من مظاهر تأثير الثقافة العربية الإسلامية في آداب الشعوب (مباحث في الأدب المقارن) الأستاذ: عبد الواحد عرجوني
1- مدخـــل: إن البحث عن طريقة انتقال تراث أمة ما وتمثله عند أمة أخرى، وتأثر شعب من الشعوب، بتراث الأمم والشعوب التي احتك بها، طيلة سيرورته التاريخية، من أعقد الأمور، خاصة إذا كان ذلك، قد تم في فترات ومراحل تاريخية مختلفة، عرف بعضها صدامات دموية أتت على الأخضر واليابس، وأمثلة ذلك كثيرة في التاريخ . أما ما يتعلق بأمتنا العربية الإسلامية، فقد أدى غزو التتار لمناطق الخلافة الإسلامية، في الشرق إلى إتلاف الكثير من النفائس، وحرمان الأجيال منها. ويذكر ابن الأثير في كامله أن :"حادثة التتار من الحوادث العظمى ، والمصائب التي عقمت الدهور عن مثلها ، وعمت الخلائق وخصت المسلمين. فلوقال قائل إن العلم منذ أن خلقه الله تعالى إلى الآن، لم يبتل بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها…فهذه الحادثة التي استطار شرها وعم ضررها…" ويذكر صاحب "سير أعلام النبلاء" ما حدث في بغداد فيقول:"وبقي السيف في بغداد بضعة وثلاثين يوماً، فأقل ما قيل قتل بها ثماني مئة ألف نفس، وأكثر ما قيل بلغوا ألف ألف وثماني مئة ألف وجرت السيول من الدماء." . ولا يستدعي الأمر الغوص بعيداً في التاريخ، ونحن نشهد غزواً أشرس، ربما مما حدث آنئذ، يقوده تتار القرن الواحد والعشرين، بهدف محو الذاكرة والهوية، بنهب المتاحف والخزائن. رغم هذا الوجه الأسود للحضارة الإنسانية، فإن ذاكرة الشعوب، تأبى إلا أن تحتفظ بالكثير مما لم تحفظه الأسفار. ينتقل هذا المحفوظ، من مكان إلى آخر، ومن شعب إلى شعب، تأثيراً وتأثراً ، بالزيادة أو النقصان، بتغيير الأسماء أو الأحداث، لتوافق الأمزجة والعادات والتقاليد المحلية، مع الحفاظ على الجوهر. ليتحول هدا المنقول، إلى تراث مشترك، يدون أو يروى شفهياً . في الكثير من الأحيان ، يصعب تتبع وتحديد أصول قصة أو جذورها، أو تتبع سيرها التاريخي ومقاماتها، لأن ذلك ما لا يعترف بالحدود التي يضعها الساسة. فالإبداع الإنساني، يقاوم الرغبات المهووسة بالقتل والدمار، لهواة استعباد الآخرين، وذلك لأمر معلوم عند الخالق الرحمن.إنها سنة الله في خلقه "يا أيها النُاسٌ إنا خَلَقناكـُمْ مِنْ ذكَرٍ وَأنْثى وَجَعَلْناكُمْ شعوبًا وَقبَائِلَ لِتَعارَفوا إِنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتقاكُمْ.إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبيرٌ" .
