تتمة (4) كن أول من يقيّم
هروب نفات إلى الشرق واستنساخه ديوان جابر بن زيد رحمه الله من مكتبة الخليفة ببغداد.
فلما قرأ نفات هذا الكتاب، وفهم إشارات الإمام فيه أدرك منتهى ما ترمي إليه آخر عبارة منه، وهي قوله: (وإني غير كاتب إليك كتابا بعد هذا) علم أن دور الكتابة واللين قد انتهى، وانسد بابه ولم يبق إلا دور الشدة والعنف، الذي فهمه قبل ذلك من قول الإمام (إيه).
فانتهز الفرصة وجمع ما عنده من المال نقدا تحته، وكان غنيا مثريا، وهرب طالبا للنجاة بنفسه، إلى أن تجاوز حد نفوز الإمام، وهو (أرض سرت) وظل سائرا نحو الشرق حتى أتى مدينة بغداد، وهي إذ ذاك مقر خلافة بني العباس بالمشرق.
وأقام فيها ما شاء الله أن يقيمه، مترددا على صديق له بغدادي في السوق يتأنس به، ويمضي جل أوقات فراغه عنده.
إلى أن طرأت على السلطان مسألة علمية أشكل عليه الأمر فيها، وعجز علماؤه عن حلها.
فأمر ان ينادى في الأسواق بأن كل من أجاب عنها بجواب مقنع له ما يسأله من السلطان.
وبينما نفات عند صاحبه إذ سمع ذلك النداء. فقال لصاحبه: إني سأذهب إلى السلطان وأسأله بيان مسألته لأجيبه عنها.
فقال له: الزم نفسك فإن الحال ليس بسهل، وكأني بك قد عجزت عن أداء ما تحملت به فأمر بقطع رأسك، وليس هذا بميدان يجول فيه كل احد.
فأصر نفات على كلامه. ولما مر المنادي أمام الدكان قال له صاحبه إن هذا المغربي ذكر أنه يقدر على جواب السلطان.
فلم يك إلا كلمح البصر حتى اختطفه الشرطي وذهب به إلى أن مثل بين يدي السلطان.
فقربه إليه وأدناه وآنسه وسأله عن أحواله ونسبه ومسقط رأسه، فأجابه عن كل ذلك بأوجز بيان.
ثم رأى أن يمهد لنفسه عرا حتى يكون مطمئنا آمنا من الهلاك إن هفا هفوة في كلامه، عالما بأن آفة الإنسان اللسان، فقال له:
اعلم أني رجل بربري اللغة والطبع، مغربي المشرب، لم أتخلق بالآداب الشرقية حتى أقوم بما يجب علي من حسن القول أمام مقامك العالي.
فأطلب الإذن في التكلم بما يخطر ببالي مع العفو عما يصدر مني من الخطأ المغاير لسنن الأدب.وبعد أن تلفظ له بالإذن كما طلب، سأله عن مسألته فأجابه في الحال بجواب كاف شاف، أقنعه كل الإقناع.
ولإعجاب الخليفة به صار يكرر له السؤال عن معضلات المسائل وهو يجيب.
وكان المجلس حافلا بالعلماء والفقهاء والأدباء والأمراء وأولي الوجاهة من أكابر بغداد. إذ كانت للمسألة شهرة عظيمة، ولها من قبل ذلك في الدوائر والمجالس ذكر شائع.
وطفق أولئك العلماء يسألونه سؤالا بعد سؤال، وهو يجيبهم إلى أن أعياهم الأمر، وملوا الجلوس.
ولحق الخليفة من العجب ما أبهر عقله وحير فكره.
فنظر إليه وهو على هيأته المغربية، فيما يظهر من قرائن الأحوال، وقال معرضا به: (نعم العسل في ظرف السوء)
ففطن لها نفات وقال في الحال معرضا بديوان جابر المتقدم ذكره وهو موجود بخزانة مكتبة الخليفة: (نعم الرجل في قبر السوء).
ففطن الخليفة أيضا لمراده واشتد به الحنق، وكاد يأمر بالفتك به، لولا ما صدر منه من الإذن في التكلم والعفو عن الخطأ. ثم قال له:
اسأل حاجتك لنوافيك بها جزاء لعملك هذا.
فقال: عن حاجتي هي صدور أمرك بالإذن لي في نسخ ديوان جابر بن زيد الموجود في مكتبتك.فما توانى السلطان في إذنه بذلك. وقام نفات فرحا بما نال من الإقبال والفوز.
وكان الحاضرون من وزراء السلطان وخواصه فأدركهم من الجزع ما كدر راحتهم إذ رأوا السلطان مسايرا لنفات في أمر الديوان.
فقالوا له بعد خروج نفات: كيف يصح لك يا أمير المؤمنين أن تأذن في نسخ الديوان، وهو معدود من مهمات خزانتك وغرائبها، حيث أنه لا يوجد في غيرها قط، وهذا مما لا نرضاه منك.
فتنبه لذلك وندم وقال: إني وعدته ولا يمكن لي الرجوع في كلامي، فانظروا لي وجها مناسبا لا يحط بشرفي، وأمنعه به من ذلك.
فقال له أحد الوزراء: إذا رجع إليك فأعلمه بأنك موف له بالوعد إلا أن مدة النسخ لا يمكن أن تتجاوز يوما وليلة، فإنه إذا سمع منك ذلك ترك الطلب، لأن هذا القدر من الزمن لا يغنيه شيئا.
