الزهاوي بقلم محمد كرد علي كن أول من يقيّم
هذه ترجمة للزهاوي بقلم المرحوم محمد كرد علي في كتابه (أقولنا وأفعالنا) انشرها برمتها لما فيها من الندرة، قال:
أدركت طائفة من الرجال كان يتراءى لي أن عقولهم تامة من جانب ناقصة بعض النقص من الآخر. ومنهم من كان به جنة، وهو في ظاهره سليم العقل، صحيح الأحكام. كأن الفطرة لا تحب أن تكون سمحة بكل شئ؛ فلا تجمع الصفات الحسنة كلها في فرد، كما لو جمع الجمال في امرأة فإنها تفتن العالم وتستعبده. وشهدت الشذوذ يكثر في المصورين والخطاطين والشعراء والمتفلسفين، وبعضهم يتكلفونه ويتزيدون فيه، كأن الأعمال الخرقاء من موجبات الفن ودواعي النبوغ. ومن يتطلبون الشهرة من غير طريقها، ويبالغون في خيالاتهم،هم أيضاً من أرباب الشذوذ، وما من كمال إلا كان إلى جانبه نقص.
أطلت النظر في منازع بعض من أصيبوا بهذه العاهة، ومنهم صاحبان لي كنت أعجب بذكائهما النادر، عرف أحدهما بالشعر والفلسفة، والآخر بالتصوير والهندسة.
ونشأ الأول بفطرته يتفلسف في كل شئ، ويتفقد كل شئ، وعتب على أبيه لأنه دفعه إلى مدرسة دينية، ولم يعهد بتربيته إلى إحدى جامعات الغرب، ولو فعل لجاء منه الفيلسوف العظيم الذي كان العالم يترقب ظهوره لينقذ البشر بتعاليمه من آلامهم، وينظم لهم بعقله شئونهم.
قد ادعى فيما أذكر أن للإنسان رجعة إلى الدنيا بعد مئة ألف عام أو أكثر أو أقل، وربما تكون عودته بالصورة التي يختارها، وما أدري إن كان يرجع كلباً أو خنزيراً، أو قرداً، أو ثوراً، أو دباً، أو إنساناً كاملاً، أو إنساناً ناقصاً!
وهكذا طغت الفلسفة على قلبه، ووجد الشذوذ مرتعاً خصيباً في لسانه وقلمه.
وما كنت أهتدي إلى حقيقة دعوته، ولا إلى أين يرمي بانحرافه. ادعى أنه كان في صباه يسمى المجنون بحركاته الغريبة، وفي شبابه الطائش لخفته ورعونته، وفي كهولته الجريء لمقاومته للاستبداد. وفي شيخوخته الزنديق لمجاهرته بآرائه الفلسفية. أي أنه كان شاذاً من أول أمره، إلى خاتمة عمره.
ولعهدي به في اليمن في الدور العثماني، يقرأ لإرشاد الزيدية، مناقب أحد مشايخ الدجالين في جامع صنعاء. نزعة لا تلتئم مع دعوة التجدد، ولا مع دعوى الفلسفة. وقد ألف في الرد على بعض المذاهب الإسلامية رداً بعيداً عن روح الحق، ما أخاله هو يعتقد صحته، واعتذر بأن الداعي إلى تأليفه كان سياسياً.
صاح صيحة عظيمة لإغفال الأمة إصلاح خطها القبيح الشكل! واخترع لها خطاً جديداً مقطعاً من أبشع ما رسم راسم. ودعاها إلى قبوله. وجاهر مرة بوجوب الإقلاع عن القوافي في الشعر العربي - ونسيت إن كان قال الأوزان أيضاً- وجعله مطلقاً لأن القافية تقيده، وأتى من ذلك بنموذجات ركيكة سخيفة، لو كان في باطنه مقتنعاً باستحسان طريقته لجرى عليها في شعره، ولكنه ما كان يؤمن فيما أحسب بما يقول، ويقصد أن يقال عنه فقط أنه أتى بجديد.
أرسل إلي بضع قصائد لشعراء بغداديين مشهورين - ومنهم من يعد في أرقى طبقات العلماء - ادعى أنهم نظموها بمناسبة ورود شاعر هجاء على مدينة السلام، هجى شعراءها وهجوه هجواً ليس أسفه منهم. وما ظننت أولئك الفحول، ينظمون مثل هذا الإقذاع. وطلب مني أن أنشر له هذه الأهاجي في كراسة، أو في إحدى المجلات المصرية، فتألمت من توسيطي بنشر هذه السخافات، وكتبت له ما معناه: أصبح المسلمون عبئاً على الأرض، ويشتغل الموصوفون الآن بالعلم والآداب من رجالهم، في بلد كان ينزل فيه أمثال بشر المريسي وأبى عثمان الجاحظ بهذه التراهات، ثم ينشرونها ليثبتوا للعالم أنهم سخفاء.
وبعث إلى مجلة المقتبس أيام كانت تصدر في القاهرة عدة قصائد في الدعوة إلى الإلحاد، والحط من الأديان، وأوعز إليّ أن أنشرها باسم المجلة أو باسم مستعار، فرددتها إليه ذاكراً له إذا كان من خطة المقتبس عدم التعرض لمسائل الدين، فليس معنى ذلك انه يدعوا إلى محاربة الدين، وأن صاحب المقتبس لا ينظم الشعر فكيف يجوز له أن يدعي ما ليس له.
عد بعض المشتغلين بالمشرقيات من الغربيين ما صرح به صاحبنا هذا من الآراء فلسفة جديدة، وغلا في تقدير شاعريته. ومن عادة المتعصبين من الغربيين أن يهللوا لكل مسلم حارب إسلامه، ولكل عربي خرج على قوميته، ولكل شرقي مرق من وطنيته. يتفننون في تأويل كلام من أرادوا الإشادة به، ويعظمون أقواله وأفعاله، ويلبسون من ثياب المديح أضفاها، وعلى هذا قضت الأمانة على مستشرق متعصب بالاقتصار على ترجمة هذا الشاعر المتفلسف في أمتع كتاب كتب على الإسلام في الغرب، ليقول لأبناء الأجيال القادمة: هذا كل ما أنبغ الشرق الأدنى في القرون الأخيرة، والعرب أو المسلمون لم ينشأ منهم في هذا العصر رجال يذكرون |