يعجز كثير من الرِّجال عن تجويده. قرأ الكثير من النِّساء عليها وانتفعن بها وبصلاحها ودينها وزهدها في الدّنيا وتقلّلها منها مع طول العمر. عاشت عائشة بنت إبراهيم 80 سنة أنفقتها في طاعة الله صلاة وتلاوة وكان زوجها العالِم مُحسناً إليها مطيعاً لا يكاد يخالفها لِحبّه لها طبعاً وشرعاً فرحمها الله وقدَّس روحها ونوَّر مضجعها بالرَّحمة آمين (ابن كثير، باختصار وتصرُّف).
المرأة المُسلمة يكون لها الفضل دائماً في دعم أمَّتها ففاطمة الفهرية هي بانية جامعة القرويين بمدينة فاس المغربية وذلك في مُنتصف القرن الثَّالث الهجري (انظر الميلاد، 2001 م، ص 133) وهي من أقدم جامعات العالم. كثير من قاعات جامعة الأزهر ومرافقها بَنَتها امرأة اسمها الخازندارة على نفقتها وكانت امرأة صالحة مُحِبَّة للخير والأيتام. الكثير من عُلَمَاء الأزهر مدينون أدبياً ومادياً للخازندارة صاحبة العطاء المُتدفِّق وجملة من أكابر عُلَمَاء الأزهر، وقادة الفكر الإسلامي - في القرن الماضي واليوم - أتيحت لهم فرصة التَّعليم في قاعات المبنى الذي أنشأته "الخازندارة" ملحقاً بمسجدها الجامع الفخم (مُحَمَّد الغزالي، 1990 م، ص 85).
ورد في كتاب المواعظ والاعتبار للمقريزي أنَّ المدرسة الحجازيَّة في القاهرة كانت مَدرسة مُحترمة إلى الغاية بل كانت من أبهج مدارس القاهرة "أنشأتها السِّت الجليلة الكبرى خوند تتر الحجازيَّة ابنة السُّلطان الملك النَّاصر مُحَمَّد بن قلاون زوجة الأمير بكتمر الحِجازيّ وبه عرفت. وجعلت بهذه المدرسة درساً للفقهاء الشَّافِعِيّة ودرساً للفقهاء المالكيَّة وجعلت بها منبراً يخطب عليه يوم الجمعة ورتبت لها إماماً راتباً يقيم بالنَّاس الصَّلوات الخمس وجعلت بها خزانة كتب وأنشأت ورتبت بشباك القبَّة وعندها عدَّة قرَّاء يتناوبون قراءة القرآن الكريم ليلاً ونهاراً وأنشأت بها مَنَاراً عالِياً من حجارة ليؤذن عليه وجعلت بجوار المدرسة مَكتباً للسبيل فيه عدة من أيتام المسلمين ولهم مُؤَدِّب يعلِّمهم القرآن الكريم ويُجري عليهم في كل يوم لكل منهم من الخُبز النَّقي خمسة أرغفة ومبلغ من الفلوس وكل منهم له كِسوتي الشِّتاء والصَّيف وجعلت على هذه الجهات عدَّة أوقاف جليلة يُصرف منها لأرباب الوظائف المعاليم السَّنية وكان يُفرّق فيهم كل سنة أيام عيد الفطر الكعك والحلوى وفي عيد الأضحى اللَّحم وفي شهر رمضان يطبخ لهم الطَّعام" (ص 1759 باختصار وتصرُّف). وكانت المرأة ربَّما حضرت حفل افتتاح مدرستها ويدوِّن المؤرِّخون هذه الأيام المشهودة كما حدث في القرن السَّابع الهجري في افتتاح مدرسة الصَّاحبية، التي بنتها الصَّاحبة ربيعة خاتون (ابن العماد، ج 7، 289 بتصرُّف).
*د يحيى
23 - مايو - 2008
الإسهامات الحضارية للمرأة المسلمة6    كن أول من يقيّم
 
في أول يوم من المحرم عام 306 هـ = 918 م فُتِح المارستان الذي بنته السَّيدة أم المقتدر (ت 329 هـ = 933 م)، وجلس فيه العالم الكبير سنان بن ثابت ورتَّبت فيه الأطبَّاء والخدم وكانت نفقته في كل شهر ستمائة دينار وأشار سنان على الخليفة ببناء مارستان فقبل منه وبناه وسماه المقتدري كما ذكر ابن كثير. ومن المعروف أنَّ المارستانات في الحضارة الإسلامية كانت إلى جانب خدماتها الطِّبية تقوم بوظيفة التَّعليم.
