مع كتاب الدكتور محمد العلمي ( عروض الشعر العربي) كن أول من يقيّم
لعل هذا المكان أن يكون هو الأنسب لعرض لمحات من كتاب الدكتور محمد العلمي الذي صدر مؤخرا في جزئين بعنوان "عروض الشعر العربي .. قراءة نقدية وتوثيقية" . ولا يعود السر في هذه المناسبة فقط إلى أن عرض الكتاب سيسفر عن كشف بعض الأخطاء في الموسوعة الشعرية التي نأمل تصحيحها استنادا إلى هذه الدراسة القيمة، ولكن إلى جعل هذه الزاوية من المنتدى مكانا يرجع إليه الدارس للإفادة من الموسوعة كلما أراد أن يستزيد من ناحية الدرس العروضي لهذا الشعر في مختلف عصوره . صحيح أن الموسوعة الشعرية لم تغفل الناحية العروضية في إحصائها للأوزان التي نظمت عليها القصائد؛ بل إنها زادت ببيان عدد الأبيات التي نظمت على كل بحر على حدة. غير أنها لم تكن تتسع للتطرق إلى بيان زحافات كل بحر من البحور، أو على الأقل لم تعن ببيان الضروب التي ربما تجاوز عددها الثلاثة والستين ضربا، وهو ما أعتقد أنه كان سهلا منذ البداية على القائمين بالمهمة الإحصائية للأوزان. سوف أبدأ بديوان الأعشى ، وأول ما لاحظت فيه من اختلاف كان حول أبيات من سادس السريع اعتبرتها الموسوعة من الرجز ، نحو قوله: ألم تروا للعجب العجيبِ إن بني قلابة القلوبِ أنوفهم مالفخر في أسلوبِ وقد يكون لهم بعض العذر في ذلك إن كانوا ممن يأخذون برأي من يجيز القطع في ضرب رابع الرجز، وإن كانوا بذلك يخرجون عما أقره الخليل الذي جعله من مشطور السريع المكشوف،ثم إن المقام هنا ليس مقام استدراك على الخليل. وأما بحر الطويل فقد ذكر له الدكتور العلمي ما توزع من قصائد أو أبيات على ضروبه الثلاثة، غير أنه ذكر أن الأعشى استخدم ثالث الطويل مرتين، ولم أجد في الموسوعة إلا إحدى هاتين المرتين، وكذلك في النسخة التي لدي من ديوان الأعشى وهي من تحقيق الدكتور عمر الطباع. أما الدكتور محمد العلمي فقد اعتمد على النسخة التي نشرها محمد محمد حسين، فعسى من يتوفر على هذه النسخة أن يكمل النقص في الموسوعة بعرض تلك الأبيات. وفي القصيدة التي أولها : يوم قفت حمولهم فتولوا ***قطعوا معهد الخليط فشاقوا اكتشف العلمي خللا عروضيا في بيت وزحافا نادرا في آخر. أما البيت الذي فيه الخلل فقوله: وكأن القتود والعجلة والوفر لما تلاحق السُوّاقُ وأما البيت الذي فيه الزحاف النادر فقوله: دَرمَكٌ لنا غدوةً ونشيلٌ *** وصبوح مباكر واغتباقُ فوجد أن الأمر لا يعدو أن يكون إهمالا من المحقق في تنبهه إلى الخلل الناشئ في الوزن عبر التقديم والتأخير في البيتين، وصححهما على النحو السليم التالي: - وكأن القتود والوفر والعجــ *** ـلة لما تلاحق السواق - درمك غدوة لنا ونشيل *** وصبوح مباكر واغتباق ووجد العلمي، أيضا، أن الأعشى قد خرم الطويل في موضع، والمتقارب في موضعين. وأنه جاء بعروض البسيط على السلامة( فاعلن) في قوله: ولا تكوني كمن لا يرتجي (أوبة) ***لذي اغتراب ولا يرجو له رِجَعا وأنه خبن مستفعلن الثانية في البسيط مرة، وطوى مستفعلن فيه ثلاث عشرة مرة، وجاء بالخبل مرة واحدة في قوله: (وكَفَلٍ) كالنقا مالت جوانبه ***ليست من الزلّ أوراكا وما انتطقا ثم حصر الشذوذ في قصيدته على مخلع البسيط في خمسة أبيات ذكرها. وأما الكامل فعرض لما وجده من الوقص فيه في ثمانية أبيات، وكف فاعلاتن في الرمل في بيت تعددت رواياته وبقي الزحاف الثقيل فيه قائما وروايته في الموسوعة: فثداهُ (رَيَمانُ) خُفّها ***ذا رنينٍ صَحِلَ الصوت أبَحّ هذا عن كف فاعلاتن في الرمل لمعاقبة، وأما لغير معاقبة فقوله: (ونُسيحُ) سَيَلانَ صَوبِهِ *** وهو تَسياحٌ من الراح مِسَحْ وكذلك التفت للكف في الخفيف لمعاقبة في قوله : أو فريد طاو تَضيَّفَ أرطا *** (ة يبيتُ) في دفّها ويُضاقُ ووجد ان الأعشى استخدم في قصيدته التي أولها : أقصر فكل طالب سيمل *** إن لم يكن على الحبيب عول ثلاثة ضروب، أثنان منهما كما في المطلع والثالث قوله: إذ هي تصطاد الرجال ولا *** يصطادها إذا رماها (الإبل) والأخير نادر جدا كما يبدو بينما الأولان فمتواتران، ولا أجد فيهما شذوذا في القافية وقد كثر استخدامهما معا في القصائد التي على مثل ذلك الضرب. أني لآمل أن أظل في صحبة هذا الكتاب القيم أطول مدة ممكنة نصحح فيها بعض ما ورد من أخطاء في الموسوعة ، وأهم من ذلك أن نتأمل في ملامح من الزحاف لم يعد الشعراء في عصرنا هذا يرتكبونها ، بل إني أزعم أنهم توقفوا عنها في فترة العصر العباسي وما تلاه ، وهو ما سأحاول المضي في تحقيقه استنادا إلى هذه الموسوعة الشعرية من ناحية، وجريا على النهج الإحصائي الذي اتبعه الدكتور محمد العلمي وثبتت جدواه للتأكد من هذا الزعم. بقي أن أقول هنا، ولا أعلم إن كان الدكتور محمد العلمي قد انتبه إلى ذلك أو غفل عن ذكره، وهو أنه لا أحد من شعراء الفترة التي غطاها الإحصاء، واعتمد عليها الخليل في وضع نظامه العروضي وحدد قواعده من زحاف وعلة ، قد خبن مستفعلن الثانية في المنسرح نحو شاهد الخليل المصنوع: منازلٌ عفاهنّ (بذي الأرا) *** ك كلُّ وابلٍ مُسبلٍ هطلِ ونحو شاهده على الكف في (مستفع لن) من الخفيف، وهو: يا عمير ما (تظهر من) هواك *** أو تجن (يستكثر) حين يبدو إن عدم عثور العلمي في إحصائه المكثف لتلك الفترة التي جعلها الخليل مجال استشهاده على أية شواهد تعزز شاهديه المصنوعين لهو ذو دلالة كبيرة عند التأمل في الأسس التي بنى عليها الخليل نظامه. |