فاستصوب السلطان هذا الرأي، وأرسل في الحال إلى نفات يعلمه بذلك.
ففطن نفات لهذه المكيدة وأدرك أن المسألة دبرت أثر خروجه من عند السلطان، فرضي بالشرط.
وذهب فاشترى ما يكفيه بالتقريب مدادا وأقلاما وورقا، وصنع احواضا مجصصة بالجير، مصففة على هيئة يتمكن بها من الكتابة كل ناسخ.
ثم أمر مناديه فنادى في المدينة بأن كل من يحضر إلى المحل الفلاني في يوم كذا، ويكتب طول يومه فله دينار، وللذي يملي عليه نصف دينار.
وغير خفي ما كان في ذلك العصر العامر بالأدب والعلم من الكتاب والقراء.
فاجتمع له خلق لا يحصى، وشرعوا في الكتابة إلى الليل.
وقبل انتهاء وقت هؤلاء نادى المنادي أيضا بان من يكتب ليلته هذه فله ديناران، ولمن يملي عليه دينار.
فبقي من الأولين من بقي، وخلف من ذهب غيره، واستمروا في الكتابة، وما طلعت الشمس حتى تم له نسخ تسعة اجزاء، وبقي له جزء واحد، منعه السلطان من إتمامه لانتهاء الوقت المحدد المأذون به.
فاستأذن عليه ودخل فطلب أن يتصفحه مرة واحدة ويرده.
فسلمه له، وبعد أن أتمه سردا قال له قد حفظته وإن أردت أن أقراه عليك لتعلم صدقي فعلت.
فتعجب الخليفة من ذلك، وأمره بقراءته فقرأه إلى آخره بحيث لم يترك منه شيئا.
ثم إن الخليفة جمع وزراءه وقال لهم:
قد اعيانا أمر هذا الرجل، وما قدرنا له على حيلة، وها هو قد اتم الكتاب، وأراد السفر: لابد لنا من رأي نتوصل به إلى سلبه منه.فأشار كل برأيه، ثم قال هو: إني سأسأله عند خروجه إلى سفره أسئلة فإن عجز عنها سلبته منه بوسيلة أنه ليس له بأهل أو قتلته. وإن أجاب فاسألوه أنتم واحدا بعد واحد حتى يعجز فنفعل به ما ذكرناه.
فاتفقوا على ذلك وافترقوا.
ولما بلغهم أنا نفاتا برز برحله للسفر حضروا ومعهم الخليفة بصورة أنهم يودعونهن وابتدأوه بالأسئلة المتتابعة زمنا طويلا، حتى تنبه إلى أنهم ما فعلوا ذلك إلا لقصد إرجاع الديوان.
ولما رجعوا ولم يقدروا له على شيء أجمعوا على أن يرسلوا وراءه من ينتزعه منه.
فتحذر هو وحاد عن الطريق المعروف فلم يدركوا له أثرا، وتوجه إلى مكة، ومنها إلى طرابلس. ولما بلغها سأل عن الأحوال فوجدها قد تغيرت، ووجد دولة الإمام في قوة عظيمة ونفوذ كامل.
وإذ ذاك علم أنه لا مطمع له في شيء مما كان يقصده من الخروج عن الطاعة واستغفال العامة، ورأى أن السكوت أسلم وأصلح له.
إلا أن الشيطان غره وضاعف حسده، وسولت له نفسه أن يعدم ذلك الديوان حتى لا ينتفع به أحد بعده. ولعله خاف أن يطلبه منه الإمام لينسخوا منه نسخة للمكتبة المشهورة بخزانة نفوسة الجامعة إذ ذاك للآلاف المؤلفة من الكتب بمدينة (سروس) في جبل نفوسة، أو لمكتبة تيهرت. فحفر له في الأرض ودفنه وأخلد إلى السكون إلى أن مات.
وقد ذكر هذه الحكاية أبو زكرياء رحمه الله وغيره، ولا غرابة فيما ذكروه من حفظ نفات، فإن ما يحكى عن حفظ الشيخ السيوطي وغيره لا يبعد عن هذا، وإنما الغرابة في نسخ الديوان في تلك المدة القصيرة مع قولهم إنه كان وقر عشرة جمال.
وانظر على هذا كيف تأتى لجابر تأليفه ونسخه مع اشتغاله بأمور المسلمين، غلا أن يقال أن الخط في ذلك الوقت كان غليظ جدا ولا سبك فيه كما نشاهده في الكتب العتيقة، وأن المكتوب فيه جلد لا كاغد. ولو كتب الآن لكان أقل من ذلك بكثير، وقد تعرض صاحب كشف الظنون لذكر هذا الديوان ولم يقل فيه شيئا، والله أعلم.
والذي ذكره بعض أصحابنا فيما رأيته أن نفاتا تاب ورجع عن مسائله التي خالف فيها، وهو كلام قريب، إذ لم يرو أحد أنه ذكر الإمام بسوء، أو تكلف لإثارة فتنة أو سعى في فساد بعد رجوعه من المشرق، بل كان الإمام بعد ذلك نافذ الأمر ظاهر السيطرة في نفوسة وغيرها، والله أعلم بالحقائق).
|