من أكثر الأحاديث أهمية حديث (حرم المدينة المنورة) والذي يستفاد منه معرفة حدود الحرم المدني، والشائع على الألسنة اليوم أن حدود الحرم المدني هي ما بين الحرتين شرقاً وغرباً، وما بين جبل عير وثور شمالاً وجنوباً.
وقد تورط كثير من الجغرافيين في الاعتراض على نص حديث الحرم، كما سيأتي وبقي الخلاف قائما حتى قامت أخيراً بعثة دينية لوضع حد لهذا الخلاف، مع أن حدود الحرم كان من المفترض أن تكون معروفة منذ عهد الصحابة (ر).
في البدء أنقل نص الحديث وقد ورد في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث بروايات عدة:
(عن بريدة بن سويد بن طارق التيمي قال. رأيت عليا على المنبر يخطب فسمعته يقول. لا والله ما عندنا من كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة؛ وإذا فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات. وحديث المدينة حرم ما بين عير إلى ثور)
وقبل أن أسوق نصوص اعتراض الجغرافيين، أ
نقل هنا جواب الشيخ ابن باز على سؤال يتعلق بالاستفسار عن حدود الحرم، ويمكن الاستماع إلى جواب الشيخ هنا على هذا الرابط
http://www.ibnbaz.org.sa/mat/20443 ونص السؤال: (نرجو من سماحة الشيخ توضيحاً مفصلاً لحدود حرم المدينة النبوية, حيث اتسعت رقعة العمران, ولا يدري بعض السكان "سكان المدينة" أهو داخل الحرم أم خارجه؟
) أجاب الشيخ (قد بلغني أنه لا حدود, فالنبي -صلى الله علية وسلم-قال: (ما بين عير إلى ثور) عير في جهه وثور في جهة أخرى, وفي بعضها ما بين لا بتيها, وقد بلغني أنه لا حدود الآن توضح الحرم حرم المدينة, وفي الإمكان سؤال العلماء في المدينة لأن هناك حدود.. حين وجودي في المدينة.. وفي الجامعة هناك اهتمام بوضع الحدود اللازمة ولعلها وضعت.(
وأورد هنا كلام الجغرافيين وبعض علماء الحديث
وأنبه إلى أن ما أشار إليه ياقوت بقوله: وقال بعض الرواة: من عير إلى كذا) المراد به صحيح البخاري، فمن ذلك الحديث [ 1768 ] حدثنا أبو النعمان حدثنا ثابت بن يزيد حدثنا عاصم أبو عبد الرحمن الأحول عن أنس رضى الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) والحديث [ 1770 ] حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال حدثني أخي عن سليمان عن عبيد الله عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حرم ما بين لابتي المدينة على لساني قال وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بني حارثة فقال أراكم يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم ثم التفت فقال بل أنتم فيه) والحديث [ 1771 ] حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضى الله تعالى عنه قال ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم
المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل وقال ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ومن تولى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل)
قال ياقوت في (مادة: ثور): (وفي حديث المدينة أنه صلى الله عليه وسلم حرّم ما بين عَير إلى ثور. قال: أبو عبيد أهل المدينة لا يعرفون بالمدينة جبلاً يقال له ثور وإنما ثور بمكة قال فيرى أهل الحديث أنه حرم ما بين عير إلى أحُد وقال غيره إلى بمعنى مع كأنه جعل المدينة مضافة إلى مكة في التحريم
وقد ترك بعض الرواة موضع ثور بياضاً ليبين الوهم وضرب آخرون عليه، وقال بعض الرواة: من عير إلى كذا، وفي رواية ابن سلام: من عير إلى أحد، والأول أشهر وأشد. وقد قيل إن بمكة أيضاَ جبلاً اسمه عَير ويشهد بذلك بيت أبي طالب المذكور اَنفاً فإنه ذكر جبال مكة وذكر فيها عيراً فيكون المعنى أن حرم المدينة مقدار ما بين عير إلى ثور اللذين بمكة أو حرم المدينة تحريماً مثل تحريم ما بين عير وثور بمكة بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ووصف المصدر المحذوف ولا يجوز أن يعتقد أنه حرم ما بين عير الجبل الذي بالمدينة وثور الجبل الذي بمكة فإن ذلك بالإجماع مباح)
وفي كتاب الأماكن للحازمي (مادة عير) (أما اْلأَوَّلُ:- بِفَتْحِ العين وسكون الياء التي تَحْتَهَا نُقْطَتَان-: جبل بالمدينة، وفي الحديث:- حرم رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم ما بين عير إلى أحد- هذه الرواية الصحيحة، وقيل: إلى ثور، وليس له معنى)
وفي معجم ما استعجم (مادة ثور): (روى الحربي، من طريق ابراهيم التيمي، عن ابيه، عن علي، قال: حرم النبي صلى الله عليه وسلم مابين عير إلى ثور. قال ثور: الجبل الذي فيه غار النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنشد عمرو عن ابيه:
ومرسى حراء والأباطح كلّها بحيث التقت اعلام ثور ولوبها
وقال مصعب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بالمدينة، وليس في المدينة ثور ولا عير، فالله اعلم بمعناه.