لا يمكن لأحد أن ينفي تأثير الثقافة العربية الإسلامية، في ثقافات وآداب الأمم والشعوب التي احتك بها المسلمون، حين سادت هذه الثقافة في مرحلة تاريخية معلومة، لتشمل أجزاء شاسعة من القارات التي تعد من أقدم المناطق التي استوطنها الإنسان. كما أنه لا يمكن إنكار تأثر هده الثقافة بهذه الثقافات، مع حفاظها على روحها الإسلامية. إن المباحث التي سيتم تناولها في هذه العجالة المتواضعة، تدخل في هذا الإطار؛ أي ضمن ما يسمى بـ"الأدب المقارن"، الذي اختلف في تحديد مفهومه وأدوات اشتغاله، بين مدارس عدة، يأتي على رأسها الاختلاف بين المدرستين ؛ الفرنسية، وفرنسا "أول بلد استخدم فيها مصطلح "الأدب المقارن" عام 1827" . ويمكن تلخيص مضامين المفهوم الفرنسي، في أنه العلم الذي "يدرس مواطن التلاقي بين آداب اللغات المختلفة وصلاتها الكثيرة المعقدة في حاضرها وماضيها." ، أو على أنه "العلم الذي يبحث ويقارن بين العلاقات المتشابهة بين الآداب المختلفة في لغات مختلفة" ، والمدرسة الأمريكية التي توسع من المفهوم ليستوعب "كل الدراسات المقارنة بين الآداب المختلفة أو بين الآداب وغيرها من الفنون..وبينها وبين غيرها من المعارف الإنسانية بوجه عام." من مظاهر تأثير الثقافة العربية الإسلامية في الثقافات واللغات الأخرى،وخاصة منها الفارسية والتركية والأردية، واللغات الأوربية الحديثة، هي انتقال الكثير من القصص المعروفة بأصولها الإسلامية، كقصة "مجنون ليلى" العربية الأصل، وقصة "يوسف" عليه السلام، وقصة "البلبل والوردة"، وقصة "الإسراء والمعراج"، التي اتخذت أشكال متعددة في الآداب الأخرى، و"رسالة الطير" لحجة الإسلام الإمام الغزالي، وحكايات "ألف ليلة وليلة"، و"كليلة ودمنة" وغيرها. 2- قصة "مجنون ليلى" في الآداب العالمية: القصة كما يرويها صاحب الأغاني، هي أن قيس بن الملوح، أحب "ليلى"، وشبب بها، فرفض أهلها تزويجها إياه، لأن العادات كانت تمنع ذلك، فهام قيس في الصحراء، حتى وسم بالجنون، يعاشر الحيوانات ، يحنو عليها، وتحنو عليه، كما يحدث مع الغزال: أيا شبه ليلى لا تراعي فإنني لك اليوم من بين الوحوش صديق فعيناك عيناها وجيدك جيدها خلا أن عظم الساق منك دقيــق وفي قول آخر: "أيا شبه ليلى لا تراعي فإنني لك اليوم من وحشية لصديق ويا شبه ليلى لو تلبثت ساعـة لـعـل فؤادي من جواه يفيق تفر وقد أطلقتها من وثاقـهـا فأنـت لليلى لو علمت طليق " فهو يرى ليلى في كل شيء. لقد ملكت عليه فكره وقلبه. وتحدث الكثير من الحوادث، تختلف من روايةإلى أخرى، ومن لغةإلىلغة أخرى.كما اختلفت الآراء حول اسم المجنون نفسه، يقول صاحب الأغاني: "وأخبرني أبو سعد الحسن بن علي بن زكريا العدوي قال : حدثنا حماد بن طالوت بن عباد أنه سأل الأصمعي عنه فقال: لم يكن مجنوناً ، بل كانت به لوثة أحدثها العشق فيه كان يهوى امرأة من قومه يقا ل لها ليلى ، واسمه قيس بن معاذ . وذكر عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه أن اسمه قيس بن معاذ . وذكر شعيب بن السكن عن يونس النحْوي أن اسمه قيس بن الملوح قال أبو عمرو الشيباني: وحدثني رجل من أهل اليمن أنه رآه ولقيه وسأله عن اسمه ونسبه فذكر أنه قيس بن الملوح . وذكر هشام بن محمد الكلبي أنه قيس بن الملوح ." انتقلت قصة "مجنون ليلى"، إلى الأدب الفارسي، فالأدب الأردي والتركي.