كانت عائشة بنت يوسف الباعُوني (ت 922 هـ = 1516 م) من مشاهير دمشق، دوَّن المؤرّخون طَرَفاً من شِعرها ونثرها (ابن العماد، ج 10، ص 158-159). أخذت عائشة الباعُوني إجازة في الإفتاء والتَّدريس كما ألَّفت العديد من الكُتب في عِلْمِ الرَّقائق وتهذيب النَّفس. عناوين كتبها، والكلام المأثور عنها، وقصائدها في حب الوطن والطَّبِيْعَة تدل على سعة اطِّلاعها وقدرتها على الغوص على المعاني. مَنَّ الله عليها بحفظ القرآن كاملاً وهي في سن الثَّامنة وقبل أن تصل سن البلوغ كانت تُحب العبادة والطَّاعة فعاشت كما تقول "في كنف ملاطفات اللَّطيف".  
وفيما يلي المزيد من الأَمْثِلَة التي كما قلنا لا مثيل لها عند الأمم السَّابقة. لأنَّ الإسهامات الْعِلْميَّة للمرأة المسلمة كثيرة ويستحيل حصرها، ولأنَّ ميادين الْعِلْم كثيرة فإنَّنا سَنَتَعرض في عجالة لجانب من الجوانب المضيئة لإسهامات النِّساء المسلمات في عِلْم الحديث النَّبوي الشَّريف.
المرأة المسلمة من أهم مصادر نقل العلم  فهم ونقل ونشر العلم المؤدي للنَّفع في البلاد  المتَّسعة المترامية الأطراف على ممر الأيام. ذكرت الباحثة الفقيهة كوكب عبيد (2001 م) في كتابها فقه العِبادات على المذهب المالكي أنَّ فاطمة بنت الإمام مالك بن أنس كانت من تلاميذ والدها، "وكانت مُحدِّثة وحافظة". تقول كوكب وهي تتحدث عن القرن الهجري الثَّاني تصف حادثة وقعت في المدينة المنورة: وقد هاجت بوفاة مالك بن أنس "الأحزان لدى الأدباء والعلماء، وقد رثته إحدى تلميذاته المعجبات به والوفيات لعهده قائلةً:
بكيت بدمع واكفٍ فقْدَ مالـكٍ
ومالي لا أبكي عليه وقد بكـت

 
ففي فقْده ضاقت علينا المسالكُ
عليه الثُّريا والنُّجومُ الشَّوابِـك

عاشت شُهْدَة بنت أبي النَّصر أحمد بن الفرج (توفيت 574 هـ = 1178 م) في بغداد ونَهل من علمها جمٌّ كبير من الْعُلَمَاء، وبَعُدَ صيتها وعرفها النَّاس لاسيَّما أنها عُرِفت بالكاتبة لجودة خطِّها في زمن يتذوق ويُقدِّر أهله جمال الخط ومهارات الإبداع. سمع منها إسماعيل بن علي بن الحسين وسلمان بن رجب ونهاية بنت صدقة بنت علي الواعظة العالمة وقاضي القضاة يوسف بن رافع وعبداللطيف بن الأديب، وقمر بن هلال، والإمام على بن هبة الله، وزوجها مُحَمَّد بن روحان كما ذكر الذَّهبي في تَرْجَمَة كل منهم في كتابه تاريخ الإسلام.
*د يحيى
23 - مايو - 2008
الإسهامات الحضارية للمرأة المسلمة7    كن أول من يقيّم
 
ومن الأمور التي لا نَجدها في تاريخ الشُّعوب الأخرى قديماً أنَّ الرِّجال يرحلون من بلد إلى آخر ليتعلَّموا من النِّساء فالجَزَري (ت 610 هـ = 1213 م) رحل إلى بغداد، وسمع الحديث النَّبوي الشَّرَيف من شُهْدَة (ابن العماد، ج7، ص 82). قال ابن العماد (ت 1089هـ = 1679م) عن شُهْدَة "كانت ديِّنة عابدة صالحة سمَّعها أبوها الكثير وصارت مُسنِدة العراق". الصَّفدي (ت 764 هـ = 1362م) عرض تَرْجَمَة والدها بعنوان والد شُهْدَة الكاتبة (ص 1838) من شِدَّة شهرتها. لا يمكن للمرأة أن تروي الأحاديث وتتصدَّر مجالس الْعِلْم، وتتصدَّى لأسئلة الطُّلاب من دون إذن من عالِم أو عالِمة. لِكي تروي المرأة الأحاديث النَّبويَّة ولِكي تقوم بالتَّدريس يجب أن تحصل على "إجازة عِلْمِيَّة" تُين أنَّها تأهَّلت لمثل هذه المُهمَّة وبعض العالمات مثل فاطمة بنت سليمان (ت 708 = 1308 م) حصلت على إجازات من جماعة من الْعُلَمَاء (ابن العماد، ج8، ص 32). والإجازة في حقيقتها إذن يسمح لها بالتَّدريس أو الفتوى أو رواية الحديث.
