الفصل الأول 12 كن أول من يقيّم
ج ـ الأبنية الفنية : مثل بناء الحدث وهو بينونة سعاد وما ترتب عليها من معاناة الشاعر، والشخصيات وقد تناولنا الشخصيات الثلاثة التي تشكل العلاقات الأساسية في النص وهي الضمائر( أنا ـ هي ـ هم) ( أنا: الشاعر ـ هي: سعاد ـ وهم: الناس والمجتمع) والأشكال الجمالية من صورة وموسيقى وقد سبق تفصيل الكلام فيها كما تم التناول اللغوي والأسلوبي وتركيب الجمل والفقرات د ـ كل هذا يهدف إلى توضيح العلاقة بين العمل الأدبي وإيديولوجية المؤلف أو رؤيته للحياة وبعد : هل يمكن أن يصبح نص الأخطل كله رمزا لتاريخية النص، ذلك التاريخ الذي بدأ ينحرف عن الجادة في كل شيء وينعكس على العقلية العربية الجديدة؟ كل ذلك سيتجلى من خلال تناولنا للعناصر الموالية من دراسة البنية الداخلية العميقة لنكمل صورة البنية كما تجلت في دراسة الفكرة في العناصر الموالية: 2 الأثر العقدي والأخلاقي الذي يحدثه النص في المتلقي: لقد سبقت الإشارة في الدراسة الخارجية إلى أنه سيتجلى الأثر الذي يحدثه النص في القارئ من خلال عرض عنصر إيديولوجية المؤلف وسوسيولوجية النص، والتاريخ يحدثنا أن الأخطل شاعر نصراني وأنه قد استغل من طرف السياسيين لإحداث الخلافات بين الطوائف الإسلامية وتعميقها وقد اتضح من النص أن الشاعر يستعمل الصور التعبيرية المسيحية كما في قوله: ( كما تصور في الدير التماثيل) فالصورة تكشف عن طبيعة الحماس الديني الذي يشغل بال وقلب الشاعر فإذا كانت المحبوبة قد أو حت ـ في هذه اللحظة الغريزية التي تنقل لنا جمال عنصر حساس جدا ومثير جدا في جمال المرأة وهو الصدر حين ترتسم عليه أدوات الزينة فتزيده إثارة ـ بهذه الصورة ( كما تصور في الدير التماثيل) فإن ذلك لا يفسر إلا باستدعاء الصورة الحسية الجميلة ( في جيد آدم زانته التهاويل حلي يشب بياض النحر واقده ) لما يشاكلها في مخيلة الشاعر وفي قلبه، وهي الصور التي تسكن اللاشعور لأنها تأخذ هذه المكانة من نفس صاحبها زمن الطفولة الذي يتكون فيه مخزون اللاشعور في الغالب، وهكذا يتبين لنا أن الصورة التشبيهية: (في جيد آدم زانته التهاويل حلي يشب بياض النحر واقده، كما تصور في الدير التماثيل) تتكون من طرفين: المشبه والمشبه به، وهما عنصران يشكلان ـ على التوالي ـ مخزونين عاطفيين أساسيين في فهم عمق الشاعر النفسي ودوافعه: المخزون الغريزي، والمخزون الإيديولوجي للشاعر، فالصورة هنا كالعملة يمثل المشبه والمشبه به وجهيها اللاشعوريين العميقين الغريزة والدير.وبمعنى آخر إن التشبيه هنا يمثل بنية رمزية تكشف عن إيديولوجية المؤلف، ولكن هل ينسجم ذلك مع البنيات الكبرى التي تشكل النص الشعري؟ من المعلوم أن السياق التاريخي الذي نشأ فيه النص يرمز إلى فترة تاريخية للدولة الإسلامية في العصر الأموي عندما بدأ الشعر يتقهقر أخلاقيا فيعود شيئا فشيئا إلى ما كان عليه في الجاهلية ليكون إيديولوجية تنسجم مع الموروث الجاهلي، عملت على إيقاظه النزعات السلطوية التي لبست ملبسا دينيا متجليا في ما يسمى بالفرق الإسلامية ( الشيعة والسنة والخوارج ...) تلك التمزقات التي وجد النصرانيون واليهود والمشركون والمنافقون وكل الانتهازيين فيها وسيلة صالحة للتمكن من مناصب فعالة في السلطة منها منصب شاعر السلطة الذي كان الأخطل يتبوؤه في عهد معاوية بن أبي سفيان ثم ابنه من بعده، قيل " كان مواليا للأمويين يؤيدهم ويمدحهم وينال منهم الجزاء، وقد قام بالطعن على السادة الأنصار لما وقعت مغاضبة بين يزيد بن معاوية ولي العهد وعبد الرحمن ابن حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، فاستحق سخط المسلمين وكراهيتهم، وكان مجاهرا بشرب الخمر وقد يأتي بما يكرهه المجتمع الإسلامي ويتفق مع ميوله الإباحية" وعلى هذا يمكن أن تتحدد رؤية الشاعر للحياة في ضوء هذه المقدمات فلا نستغرب أن تكون النماذج التي سينسجها في القصيدة متناسبة تماما مع هذه الإيديولوجية الجديدة التي تتركب من عقيدة مسيحية في بلاط الدولة الإسلامية، فما هو النموذج الذي سيرسمه النص ؟ 