1- المزاوجة بين السريع والرجز: كن أول من يقيّم
وهو أشهر أنواع التداخل التزاوجي بين البحور. فمن المعلوم طبعاً، أن البحر السريع، يشكّلُ الجزءَ الأعظمَ من سياق الرجز، ولا يُميّزه عنه إلاّ سقوطُ سببٍ خفيفٍ قبل وتده الأخير. فالرجز = /ه/ه//ه /ه/ه//ه /ه/ه//ه والسريع= /ه/ه//ه /ه/ه//ه /ه x//ه وبالتالي لا يتمايز إيقاع السريع عن الرجز، وتظهر نكهته المميزة، إلاّ بوجود (فاعلن) في عروضه وضربه، أو في أحدهما على الأقل. فإذا حُذِفت (فاعلن) أو حتى سقَطَ وتدُها (علن)؛ فقَدَ هذا الميزانُ نكهةَ السريع، ودخلَ حظيرةَ الرجز، لأنّ ما يتبقى منه -عندئذ- هو جزءٌ من التتابع الحركي للرجز لا غير. وللسبب نفسه، لم يكن للبحر السريع أي قالب مجزوء، لأنّ جَزْأه لا يُخلِّفُ إلاّ رجزاً. وهكذا فإنّ من التداخل التزاوجي بين البحرين؛ كل ما جاء من صور السريع على العروض (فاعلن أو فعِلن) والضرب (فعْلن أو مفعولْ أو مفعولن...)، حيث يكون الصدر للسريع، والعجز للرجز، وإنْ أنكر بعض العروضيين ذلك. وبالتالي تعتبر المطالع المصرّعة لقصائد هذه الأوزان رجَزاً صريحاً، ولا يصحّ نسبتها إلى بحرِها إلاّ بعد معرفة ما يليها من أبيات. وكثيراً ما خلط المحقّقون في نسبة هذه القصائد، فنسَبوها إلى الرجز -خطَلاً- اعتماداً منهم على تقطيع البيت الأول منها فقط. فمما كُتب من السريع على العروض (فاعلن) والضرب (فعْلن)؛ قول ابن الأحنف: أميرتي لا تغْفِـري ذنبي**فإنّ ذنبي شـدّة الحـبِّ حدّثْتُ قلبي دائباً عنكُمُ**حتى قد استحْيَيْتُ من قلبي يا ليتني كنتُ أنا المُبْتلى**منكِ، بأدنى ذلك الذنْـبِ ويلاحظ في مثل هذه الأبيات؛ فارقٌ إيقاعيّ واضح بينها وبين مطلعها، وبين صدورها وأعجازها. ومما كتب من السريع على على العروض (فعِلن) والضرب (فعْلن)؛ قول المرقش الأكبر: هلْ بالديارِ أنْ تُجيبَ صَمَمْ**لو كان رسْمٌ ناطِقاً كلّمْ ديارُ أسـماءَ التي تَبَلَـتْ**قلبي، فعيني ماؤها يسْجمْ أضحـتْ خَلاءً نبْتُها ثَئِدٌ**نَوَّرَ فيـها زهْرُهُ فاعْتَـمّْ هذا ما جاء في العروض الخليلي من التداخل التزاوجي بين السريع والرجز. إلاّ أن الشعراء فيما بعد؛ استغلّوا هذه الظاهرة، فزاوجوا بين البحرين مستخدمين بعضَ الضروب الأخرى للرجز. فعلى القالب: مستفعلن مستفعلن فاعلن**مستفعلن مستفعلن مستفعلن جاء قول إبراهيم العريّض: وزهرةٍ تبْسِمُ عـن لؤلؤٍ**قد نَفَضَ النسيمُ عنها الوَسَنا تجري المياهُ تحتَها سَلْسَلاً**وحولَها الطيورُ تبكي الدِّمَنا كأنّـها إذا رنَتْ غـادةٌ**تنظرُ في المرآةِ وَجْهاً حَسَنا الأفُقُ الأخضَرُ يروي لنا**حكايةً عنْ همْسِ جفْنٍ ساحِرِ بنظرةٍ تقولُ يا مرحـباً**وأختـها تعْبَثُ في السـرائرِ وهدْبُها يُرسِلُ ترنيـمَةً**لِيوقِظَ الصّبْوَةَ في الضّمـائِرِ وكنت قد قرأت في ثمار القلوب للثعالبي قولَ المأمون: رَهْوُ خراسانَ، وتيهُ النَّبَطِ**ونخْوةُ الخوذِ، وغدْرُ الشُّرَطِ إجْتمعتْ فيكَ، ومنْ بعْدِ ذا**أنّكَ رازِيٌّ كثيرُ الغَلَطِ() وعلى القالب: مستفعلن مستفعلن فاعلن**مستفعلن مستفعلن مفعولن تقول جليلة رضا: ونلْمَحُ العَريشَ في ركْنِـهِ**مُظَلّلاً بالكَرْمِ والرَّيْحـانِ فنختفي روحَيْنِ في حضْنِهِ**نهتكُ عن كَوامِنِ الوجدانِ ويقول إبراهيم العريّض: إنّ السماءَ مظْلِمٌ جوُّها**كأنّما اكتَسَـتْ لها جلبابا كأنما على القرى خيمةٌ**مِنَ الدّجى، مدّتْ لها أطنابا وعلى القالب: مستفعلن مستفعلن فاعلن**مستفعلن مستفعلن مفعولْ يقول عبد الرحمن صدقي (من قصيدة طويلة): فينوسُ كمْ قالوا وكمْ صوّروا**آياتِ هذا الحسْنِ من مَبْداهْ كـم عابـدٍ علَّـقَ أنفاسَـهُ**مستلهِماً هذا اللّمى والفاهْ وكـم بمحرابِـكِ من سـاهرٍ**ليلتَهُ، يبكي على لَيْـلاهْ ولا شك أن المطالع المصرّعة لمثل هذه القصائد هي رجز صريح. ولا يفوتُنا أن نذكر هنا؛ جواز الكتابة على مقلوبات هذه الأوزان، ليصبح الصدر رجزاً والعجز سريعاً، وإنْ كنتُ أعتقد أنّ في الشعراء مَنْ فعَلَ ذلك. |