يا ليتني مت قبل هذا ... كن أول من يقيّم
التنمية والديموقراطية والتجارة الحرّة من أجل الحرب «يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً ومنسياً» يعقد مؤتمر في بلد عربي حول الديموقراطية والتنمية والتجارة. تحضر وزيرة خارجية إسرائيل. تلقي خطابا حول ثنائية الاستقطاب بين قوى الاعتدال وقوى التطرف في المنطقة. يأتي رئيس الولايات المتحدة الأسبق للزيارة، وهو عضو في لجنة حكماء عالمية، تتشكّل من اثني عشر عضواً. تمنعه إسرائيل من زيارة غزّة. يحتار المواطن العربي في مغزى العناوين المطروحة. لكنه لا يحتار في أمر الحرب. والسؤال المطروح لدى كل العرب ليس حول إمكانية وقوع الحرب بل حول توقيتها. ما عاد المرء يجد فرقا بين شعار للحرب وشعار لحقوق الإنسان. صار كل شيء عنواناً للحرب المحتملة.
صار المواطن العربي لا يرى في الديموقراطية وسيلة لممارسة السياسة والمشاركة في الحياة العامة، بل وسيلة ضغط وقهر كي يدلي بصوته لصالح من يمارس عليه سلطة الغزو والاحتلال. وصار يدرك أن كل عملية انتخابية لا تأتي بالنتائج المرجوّة لصالح من يسمى بالمجموعة الدولية، أو النظام العالمي، أو الإمبراطورية، لن تكون مقبولة لدى سادة العالم؛ وسيدان على أساسها المجتمع الذي أدلى بصوته، وسوف يعتبر خارجا على ما يراد له.
صار المواطن العربي يدرك أن التنمية ليست إطاراً لتوسع قوى الإنتاج والعمل والانجاز، بل وسيلة للإذلال والإهانة بحجة التخلف والتأخر وعدم القدرة على اللحاق بركاب المعرفة العلمية. تتعلق التنمية بالتعاون وتقسيم العمل، بالمساهمة في الإنتاج وتوزيع الثروة. لكن نموذج التنمية المطروح في المنطقة العربية يلغي التعاون لصالح تقسيم العمل، ويلغي المساهمة الإرادية في الإنتاج لصالح توزيع الثروة القسري لصالح طبقة معينة، ولصالح طبقات تعيش على فتات الطبقة الرفيعة.
صار المواطن العربي لا يرى التجارة الحرة، التجارة الدولية حسب النموذج المراد دوليا، سوى وسيلة لنهب ثروات المنطقة النفطية والزراعية وشتى أنواع المواد الأولية، في ظروف تمنع نشوء الصناعة وتحول دون أن ترسم الدولة برنامجا للصناعة؛ وبذلك تُحرم الدولة من إمكانية أن تصير دولة ذات شرعية معترف بها من الجمهور. والدولة لا تصير دولة إلا بشرعية اعتراف الجمهور بها.
صار المواطن يرى كل هذه الأمور عناوين للحرب لأنّ النظام الإمبراطوري، بما فيه إسرائيل، لا يطرح عليه إلا الحرب. كان يمكن أن يكون الأمر غير ذلك، لولا أن وجود الدولة الإسرائيلية يفرض على المنطقة حرباً كل بضع سنوات. يبدو أن الوجود الإسرائيلي خصص لذلك.
عندما تطرح وزيرة خارجية إسرائيل في مؤتمر الدوحة ثنائية الاستقطاب بين قوى الاعتدال والتطرف، على أن تكون إسرائيل في جانب منهما، فإن ذلك يذكرنا بثنائية محوري الخير والشر التي طرحها الرئيس الأميركي جورج بوش، قبل احتلال العراق بأسبابه الكاذبة ونتائجه المشؤومة.
أُغرقت المنطقة في ثنائيات، الواحدة بعد الأخرى، منذ عقود من السنين. اخطر هذه الثنائيات هي التي تتعلق بمحوري الإرهاب والأمن. ينتهي الأمر دائما إلى نتيجة واحدة وهي الأولوية المطلقة لأمن إسرائيل، ولأمن الولايات المتحدة الذي يشمل جميع مناطق العالم. أما أمن هذه المنطقة فهو مسألة لا تستحق الاعتبار بنظرهم.
يرتبط أمن كل منطقة في العالم بالقضايا المطروحة على المجتمع كما يراها الناس فيه، لا كما يراد له ولهم. لا يتحقق الأمن إلا عندما تؤخذ إرادة الناس بالاعتبار، وحين تحترم رغباتهم ومشاعرهم، وحين ينظر إلى قضاياهم بجدية ومسؤولية. وهذا هو الأمر المفقود في مؤتمرات التنمية والديموقراطية؛ وهذا هو أيضاً الأمر المقصود إلغاؤه في كل الثنائيات المتعاقبة.
عندما يقال لرئيس أميركي سابق، حقق بالتفاوض اتفاق كامب دايفيد في العام ,1979 أنت لا يسمح لك بزيارة منطقة معينة ولا بمقابلة شخص معين، فإن المقصود انه يفترض بالرئيس كارتر أن لا يبحث في أمور المنطقة آخذاً بالاعتبار وجهتي نظر أو أكثر، بل على أساس وجهة نظر واحدة، وجهة نظر سادة العالم والمنطقة.
تستند الرؤية الأحادية للعالم إلى موقف أخلاقي زائف واعتقاد بالتفوق الذاتي. وهذه رؤية تجر إلى الحرب الاستباقية. لم يكن المحافظون الجدد ظاهرة معزولة عندما صاغوا نظرية الإمبراطورية في مطلع هذا القرن وجعلوها تعتمد على ثلاثة أعمدة: الأحادية والاستثنائية والحرب الاستباقية. والعلاقة بين المحافظين الجدد في الولايات المتحدة بدولة إسرائيل لم تعد خافية على احد.
يصنف سادة العالم وإسرائيل أنفسهم في خانة الواحد الأحد الذي على حق، ويعتبرون ان كل من خالفهم الرأي على باطل. يخوِّلون أنفسهم فرض وجهة نظرهم بالقوة العسكرية ويعتبرون المطالب لدى مجتمعات مغايرة إرهاباً يتوجب سحقه؛ ويعتبرون ذلك واجباً أخلاقياً عليهم. يفرضون الحرب، وفي الوقت نفسه يعقدون مؤتمرات حول التنمية والديموقراطية. وهم في الحقيقة يخلقون الظروف التي تمنع تحقيق أي منهما.
ما نشاهده يستحق منا تذكّر الآية الكريمة «يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً».
* عن السفير اللبنانية 18 نيسان 2008
|