*نجد تجليات لها في قصة "وامق وعذرا"، رغم ما يروى ، من هذه الأخيرة، سابقة في التاريخ. يروي الأستاذ عبد السلام كفافي، رحمه الله، أن أول ظهور لقصة "وامق وعذرا"، كان في عهد الأسرة الطاهرية (205-259هـ)، قدمت لعبدالله بن طاهر أمير خراسان من قبل المأمون، قدمها له شخص على أنها حكاية صنفها الحكماء لكسرى( أنوشروان)، فأمر عبدالله بغسل الكتاب بالماء. ورغم الأصول الفارسية، كما يقال لهذه الحكاية، فإنها تشير إلى "ذلك اللون من الحب الذي يؤدي بصاحبه إلى الجنون، ونشهد كذلك هذا التعاطف بين الإنسان والوحوش، وهو من الصور التي ظهرت في قصة "مجنون ليلى" . إلا أن أشهر من نظم قصة "مجنون ليلى" في الأدب الفارسي، هو نظامي الكَنجوي (حوالي:530هـ)، والذي اختلف حول اسمه المؤرخون ، ولم يحفظ التاريخ سوى القليل من حياته. ويرجع بعض الباحثين، إلى أن اسمه هو :"جمال الدين بن يوسف بن مؤيد الكَنجوي. وهو الاسم الذي نقله حاجي خليفة." ، وقد نظمها في أربعة آلاف وسبع مئة بيت في أقل من أربعة أشهر. وتتضمن القصة بعض الاختلافات مع الأصل العربي، فَ (قيس) في هذه المنظومة تعرف إلى( ليلى) في "المكتب" أي الكتاب، فكان ذلك بداية العشق والهيام، وقيس ابن ملك من ملوك العرب. يتدخل أمير الصدقات " نوفل" الذي عمل لتحقيق رغبة قيس في الفوز بليلى، ولم يفلح، فحارب أهلها، لكنّ أباها ، رغم الهزيمة، أبى ولو أدى به الأمر إلى قتل ابنته. ينصرف قيس إلى الصحراء ليعاشر الحيوانات والوحوش. وقد أضفى الشاعرنظامي كَنجوي جواً صوفياً على القصة، كما أضاف إليها وحورها، فالقسم الذي يتدخل فيه |سلام البغدادي" لا وجود له في الأصل العربي، وبغداد لم تكن موجودة آنئذ. هذا الشخص هو الذي سيروي شعر قيس بعد أن أمضى معه زمناً في الصحراء. تمر الأحداث، ويموت زوج ليلى، فتقيم في بيتها، لا ترى انساناً ولا يراها إنسان إلى أن تفارق الحياة، فيحزن المجنون حزناًعظيماً، ويموت على قبرها. لقد حققت القصة نجاحاً لا نظير له ، ولاقت إقبالاً، مما أدى إلى نسخها ونشرها على أوسع نطاق، كما أضيف إليها الكثير، وحورت على يد الشعراء، ومن الذين نسجوا على منوالها "الكَنجوي وأمير خسرو الدهلوي (ت.726هـ)، وعبدالرحمن الجامي(ت.898هـ)، وابن أخته عبدالله هاتفي. ولقد رسم نظامي ، كما يشير عبدالسلام كفافي الطريق أمام غيره من الشعراء، في جوانب متعددة، منها: 1- نسق المادة العربية، في إطار قصصي متسلسل. 2- أول من أضفى على القصة طابعاً صوفياً. 3- أورد في شعره الكثير من القضايا الثقافية. 4- أدى ذ يوع القصة وانتشارها إلى الإقبال على نسخها وقراءتها.
