مغالاة البوصيري كن أول من يقيّم
مغالاة البوصيرى فى ميزان النقد الأدبى : تثير المعانى المدحية التى صورها البوصيري جدالاً عنيفاً بين العلماء والدعاة، كلٌّ حسب اتجاهه الفكري ومرجعيته الدينية . والذي ينبغى لنا أن نقرره هنا أنه لا يُكفَّر أهل القبلة، فإذا صدر من أحدهم قول يقــدح فى العقيدة أو يُخلُّ بكمال التوحيد، فيُكَفَّر القول لا الشخص. وأنه يُنكَر على مَن أنكـــر المُتَّفَق عليه من ثوابت الأمــــة. أما المختلف فيه من الفرعيات فينبغى التعامــل معها بطريقة هادئة وحوار لطيف لا تفسيق فيه ولا تبديع، ولا تدجيل، ولا تكفيـــــر، ولا اتهام بالزندقـة!!! l ومن المعلوم كذلك أنه لا ينبغى الحكـــــم على عقيدة الشاعر من خلال شعره؛ لأن الشعراء – كما هو مقرر قرآنيًّا – فى كل واد يهيمون ، ويقولون ما لا يفعلون . وإذا نظرنا إلى بردة البوصيري من خلال هذه المبادئ نلاحظ أن : 1- أن البوصيري نفى عن نفسه تهمة الوقوع فى إطراء النبي إطراءًً كإطراء النصارى لعيسى، عليه السلام ، قال : دع ما ادعن النصارى فى نبيهمِ واحكم بما شئتَ مدحًا فيه واحتكم 2- أن البوصيري أقر ببشرية الرسول r : فمبلغ العلــم فيـــه أنــه بشــر وأنـــه خيــر خلق الله كلـــهم 3- أنه صادق فى مديحه، لا يريد به عطاءً أو مغنمًا دنيويًّا، قال: ومنذ ألزمــت أفكـــاري مدائحه وجدتـــه لخلاصي خيــــر ملتــزم ولم أرد زهرة الدنيا التى اقتطفت يدا زهيــر بما أثنى على هــــرم فى البردة – بلا شك – غلوًّا في المديح، فى قوله : وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة مَن لولاه لم تخرج الدنيـــــا من العـدم وقوله : وكلهم من رسول الله ملتمـــــس غرفًا من البحر أو رشفًا من الديـم وقوله : لـــو ناسبت قدره آياته عظمًـا أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمـم وقوله : فإن من جودك الدنيـــا وضرتها ومن علومـك علم اللـــوح والقلـــم وفيها كذلك مخالفات دينية، فى قوله قسمًا بغير الله تعالى: أقسمت بالقمر المنشـــق إن له من قلبــه نسبــه مبرورة القســـم وقوله: يا أكرم الرسل مالى من ألوذ به سواك عند حلول الحــادث العمــــم وقد وقع فى الغلو والمخالفات بسبب نزعته الصوفيه، قال : وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف وانسب إلى قدره ما شئت من عظم فإن فضــــل رســـول الله ليس له حــد فيعـــرف عنــه ناطــق بفـــم وقد جعلته نزعته هذه هدفاً لسهام التكفير والتشريك والتبديع، على الرغـــم من أن أبياته هذه من المختلف فيه بين المذاهب، فالبعض يؤولها تأويلاً حسنًًا يخرج بها عن المرفوض والمخالف، ويجعلها مقبولة !! أما بالنسبة للنقد الأدبى فإن المذهب القائل بأن أحسن الشعر أكذبـــه يقبل مثل هذه الأبيات، كذلك المذهب القائل بأن أحسن الشعر أعذبه؛ لأنه لا يشترط فى حسن الشعر إلا عذوبته الفنية، لا العقدية أو الفكرية . أما الذاهبون إلى أن أحســن الشعـر أصدقــه فيرفضــون هذه الأبيات لمخالفتها لنصوص الشرع، وللعقل أحيانًا، وللواقع . ولكل وجهته، وللناس فيما يعشقون مذاهب . المهم أننا لا ننال من مكانة البردة فنيًّا، ولا نقدح فى عقيدة صاحبها، ونحن ندرس البردة، لا لنعظمها، ونقدسها، ولا لنزعتها الدينية، بل لأنها نموذج فريد في فن المديح النبوي، ومن أجود شعر البوصيري، و شعر العصر المملوكي ، ولها تأثير واسع ممتد في دنيا الشعر العربي. |