3ـ النموذج الذي يرسمه ويصوره في مخيلة القارئ باعتبار مبدأ القدوة، والعبرة أوالتحذيرات، و الفطرة أوالطبيعة: سبق الحديث في مجال اللغة عن إحالة الضميرين: ( هي،أي سعاد، وأنا أي الشاعر)، والضمير (هي) يمثل النموذج الممثل للجمال في مخيلة الأخطل، فسعاد هنا هي النموذج الجميل الفاتن، والضمير ( أنا) الذي يمثل صورة المفتون بسعاد، هو الإنسان المنهك المريض المخبول بسبب معاناته من جمالها وبونها، ففي القصيدة إذن صورتان أو نموذجان يمثل أحدهما مبدأ القدوة كما يتجلى من قول الشاعر: مرفوعةٌ عن عيون الناس في غرف لا يطمع الشُّـمطُ فيها والتنابيـل وهو نموذج أخلاقي رفيع المستوى، ولكن سرعان ما أعقب ذلك النموذج الأخلاقي بصورة حسية فيها ما يناقض تلك القيم الخلقية: يروي العطاشَ لها عذب مقبَّـلُه في جيد آدمَ زانته التهاويــل غراء فرعاء مصقول عوارضها كأنـها أحـور العينين مكحول ويمثل ثانيهما( أنا الشاعر) ـ لاشعوريا ـ مبدأ التحذيرات ، إنها آثار الحب المحرم التي لا تخلف إلا المرض والسقم والخبل، تلك التي تجعل في النهاية ( الجسم مسلولا)، و( القلب يعتاده سقم)، وهكذا تتجلى صورة الإيديولوجية المنسوجة من خليط تعمل على تنشيطه عقيدة الشاعر وغرائزه التي يكبتها جو الدين الجديد الذي تعمل به السلطة التي تربطه بها مصالح وتفرقه معها عقائد، يستفيد منها ماديا، ويحمي بها قبيلته، ولو كان ذلك على حساب معاناته العاطفية. والحق أن الذي جر الشاعر ـ أو بطل القصة السلبي والراوي في الوقت نفسه ـ إلى هذه النتيجة هو تحكم مبدأ الطبيعة ( الغريزة) فيه، فعدم وجود عامل التقوى الذي يهذب الغرائز يجعل الإنسان يعيش رهن غرائزه مما أثقل كاهله بمسؤولية ناجمة عن تنشيط الغرائز بسبب الطمع فيما يصعب نيله من محرمات في مجتمع يعيش مرحلة التناقضات فهو(بين بين) فالدين لا يزال يتحكم في أخلاق أفراده، والترف بدأ ينشط الغرائز، بل قد يدفع على ذلك الطمع ما انتشر من القيان والمغنيات والجواري اللائي يكتظ بهن القصر مما يشجع على الغزل الحسي الذي حاربه الإسلام في أيام عزه. وواضح إذن أن هذه المقطوعة ترسم لنا نموذجين يمثل أحدهما مبدأ القدوة التي يرسمها الشاعرـ لاشعورياـ لسعاد، إذ الشاعر لايرمي إلى تكوينها كما يدل على ذلك التناقض الواضح في القصيدة بين كونها مرفوعة عن عيون الناس، وكونه هو يعرف تفاصيل جسدها وحتى اللذة التي تمنحها إياه ويرمي الثاني إلى مبدأ التحذيرات التي جاءت بصفة آلية تعبر عن صورة الشاعر المأساوية التي ترسمها الأبيات: بانت سعاد ففي العينين ملمـولُ من حبها، وصحيح الجسم مخبولُ فالقلب من حبها يعتاده ســقم إذا تذكرتها والجسم مسـلول وإن تناسيتها أو قلت قد شـحطت عادت نواشط منها فهـو مكبـول وهكذا يصبح النص كله رمزا لتاريخية النص، ذلك التاريخ الذي بدأ ينحرف عن الجادة في كل شيء وينعكس على العقلية العربية الجديدة، ومن ثم على النصوص الإبداعية،حتى وجدناه يقول في الأنصار: خلوا المكارم لستم من أهلها وخذوا مساحيكم بني النجار ذهبت قريش بالمفاخر كلها واللؤم تحت عمائم الأنصار وهكذا يتبين لنا أن " الأدب في حقيقته إنما هو تعبير عن المجتمع وكل ما يجري فيه من نظم وعقائد ومبادئ وأفكار، والأديب لا يسقط على مجتمعه من السماء وإنما ينشأ فيه ويصدر عنه، يصدر عنه في كل ما رأى فيه وأحس وسمع ناسجا مادته من مسموعاته وإحساساته ومرئياته" |