قال ابن خَلِّكان عن شُهْدَة: وسمع عليها خلق كثير، وكان لها السَّماع العالي؛ ثم سرد أسماء شيوخها .. وبعدها قال "واشتهر ذِكرها وبعُد صِيتها" (وفيات الأعيان، ص: 581). فتأمَّل حفاوة المؤرِّخين بتدوين وتأريخ حياة العالمات ممن تقاطر النَّاس عليهن وانظر إلى سعة عِلْم شُهْدَة ومدى حرص الرِّجال على التَّعلُّم منها.
ومن هنا أيضاً نعلم حفاوة المسلمين بتجويد الخطوط وتشجيع المُتَّقنين مثل شُهْدَة وفاطمة بنت الحسن، أم الفضل (ت 481هـ = 1088 م) التي تُعَدُّ من أشهر كاتبات بغداد ولها طريقة أصيلة في الخط وكتبت في يوم من الأيام ورقة جميلة الخط لأحد الوزراء، فأعطاها ألف دينار كما أنها كانت صاحبت عِلْم وفهم (ابن العماد، ج5، ص 348).
فاطمة بنت عبد الله بن أحمد الجوزدانية توفيت 524 هـ = 1129 م وهي الشَّيخة المُعَمِّرة المُسْنِدَة أم إبراهيم، ‏كانت عالمة بالحديث، توفيت عن 99 عاما كما ذكر اليافعي (ص 828) وقال إنَّ أم هانئ عفيفة بنت أحمد بنت عبدالله سمعت من فاطمة المعجمين الصَّغير والكبير للطَّبراني وتَزَاحَم عليها الطَّلبة وقرءوا عليها كتب الحديث. في تَرْجَمَة مُحَمَّد بن الصَّيدلاني قال الذَّهبي في سير أعلام النُّبلاء "وسمع من فاطمة بنت عبدالله "المعجم الكبير للطَّبراني بكاملة، وهو ابن إحدى عشرة سنة" (ج 21، ص 430).
ومن تلميذاتها النَّجيبات فاطمة بنت التَّاجر العالم سعد الخير وبلقيس بنت سليمان بن أحمد وكتب عنها الحسن بن مسعود وسمع أسعد بن أبي طاهر من فاطمة كتاب "الفتن" لنعيم بن حماد وحدَّث عنها في بغداد مُحَمَّد بن أبي الفخر وأجازت زاهر بن أبي طاهر وسمع منها خلق كبير من الْعُلَمَاء كما ذكر الذَّهبي في تراجمهم في كتابه تاريخ الإسلام.‏ وبلغت شهرة وقوة عِلْم فاطمة أنَّ العالم يفتخر أنَّه أدرك أصحاب فاطمة فأجازوا له كما نجد في تَرْجَمَة العباس بن أبي الخير الحنبلي (585 - 687 هـ = 1193- 1279م) الذي أُجيز من فاطمة بنت الخير وهي راوية وتلميذة فاطمة الجوزدانية (انظر ابن تغر بردي في المنهل الصَّافي، ص 112).
*د يحيى
23 - مايو - 2008
الإسهامات الحضارية للمرأة المسلمة8    كن أول من يقيّم
 
 
 
فاطمة بنت سعد الخير (ت 600 هـ = 1203 م)‏ الشَّيخة المُسْنِدَة الصّالحة أم عبدالكريم. من أهل أصبهان، سمعت الحديث على والدها وشيوخ عصرها، وكانت عابدة خيِّرة ذات همّة صبورة. سمعت الحديث من الشّيخة فاطمة الجوزدانية، ومن شيوخ أصبهان.‏ وفي شَذَرَاتِ الذَّهَبِ فِي أَخْبَارِ مَنْ ذَهَبَ لابْنِ الْعِمَادِ أنها "سمعت من هبة اللّه بن الطير وخلق وتزوج بها أبو الحسن بن نجا الواعظ وروت الكثير بمصر".