انتشرت القصة من الفارسية إلى الأردية، لغة المسلمين الهنود ، والتركية، فنظم فيها الشعراء الترك، ومن هؤلاء "علي شيرنوائي" و"حمدي"(ت.941هـ) ، وفضولي البغدادي(ت.963هـ)، ويعد هدا الأخير، من أبرز من تفوق في منظومته، كما وصفها "جب" بأنها أجمل مثنوي قصصي في الشعر التركي. ولا نجد أدلة على تأثر "روميو وجولييت" بقصة المجنون، إلا أن قصة العشق المذكورة في "أنشودة رولان"، التي وقعت بين "رولان" وابنة ملك الخطأ، وهي قبيلة تركية، أقرب من هذا القبيل، إذ يصاب رولان بمرض، لن يشفى منه إلا بعد تدخل الساحر "أستولفو"، وهذا يحيل على نوع من التأثر بقصة المجنون. كما أن قصة "مجنون إلزا" التي تدور أحداثها في جو عربي إسلامي،آخر زمن بني الأحمر، أقرب إلى القصة العربية في الكثير من جوانبها. 3- قصة "البلبل والوردة" : تتردد قصة "البلبل والوردة " في آداب أمم وشعوب مختلفة ، من الشرق ومن الغرب، في الأدب العربي، وفي الأدب الفارسي، والهندي، والآداب الأوربية، فما الذي يجمع بين هذه الآداب ؟ هل يعود الأمر، لما يسميه "فان تيجم" "مودة أدبية عالمية، يقول:"حين يكون تأثير كاتب معين أو عدد من الكتاب، يجمعهم نجاحهم في الخارج، واقعاً على مختلف الآداب في واحد، قيل إن هناك مودة أدبية عالمية، مثال ذلك "مودة " القصائد الرمزية المستوحاة من "قصة الوردة" " . ولكن هل يمكن اعتبار "قصة البلبل والوردة" ، تدخلاً في إطار تأثير كاتب معين، وفي عصر معين ؟ يجيب "فان تيجم" نفسه عن السؤال بقوله :"وبديهي أن بعض التأثيرات المتنقلة لم يكن مركزها مؤلفاً واحداً" . ولا يمكن ، أيضاً أن يكون التأثير لعصر واحد. وإذا كان "تيجم" يتحدث عن التأثير والتأثر بين آداب اللغات الأوربية وعصورها، فإن غيره، توسع في طرح السؤال ليشمل ثقافات أخرى، يأتي على رأسها الثقافة العربية الإسلامية، التي سادت في منطقة جنوب وشرق أوربا لفترة تاريخية طويلة، وترجمت نفائسها إلى اللاتينية واللغات الأوربية القومية، كما أن الاحتكاك الذي حدث من الجهة الشرقية، إبان الحروب الصليبية، أو عن طريق اللغة التركية التي توغلت في هذه الجهات. ويرى "فان تيجم" ، أن إسبانيا كانت إلى عام 1660 م ، مورداً لأوربا كلها "تستمد منها موضوعات مسرحياتها ومواقف ملاهيها ومآسيها" . ولا أحد ينكر التأثير العربي الإسلامي في الأدب الإسباني. ** ألا يمكن أن نتساءل حول نص "أوسكار وايلد" (Oscar Wilde ) (1856-1900 )"البلبل والوردة"، إذا كان هناك تأثير أو تأثر للقصة ، كما هي معروفة في الشرق، فيما كتب وايلد ؟ أم أن الأمر، لا يعدو أن يكون مشتركاً إنسانياً عاماً، أو أن "تغريد البلبل لا يعدو أن يكون قد أوحت به العاطفة الشعرية تجاه الطبيعة. وقد تناول الموضوع نفسه، كاتب غربي آخر هو "جيوم دي لوري" وأتمها كاتب آخر هو "جان دي مين" ، وهي رواية "الوردة" . وتتكون هذه القصة من سبع مئة واثنين وعشرين ألفَ بيت (22700 ) ، من الوزن الثمانية، بقافية تجمع كل بيتين منها، قام بنظمها شاعران هما :جيوم دي لوريس (Guillaume de Louis)، الذي نظم القسم الأول (4260 بيت)، في النصف الأول من القرن الثالث عشر، و"جان دي مونج" (Jean de Meung) ، الذي أتمها ، بعد مرور خمسين عاماً، حوالي سنة 1270 م . كما نجد للقصة حضوراً في إبداعات أخرى،