وذكر أبو عبيد هذا الحديث، وقال: عير وثور جبلان بالمدينة. قال: وهذا حديث اهل العراق، واهل المدينة لا يعرفون بالمدينة جبلا يقال له ثور، وانّما ثور بمكة؛ فيرى ان الحديث انما اصله: ما بين عير إلى احد.)
وفي النهاية لابن الأثير: (وفيه أنه حَرَّم المدينة ما بَين عَيْر إلى ثَوْرٍ هما جَبلان: أما عير فجَبل معروف بالمدينة، وأما ثَوْر، فالمعروف أنه بمكة، وفيه الْغار الذي بات به النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا هاجر، وفي رواية قَليلة مابَيْن عَير وأحُدٍ وأحُدُ بالمدينة، فيكون ثَور غَلطا من الرّاوى وإن كان هو الأشهر في الرواية والأكثر. وقيل إن عَيْرا جبل بمكة، ويكون المراد أنه حَرَّم من المدينة قَدْرَما بين عَير وثور من مكة، أو حَرَّم المدينة تَحْريما مثل تحريم ما بين عير وثور بمكة، على حذف المضاف وَوَصْفِ المصدر المحذوف.)
وفي كتاب تاريخ مكة المشرفة (نشرة الوراق ص 114): (قال المازني: نقل بعض أهل العلم أن ذكر ثور هنا وهم من الراوي؛ لأن ثوراً بمكة، والصحيح ما بين عير إلى أحد. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: إن عيراً جبل معروف بالمدينة، وأن ثوراً لا يعرف بها وإنما يعرف بمكة. قال: فإذا نرى أن أصل الحديث ما بين عير إلى أحد. وكذلك قال غيره. وقال أبو بكر الحازمي: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين عير إلى أحد قال: هذه الرواية الصحيحة وقيل: إلى ثور. فليس له معنى. انتهى.) وأخيرا أنقل بيان لجنة التنقيب عن جبل ثور نقلا عن موقع
http://www.moudir.com/vb/archive/index.php?t-1172.html الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله خاتم النبيين محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
وبعد : فلما كان تحديد حرم المدينة النبوية من المسائل المهمة لما يترتب عليه من أحكام وفضائل وثواب وعقاب ، وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : [ المدينة حرم ما بين عير إلى ثور ] فجعل بذلك الحد الجنوبي لحرمها جبل عير ، والحد الشمالي جبل ثور ، وكان جبل عير معروفا مشهورا ، لا لبس فيه ولا إشكال ، بينما ثور اختلف العلماء المتقدمون في تعيينه ، وبعضهم أنكر وجوده في المدينة ، وخفي تعيينه على أهل العصر ، فكثرت فيه أقاويلهم وظنونهم ، فكاد يندرس خبر هذا المعلم : صح العزم منا نحن المذكورة اسماؤهم في هذا التحقيق ، الموقعين عليه ، على تحرير هذه المسألة وتعيين هذا الجبل .