عائشة بنت مُحَمَّد بن عبد الهادي (ت 861 هـ = 1456 م) مُحَدِّثة دمشق. سمعت عائشة صحيح الْبُخَارِيّ وروت عن خَلق وروى عنها ابن حَجر العَسقلاني وقرأ عليها كُتُباً عديدة وكانت في آخر عمرها أسند أهل زمانها مُكثرة سماعاً وشيوخاً وسمع منها الرَّحَّالَة فأكثروا وكانت سهلة في الإسماع سهلة الجانب (ابن العماد، ج 9، ص 178، باختصار).
كَتب أكثر من عالِم أنَّه "لم يُنقَل عن أحدٍ من الْعُلَمَاء أنّه ردَّ خبر المرأة لكونها امرأة فكم من سُنَّة قد تلقَّتها الأمَّة بالقبول عن امرأة واحدة من الْصَّحَابَة وهذا لا ينكره من له أدنى نصيب من عِلْم السُّنَّة" (الآبادي، الشَّوكاني).
يُحدِّثُنا الْتَّارِيْخ أنَّ المرأة المسلمة ساهمت في العَمَلِيَّة الحضارية لبناء الْمَدَاَرِس والخَوَانِق والرّبط فعلى سبيل المثال نجد في بلاد الشَّام أنَّ خاتون بنت أنر (ت 581 هـ = 1185 م) زوجة الملك نور الدِّين لها مدرسة بدمشق وبَنَتْ خانقاه معروفة على نهر بانياس (النُّعيمي ج1 ص 385، ابن العماد، ج6، ص 446) وهذا يُعتبر من مفاخر الحضارة الإسلامية حيث سمح الإسلام للمرأة بالتَّملك والتَّصرف في المال والعقار فساهمت بالنَّهضة العِلْمِيَّة لأمَّتها من خلال بناء الْمَدَاَرِس والخَوَانِق والرّبط وتوفير الْعُلَمَاء في تلك الْمَدَاَرِس إضافة إلى توفير الخدمات المعيشيَّة من سكن وطعام وكِساء.
لقد "وُجِدت أربطة خاصة بالنِّساء كانت ملاذًا ومقاماً للسَّيدات ممن لا عائل لهنَّ، يوفر لهنَّ حياة كريمة شريفة من إقامة ومأكل وملبس ومشرب صيانة لهنّ من الانحراف، مع مواظبتهنَّ على العبادات وتوفير الرِّعاية والإشراف الدَّائم. تقيم إحداهنَّ بالرباط إلى أن تتزوج أو يقضي الله أمرًا كان مفعولاً. انتشرت الأربطة في كثير من المدن الإسلامية. فقد أوقف الخليفة العبَّاسي المستعصم بالله دار الشَّط المجاورة لدار الملك ببغداد سنة 652 هـ = 1254م رباطًا للنِّساء المحتاجات وجعل مشيخته للشَّريفة أنَّة المهتدي بالله وهي التي كانت تتولى تعليمهنَّ وإرشادهنَّ. وفي دمشق أنشأت السَّيدة فاطمة الأيوبيَّة سنة 650 هـ = 1252 م رباطاً للنِّساء الفقيرات. رباط الأشراف: أنشأه أبو بكر مُحَمَّد بن علي المارداني وأوقفه على نساء الأشراف المنكوبات من اللَّواتي أعوزهنَّ النَّصير وقعد بهنَّ الحظ وشرط أن تكون في الرباط شيخة عالمة تقيَّة جليلة تشرف على من فيه وتتولى أمورهنَّ؛ فتخفِّف من بؤسهنَّ وترشدهنَّ وتعلمهنَّ وتفقهنَّ في الدِّين. رباط الأندلس أنشأته السَّيدة علم الآمريَّة عام 526 هـ = 1122م. لإيواء العجائز والأرامل والمنقطعات، وخصصت لهنَّ ما يكفيهنَّ وجدَّدت لهنَّ بجانبه مسجد الفتح، وكان الرباط يقع غربي هذا المسجد. الذي كان يعرف بمسجد الأندلس. وفي عام 754 هـ = 1353م بنى الحاجب لؤلؤ العادلي برحبة الأندلس والرباط بستانًا وأحواضًا ومقعدًا وجمع بين مُصلَّى الأندلس والرباط بحائط بينهما" (انظر عزب، باختصار). يمكن تلخيص مقال الباحث د. خالد عزب (2001) عن دور الأربِطة في رعاية المرأة تاريخياً في نقطتين. الأولى تتمثل في أنَّ المقال شرح هدف بناء الأربطة للمرأة المسلمة وتطبيقاتها الحضاريَّة. والثَّانية تتمثَّل في سرد نماذج تاريخيَّة للأربطة التي كانت مُنتشرة في المدن الإسلامية.