مثلما هو الأمر عند "بوشكين" في قصيدة "آه يافتاة ياوردة، إنني في الأغلال"، في قصيدة أخرى تحت عنوان "البلبل والوردة" التي نظمها عام 1827 م ، يقول فيها : "في صمت الحدائق، في الربيع، في ظلمة اللــيــالــي، يشدو البلبل الشرقي أعلى الوردة. لكن الوردة الحبيبة لا تشعر، لا تصغي…" أو عند "غوته" . وإذا كان هذان الأخيران لا ينفيان تأثير الأدب الشرقي في إبداعهم، فإن "وايلد" لا يورد أي إشارة صريحة في الأمر. يعد "أوسكار وايلد"، من أغزر الكتاب إنتاجاً، وواضع نظرية "الفن للفن"، كتب في الشعر والرواية البوليسية، والمسرحية ، كان يتقن اللغة الفرنسية، وألف بها مسرحية "سالومي" سنة 1896 م، قدمت بباريس، وآخر أعماله هي مجموعته الشعرية "موسم زنزانة ريدرينغ" (1898 م)، كتبها خلال فترة سجنه. عاش أواخر أيامه في فرنسا وتوفي بها، كتب "البلبل والوردة" أو "العندليب والوردة" بين (1888 و 1891 )، وخلاصة القصة؛ أن تلميذاً أراد أن يقدم وردة لحبيبته، لترقص معه في حفلة الأمير، فلم يجد في حديقته وردة حمراء، فسمعه العندليب، الذي أدرك سر حزن العاشق الشاب،دون الحشرات والحيوانات والزهور. طار العصفور باحثاً إلى أن وجد شجرة ورودها حمراء. اِشترطت عليه هذه الأخيرة ، أن يضحي بحياته من أجل الوردة ؛ بأن يغني طوال الليل، تحت ضوء القمر ويلطخها بدمه، بوضع صدره على شوكة، ويضغط إلى أن يسقيه بدمها. وكذلك كان؛ فماذا يساوي قلب عندليب، مقابل قلب انسان ؟ فضحى العصفور بحياته مقابل حصول الشاب على وردة حمراء يقدمها لحبيبته، ومقابل أن يكون عاشقا حقيقيا، إلا أن الفتاة، لم تول أي اهتمام للشاب حين قدم لها الوردة، لأن حفيد الملك أرسل لها مجوهرات، فرمى التلميذ بالوردة إلى الشارع لتدوسها عربة خيل كانت مارة من هناك، وليقرر دراسة الفلسفة والميتافيزيقا . ويبدو من القصة أن وايلد وظفها من أجل تأكيد مذهبه "الفن للفن"، فموت البلبل كان تضحية لإرضاء الشاب، في حين أن البلبل كانت تضحيته من أجل أن يستمر الشاب في العشق الصافي، فهذا الشاب الذي كان مسجى على العشب يذرف الدموع، لأن حبيبته لن ترقص معه إن لم يقدم لها وردة حمراء، كان من المنتظر أن يأخذ هده التضحية بعين الاعتبار، لكن ما حدث هو نوع من اللامبالاة ، فالحكاية محكومة بنوع من العبث ؛ أي تخلو من الاعتراف بالجميل، اعتراف الشاب بجميل البلبل واعتراف الفتاة بجميل الشاب، وذلك ما لم يحدث، ثم موقف الشاب الذي رمى بالوردة لتدوسها حوافر الخيل وكأن شيئا لم يحدث :"غبي هو الحب…لا يستعمل في نصف ما نستعمل فيه المنطق" . أما في التراث الإسلامي، فقد وظفت القصة توظيفاً رمزياً راقياً، خاصة عند المتصوفة. ويشير الأستاد "أ.د.غريغوري" إلى أن البلبل والوردة من أهم العناصر الصوفية والشعرية ، فالبلبل وقع في حب الوردة وهي زرقاء، وكان أخرسَ، ولما اقترب منها حيته، فلم يرد التحية، مما أغضب الوردة، فلم تكلمه، فأحزنه ذلك، ودعا الخالق أن يمنحه صوتاً، فاستجاب الله لدعائه ووهبه أجمل صوت في الكون. عاد إلى الوردة وغنى لها تعبيراً عن حبه، لكن هذه الأخير لم تعره سمعاً، فانسحب كسير القلب. شعرت الوردة بالندم. في الصباح، عاد البلبل فرأى الدموع على أوراقها فأسرع لمعانقتها، لكن أشواكها طعنته فمات فانساح دمه عليها وأصبحت حمراء."