نقد الحديث لا بد أن نصرح منذ البداية أن ما يسمى بالصّحاح ( الستة المشهورة) شكلت مرجعية هامة للفكر الإسلامي، غير أنها في المقابل شكلت جملة من العوائق التى لازالت لحد الساعة تعيق التجديد الديني. كما نلاحظ سيطرة اللامعقول على أغلب متونها، مما يستوجب اليوم ممارسة النقد المنهجى من أجل تنقية الحديث النبوي. وفي البداية لا أريد ذكر الأحاديث الخطيرة بل سأذكر في الملمح الأول بعض العيّنات التي انتقدها علماء الحديث. وكان من أشهر من انتقد الصحيحين أحمد بن حجر العسقلاني عند شرحه للبخاري في كتابه "هدي السّاري" وهو مقدمة "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، ولقد نبه لوجود أخطاء كثيرة في أحاديث البخاري من حيث الأسانيد والمتون. ونلاحظ أن نقد الحديث كان سنة عند الأولين ، فالحافظ الدراقطني في كتابه "الإلزامات والتتبع"، انتقد أكثر من مائتين حديث بعلل معظمها غير قادح، وقد أجاب ابن حجر وغيره عن بعضها، واستصوبوا أغلبها. وكتب نقد الحديث كثيرة، أشرنا لبعضها في الهامش. إن الدافع لنقد الحديث عند القدماء كان هاجس الحقيقة والمعرفة. وبالتالي لم يكن الناقد في وضع حرج مثلما هو الحال اليوم. لقد تحول نقد الحديث اليوم إلى جرم وفتنة ، وكل من تجرأ على نقد حديث من البخاري أوالمسلم اعتبر مضاد للدين . وتلك مفارقة تاريخية ، فكيف استطاع السلف أن يتحلوا بالروح العلمية والنقدية بينما الخلف اليوم أكثر دوغمائية وانغلاقا.؟؟؟ حاول محمد الغزالي في كتابه ( السنة بين أهل الحديث والفقه ) أن يعيد الحديث لدائرة النقد والدراسة ، لكنه جُبه بحملة شرسة من أنصار السنة من السلفية. والغريب أن أحد أنصار السنة والسلفية مارس النقد والجرح في بعض الأحاديث من البخاري ، ويمكن نأخذ تجربته المتواضعة كبارديغم هامشي. لقد حاول الألباني أن يعيد تطبيق منهج الجرح والتعديل على بعض الأحاديث الواردة في الصحاح ، ولقد ضّعف كثير من الأحاديث وأخرجها تخريجا مخالفا لما كانت عليه. ونقدم مثالا على النقد من خلال حديث ابن عباس ( رض) : قال:{ تزوج أو نكح رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم.} ولنتأمل الألباني كيف ينقد الحديث السالف : " ..والسبب في ذلك أن السند إلى راوي هذا الحديث وهو عبد الله بن عباس لا غبار عليه فهو إسناد صحيح لا مجال لنقد أحد رواته، بينما هناك أحاديث أخرى هناك مجال لنقدها من فرد من أفراد رواته. مثلاً من رجال البخاري رجل اسمه: فليح بن سليمان ، هذا يصفه ابن حجر في كتابه التقريب أنه صدوق سيئ الحفظ. فهذا إذا روى حديثاً في صحيح البخاري وتفرد به ولم يكن له متابع ، أو لم يكن لحديثه شاهد يبقى حديثه في مرتبة الضعيف الذي يقبل التقوية بمتابع أو مشاهد. فحديث ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم لا مجال لنقد إسناده من حيث فرد من رواته كفليح بن سليمان مثلاً ، لا كلهم ثقات. لذلك لم يجد الناقدون لهذا الحديث من العلماء الذين سبقونا بقرون مجالاً لنقد هذا الحدث إلاَّ في رواية الأول ، وهو صحابي جليل ، فقالوا إن الوهم جاء من ابن عباس ، ذلك لأنه كان صغير السن من جهة ، ومن جهة أخرى أنه خالف في روايته لصاحبة القصة أي زوج النبي صلى الله عليه وسلم التي هي ميمونة. فقد صح عنها أنه عليه السلام تزوجها وهما حلال. إذاً هذا حديث وهم فيه رواية الأول هو ابن عباس ، فكان الحديث ضعيفاً وهو كما ترون كلمات محدودات تزوج ميمونة وهو محرم. أربع كلمات ، مثل هذا الحديث وقد يكون أطول منه له أمثلة أخرى في صحيح البخاري. النوع الثاني: يكون الحديث أصله صحيحاً لكن أحد رواته أخطأ من حيث أنه أدرج في متنه جملة ليست من حديث النبي صلى الله عليه وسلم. من ذلك الحديث المعروف في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء.} ، إلى هنا الحديث صحيح وله شواهد كثيرة زاد أحد الرواة في صحيح البخاري : { فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل.} قال الحافظ بن حجر العسقلاني وعلماء آخرون قالوا أن هذه الزيادة المدرجة ليست من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو من كلام أبي هريرة. وهذا يدل أن الرواة كانوا يضيفون ( الزيادة أو النقصان). وسنحاول في الملمح الثاني نقد صحيح البخاري في بعض الأحاديث المتعلقة بالحياة الشخصية للرسول (ص)، والتي نرى من خلال ظاهرها التشريع ولكن من خلال باطنها التشنيع بأفضل الرسل. - * كتاب "علل الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم" لأبي الفضل بن عمار الشهيد، طبع دار الهجرة بتحقيق علي الحلبي. * كتاب "تقييد المهمل وتمييز المشكل" لأبي علي الحسين بن محمد الغساني الجياني (ت498هـ)، طبع في ثلاث مجلدات بدار عالم الفوائد بتحقيق محمد عزيز وعلي العمران. * كتاب "غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأسانيد المقطوعة" للحافظ رشيد الدين أبو الحسين يحيى بن علي العطار، طبع بمكتبة المعارف بالسعودية بتحقيق سعد بن عبد الله آل حميد، وكذلك طبع دار العلوم والحكم بالمدينة بتحقيق محمد خرشافي. * * كتب الجرح والتعديل وبخاصة ضعفاء العُقَيْلي. وهذه تبرز أهميتها في نقد صحيح مسلم. * وكتاب "جامع العلوم والحكم" لابن رجب، وكتاب "المدرج إلى المُدرَج" للسيوطي. |