*د يحيى
23 - مايو - 2008
الإسهامات الحضارية للمرأة المسلمة9     كن أول من يقيّم
 
ذكر المقريزي في المواعظ والاعتبار مَعلومات تربويّة عن رباط البغداديَّة وبين كيف أنَّ الخَيِّرَات من النِّساء الملازمات للرباط ممن لهن قدم في التَّصوف وتربية النَّفس كنَّ يعظنّ ويعلمنَّ ويفقهنَّ النِّساء فقال واصفاً أحد الأربطة "هذا الرباط بداخل الدَّرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس ومن النَّاس من يقول رواق البغداديَّة وهذا الرباط بنته السِّت الجليلة تذكارياي خاتون ابنة الملك الظَّاهر بيبرس في سنة 648 هـ = 1285 م للشَّيخة الصَّالحة زينت ابنة أبي البركات المعروفة ببنت البغداديّة فأنزلتها به ومعها النِّساء الخيِّرات وما برح إلى وقتنا هذا يُعرف سكَّانه مِنَ النِّساء بالخير وله دائماً شيخه تعظ النِّساء وتذكرهنَّ وتفقههنَّ وآخر من أدركنا فيه الشَّيخة الصَّالحة سيدة نساء زمانها أمّ زينب فاطمة بنت عبَّاس البغداديَّة توفيت في ذي الحجة سنة 714 هـ = 1314 م وقد أنافت على الثَّمانين وكانت فقيهة وافرة الْعِلْم زاهدة قانعة باليسير عابدة واعظة حريصة على النَّفع والتَّذكير ذات إخلاص وخشية وأمر بالمعروف انتفع بها كثير من نساء دمشق ومصر وكان لها قبول زائد ووقع في النُّفوس وصار بعدها كل من قام بمشيخة هذا الرباط من النِّساء يقال لها البغداديَّة وأدركنا الشَّيخة الصَّالحة البغداديَّة أقامت به عدَّة سنين على أحسن طريقة إلى أن ماتت 796 هـ = 1393م وأدركنا هذا الرباط وتودع فيه النِّساء اللاتي طُلِّقن أو هُجرن حتى يتزوَّجن أو يرجعن إلى أزواجهنَّ صيانة لهنَّ لما كان فيه من شدَّة الضَّبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات حتى أنَّ خادمة الفقيرات به كانت تؤدِّب من خرج عن الطَّريق بما تراه .." (ص 1850، بتصرف).
مما سبق نستخلص أن أهم إسهامات المرأة المسلمة لحقل التَّعليم تتمثل في أنها تشرَّفت بالمشاركة في نقل القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة كما أنّها عملت في مهنة التَّدريس وإصدار الشَّهادات "الإجازة" التي تشبه شهادة الدَّرجة الْعِلْميَّة اليوم وهي رخصة لممارسة العمل في التَّعليم أو الإفتاء أو رواية الحديث. وقامت أيضاً ببناء الْمَدَاَرِس من مالها الخاص قبل أن تُمارس نساء العالم هذا الحق بقرون طويلة وذلك أنَّها من قبل ألف سنة إلى الآن لا سلطان لأحد على مالها. وفي ميدان تضميد جراح المجتمع فإنَّ المرأة المُسلمة هرعت لمساندة الأرامل والمطلقات وقدَّمت لهنَّ الزَّاد الإيماني والتَّعليمي كي يتغلبنَّ على مصاعب الحياة فكانت الخوانق والرِبط واحات أمل وعِلْم وحب وخير وإرشاد.
ولا شك أنَّ دور المرأة في تربية أطفالها كانت الوظيفة الكبرى والأمانة العظمى للمرأة المسلمة فالشَّافعيّ وابن حنبل والْبُخَارِيّ وغيرهم من الأيتام وجدوا في أمهاتهِم الدَّعم الحقيقي الذي نتج عنه النَّجاح. أمهاتهم كُنَّ أهم عنصر من عناصر تربيتهم وتوجيهم ومن ثَمَّ نجاحهم، وسطوع نجمهم في فضاء الحضارة الإسلاميَّة وهو خير من يمكن أن تُقَدِّمه امرأة لأٌمَّتِها لا سِيَّما في زمن شحَّ فيه العطاء، واشتدَّ فيه البلاء.
*د يحيى
23 - مايو - 2008
 1  2  3