هذه هي الأسطورة التي أترعت خيال الكثير من الشعراء الفرس والأتراك والعرب والهنود، الذين خلفوا أبياتاًً خالدة مكرسة للحب والجمال والموت المجسمة في الثنائي؛ البلبل والوردة" . والاختلاف بين القصتين، هو أنه عند وايلد البلبل ضحى من أجل الشاب، وفي الثانية البلبل كان عاشقاً للوردة، وموته نتج عن هذا العشق، مع الاتفاق على أن دم البلبل هو الذي جعل الوردة حمراء. ويفسر النورسي ، رحمه الله ،:"الحب الذي يشد البلبل إلى الوردة، كرمز للمحبة التي تربط كل كائنات الله التي تفرح بالهدايا التي وهبها لغيرها، مثلما يفرح البلبل بالجمال الذي وهبه الله للوردة." فالبلبل في نظره ليس إلا مظهراً من مظاهر تمجيد الله…أما فيما يخص البشرية، فالمختار بلبلاً لها هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم." فالنورسي، كتب نص البلبل للتعبير عن معنى من أجمل المعاني في الوجود . ومن الذين كتبوا عن البلبل والوردة، من الشعراء، غوته، ومعروف الرصافي، وإبراهيم طوقان وغيرهم. 4- قصة يوسف، عليه السلام، وزليخا: ذكرت قصة يوسف عليه السلام، في القرآن الكريم (سورة يوسف)، قال تعالى :" نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ." كما وردت في الكتاب المقدس، مع اختلاف في التفاصيل، فقد ذكرت في سفر التكوين، الإصحاح (39) الآيات :من (1) إلى (23)، ويسمى فيها زوج زليخا "بوطيفار"، وتنص على أنه كان مخصياً، ويعمل رئيس شرطة . ويشير بعضهم إلى أن هناك قصصاً مشابهة تعود إلى تاريخ سابق، فهناك حكاية شعبية مصرية، ترجع إلى تاريخ (1250 ق.م) خمسين ومئتين وألف قبل الميلاد، وتعرف بقصة "أنوب وباطا". ويقول "أ.ل.رانيل"، في كتابه "الماضي المشترك بين العرب والغرب…":"وفضلاً عن التراث العبري،فقد كان للتراث الإغريقي تأثيره في قصة يوسف ، وانتشرت في العالم الإسلامي، من خلال حكاية "هيبوليتس وفيدرا" . ومهما قيل ، في هذا الموضوع عن التأثير العبري، أو اليوناني في الآداب الغربية، فإنه بالنسبة إلىالعالم الإسلامي، لا يمكن التسليم بهذا الرأي ، ما دام القرآن الكريم قد فصل فيها، وهو المصدر الأول للمسلمين، إلى جانب السنة النبوية الشريفة، رغم ما يمكن الإشارة إليه، من تأثر بعض القصاصين بالإسرائيليات . كما أن المفسرين المسلمين قد أفاضوا في الحديث، وتوسعوا في قصص الأنبياء. ومن أشهر من كتب في الموضوع؛ الكسائي والثعلبي، والأسماء المذكورة عندهما هي: يوسف وزليخا زوجة "العزيز"، أو "الملك"، أو "قوطيفر"، و"ابنة عكاهرة" ، وهما لم يخرجا عما ذكر في القرآن الكريم، مع اختلاف، بينهما، في بعض الدقائق؛ فالكسائي ينهي القصة بأن يتزوج يوسف بزليخا، ويكون له معها ولدان"إفرام" و"منشا" . اَنتشرت قصة يوسف وزليخا، في العالم الإسلامي، انطلاقاً من القرآن الكريم، فنظم فيها الشعراء والقصاصون. ففيما بين (216-389هـ)، في فارس، "نظم أبو المؤيد البلخي قصة يوسف وزليخا، فكان ذلك إيذاناً بظهور هذا اللون من الروايات المنظومة الذي يشبه القصص الرومانسي المنظومة في آداب الغرب، إبان القرون الوسطى ، ومن الذين نظموا هذه القصة، أيضاً، الفردوسي، وعبد الحميد الجامي. ويذكر الفردوسي في مقدمة منظومته، أن أبا المؤيد البلخي، هو أول شاعر نظم القصة، ومنظومته مفقودة، ويشير عبدالسلام كفافي، رحمه الله، أن منظومة الفردوسي (أوائل القرن الخامس الهجري)، هي التي "أدخلت موضوع "يوسف وزليخا" ضمن نطاق الشعر القصصي الإسلامي، فأصبح موضوعا شائعا، تناوله عشرات الشعراء، في الآداب الإسلامية المختلفة" . ومن بين من نظمها عمعق النجاري (ت.542 أو 543)، ولا وجود لأثر هده المنظومة، كما تناولها الشعراء الأتراك، وشعراء الأدب الأردي. انتشرت قصة يوسف وزليخا في "القارة الأربية وانجلترا في العصور الوسطى، نقلاً عن النص الإسلامي؛ فقد امتد التأثير العربي من بلاد فارس إلى إسبانيا…وقد سجل من بلاد الفرس ثماني عشرة رواية..كما سُجل في إسبانيا عددٌ لا يحصى لقصائد مسرحيات وقصص عن يوسف" . إنه لا يمكن إثبات أو نفي تأثر الشعراء، من المصادر غير الإسلامية، فمما لا شك فيه هو الاستناد إلى الأصول الإسلامية بالنسبة إلىالشعراء المسلمين، وهذا لا ينفي تسرب بعض الإسرائيليات، لكنها لا تمس جوهر القصة كما ردت في سورة يوسف.أما التوراة فلم يكن آنئد قد ترجم إلى العربية، فالفردوسي، "ذكر بنفسه مصادره التي أفاد منها في صياغة قصته. وذكر روايات وهب بن منبه،وكعب الأحبارخاصة…" كما أن تاريخ الطبري الذي يتضمن رواية مفصلة للقصة ، كان قد ترجم إلى الفارسية. ويذكر المؤرخون، أن منظومة أبي القاسم الفردوسي، نظمها بعد الانتهاء من "الشاهنامه"، وأراد أن يكفر بها عن ذنبه عند قضاء عمره، في نظم هذه الأخيرة، التي تحتوي على الكثير من الأكاذيب والمغالطات، عن سير ملوك الفرس الأقدمين، يقول:"لقد سئمت من غرس هذه البذور، فوضعت خاتماًعلى لساني وقلبي.فلن أنطِق الآن بكاذب الأسماء، ولن أضفي على الكلام رونقاً بمقالي، ولن أغرس الآن بذور الفتنة والإثم ، فقد حل نور الهداية عندي محل الظلام." . وإذا كان هذا كلام الفردوسي، فإنه لا مجال للشك، في تأثره بالقصة القرآنية، كما فصل فيها المفسرون عامة والطبري خاصة. وقد التزم بترتيبها كما وردت في القرآن الكريم. أما عبدالرحمن الجامي، فإن تناوله للقصة يغلب عليه الجانب الفني، فقد أفاض في أحداث حياة زليخا التي لم يفصل فيها الفردوسي ، الذي ركزعلى شخصية يوسف، مما جعل الجامي يوظف الكثير من الخيال والاختراع، وحذف الكثير من التفصيلات المتعلقة بحياة يوسف ، عليه السلام، وخاصة تلك المتعلقة بصباه، ونشأته الأولى، كما ركز على فكرة الحب، وصوره بأسلوب صوفي، يقول في المستهل: " تحول بوجهك عن العالم، وتوجه إلى شجون العشق،فعالم العشق هو العالم الجميل.لا حرم الله قلب إنسان من شجن العشق، ولا كان في الدنيا قلب خلا من العشق !" .
ومن الشعراء الترك الذين نظموا قصة "يوسف وزليخا" حمد الله جلبي (حمدي) (852-941هـ)، وهو من معاصري الجامي، وقد حقق بمنظومته نجاحاًجعلته يسترزق بنسخها وبيعها.ويذكر الشاعر في مقدمة القصة، أن من أسباب نظمه لها، أنه شعر بأن مصيره على أيدي إخوته، يشبه ما لقيه يوسف على أيدي إخوته، فقد كان له أحد عشر أخاً . كما يذكر أنه عاد إلى منظومة معاصره عبدالرحمن الجامي. تبدأ المنظومة بما كان شائعاً في المثنويات، وهي حمد الله ومدح الرسول صلىالله عليه وسلم، والثناء على الخلفاء الراشدين، ثم سبب نظم القصة، ودعوة النفس إلى التوبة، والتذكير بما ستلاقيه، إلى أن يصل إلى الحديث عن الأنبياء الذين جاؤوا قبل يوسف ، عليه السلام، وأخيرا تبدأ القصة. من الشعراء الترك الذين نظموا هذه القصة، أيضاً، "أحمد بن سليمان بن كمال باشا"، الذي اشتهر بتأليفه باللغة العربية أكثر من التركية. نظم مثنوية في سبعة وسبعين وسبع مئة وسبعة آلاف بيت(7777). أهداها إلى السلطان "بايزيد". لم تحظ هذه المنظومة بما حظيت به منظومة حمدي. نجد في الأدب الإسباني منظومة تدعى "قصيدة يوسف" ( Poema de Yuçuf )، يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر الميلادي (ق.14م) "وهي مثال للأدب الإسباني الذي كان موجهاً للمسلمين الذين يتحدثون الإسبانية." لأنها كتبت بالحرف العربي. 5- "منطق الطير" فريد الدين العطار : هو أبو حامد محمد بن أبي بكر إبراهيم بن إسحاق، من كبار شعراء الفرس، أحرز شهرة واسعة في القرن السادس الهجري، وأوائل القرن السابع.اأختلف حول تاريخ ولادته (537-513-512هـ)، وتاريخ وفاته (627-632-616). أثر في جلال الدين الرومي تأثيراً عميقاً. سلك سبيل التصوف، ومن أشهر مثنوياته "منطق الطير" . أثر في تطوير فني الغزل والرباعي، وكان لأعماله أعمق الأثر في الأدب الفارسي، والآداب العالمية. استعار اسم ملحمته من الآية الكريمة :" وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ." اتخذ من الهدهد مرشداً للطير في رحلتها أو معراجها. نجد في التراث الإسلامي مجموعة من سوابق هذا النوع من النصوص، منها :"رسالة الطير " لابن سينا، و"رسالة الطير" المنسوبة للإمام الغزالي (505هـ)، وإطار هذه الأخيرة أشبه بالإطار العام لملحة العطار، وهي موجودة في مؤلف "الجواهر الغوالي من رسائل الإمام الغزالي"، وهي عبارة عن رحلة روحية قامت بها النفوس (رمز الطيور) إلى خالقها ( رمز العنقاء)، فهلك من هلك ووصل من وصل. يقود الهدهد الطير في رحلة شاقة ، ويبين لها أن أمامها سبعة أودية عليها أن تقطعها، هي : وادي الطلب، ووادي العشق،ووادي المعرفة، ووادي الاستغناء، ووادي التوحيد، ووادي الحَيرة، ووادي الفقر والفناء. وهي رموز لمجاهدات صوفية ومقامات وأحوال، وحالات نفسية تتحقق نتيجة مجاهدات روحية شاقة، تغالب فيها العقبات والصعاب . بدأت الرحلة ألوف الطير، لكن معظمها هلك في الطريق، غرقاً أو ضمأ، أو انشغل بما رأى ، أو ركن إلى الدعة، ولم يصل منها ، إلى "السيمرغ" إلا ثلاثون طائراً. و"السيمرغ" طائر أسطوري، واسمه يعني ثلاثين طائراً (سي/ مرغ). تتضمن الملحمة مئات من القصص الجانبية، فالهدهد يستعين بالقصص لإقناع الطيور المترددة، مثلما ما حدث له مع البلبل، حين جاء معتذراً، لأنه لا يستطيع أن يقضي ليلة واحدة وهو خال من عشق الوردة : " فكيف يستطيع البلبل أن يقضي ليلة واحدة وهو خال من عشق مثل هذه الوردة الضاحكة ؟ فيجيبه الهدهد متهماً إياه بالتوقف عند الصورة الظاهرة، فجمال الوردة مآله الزوال: فمع أن الورد صاحب جمال وافر فحسنه في سبعة أيام يصيبه الزوال. وعشق ما نهب للزوال، على هذه الصورة الواضحة، لا يخفى أن أهل الكمال يكون لهم منه ملال." ويسترسل الهدهد في الحديث عن حكاية "في هذا المعنى"، محدثاً البلبل، عن ابنة أحد الملوك التي أفقدت الدرويش روحه ورغيفه. وعندما يأتي الببغاء ليعتذر: " فكيف أنطلق على الطريق وكأنني مجنون وكيف أطوف بكل مكان مثل المشرد ؟ فلست أملك الطاقة على القرب من "السيمرغ…" فيجيبها الهدهد: "أن كل من لا يبذل الروح لا يكون من الرجال
|