فتتبعنا - أولا - كلام المتقدمين في وصفه ، وتحديد موقعه ، فوجدنا أنهم اتفقوا على أنه جبل منفصل صغير مدور خلف أُحُد من شماليه ، وذكر " الجمال المطري " أنه جبل صغير مدور خلف أحد من شماليه ، وزاد " المحب الطبرى " نقلا عن أبي محمد عبد السلام بن مزروع البصرى ، المجاور بالمدينة ، وهو من أهل القرن السابع ، أنه حذاء أحد عن يساره ، جانحا إلى ورائه
.قال " السمهودى " " وكأن ثورا سمي باسم فحل البقر ، لشبهه به ، وهو إلى الحمرة أقرب ، وقد صح بما قدمناه أن أحدا من الحرم : لأن ثورا حده من جهة الشام ، كما أن عيرا حده من جهة القبلة " ، فتبين من هذا أن ثورا في الشمال ، في جهة الشام من المدينة ، وأنه خلف أحد ، أو عن يساره ، جانحا إلى ورائه . والعادة عند اهل الجهات والجغرافيين أن يجعلوا الشرق عن اليمين والغرب عن اليسار ، فيكون الشمال قدام الواقف ، والجنوب خلفه .وعليه فغرب أحد هو يساره ، أي : في ناحية وادي إضم ومجمع الأسيال ، فجبل ثور حسب وصف من ذكرنا ينبغى أن يكون قريبا من هذه الجهة فمن رأى أنه عند مدخل وادى نعمان أو هو ( مقعد مطير ) كما يسمى اليوم - فقد أخطا لان تلك الجهة شرق أحد والمدينة وليست شمالهما ويمين احد ، وليست يساره .
وقد بحثنا خلف أحد من شماليه عن جبل تنطبق عليه الأوصاف فوجدنا أكثر من جبل فرأينا أن تعيين مثل هذا يمكن أن يعتمد فيه على أخبار ( العربان ) القاطنين في تلك الناحية لأن أهل المدينة من الحاضرة خفي عليهم ذلك ، كيف وقد سبقنا إلى الاعتماد على خبر العرب من أهل الديار الذين من عادتهم حفظ مثل هذا وتناقله : أبو محمد عبد السلام بن مزروع البصرى كما نقله عن " المحب الطبري " في الأحكام .
لذلك جرى سؤال الكبار من " ولد محمد " القاطنين في شمالي أحد ، ومن غيرهم ، ممن جاورهم فاتفقوا على جبيل صغير مدور شمالي أحد أو حذاءه من يساره ، جانحا إلى ورائه يشبه الثور ، ويقع على ضفاف وادي النَّقمىّ ويحده الوادي من الشمال وطريق الخُليل من الغرب ، يسميه العوام من ( ولد محمد ) وغيرهم جبل ( الدَقَّاقات ) ، وقد خرج إلى موقعه - لأول مرة - كل من : عمر محمد فُلاَّته ، مدير مركز خدمة السنة والسيرة النبوية بالجامعة ، والدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ : الاستاذ المشارك بقسم التفسير وعلوم القرآن بالدراسات العليا بالجامعة ، والدكتور مرزوق بن هياس الزهرانى ، وكيل مدير مركز خدمة السنة والسيرة النبوية ، والأستاذ المساعد بقسم السنة النبوية بكلية الحديث الشــريف بالجامعة ، ومعهم كل من : عبد الهادى بن حسن كابلى ، مدير مكتب الشيخ عمر محمد ، ونما بن حسين الظاهرى ، مرافق الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد واطلعوا جميعا على الجبل المذكور .
ثم في 9/5/1410 هـ خرج - مرة أخرى - كل من : عمر محمد فلاته ، وعبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ ، ومعهما : نما بن حسين الظاهري ، ومطلق بن سعيد السَّكرانيّ المحمدى ، وظافر بن مطر التميمى ، واطلعوا على الجبل ، مرة أخرى ، وجرى تعيينه .
ثم خرج - مرة ثالثة - عمر محمد فلاته ، ومعه : حماد بن محمد الأنصارى ، واطلعا على الجبل ، وقد سأل الأخ " نما " المذكور عددا من شيوخ البادية منهم : " محمد بن ضيف الله القرافي " من بنى سالم ، وكذلك سأل الشيخ خالد بن محمد النزهة ، مدير إدارة مركز خدمة السنة والسيرة النبوية " فايز بن شريدة الحويفي المحمدى " و " حضرم بن ضيف الله الحويفى " فاتفقوا كلهم على تعيين جبل ( الدقاقات ) وأنهم يعرفون خلفا عن سلف أنه هو جبل ثور ، ويسمى عندهم جبل ثور .
وأما اسم ( الدقاقات ) فطارئ عليه ، إنما أطلقه عليه العوام منهم ، بسبب أن نساءهم كن ينصبن ( مدقاتهن ) لدباغ الجلود ونحو ذلك عليه .
وذكر " مطلق بن سعيد السكراني " أنه يتذكر يوم دخول الجيش السعودى إلى المدينـــة عام 1344 هـ ، بقيادة الأمير محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ، الذى أقبل على المدينة - شرفها الله - من الشرق ، من وادي النقمي ، وكان " مطلق " يومها فتى في العاشرة من عمره ، فهو يتذكر أن " مطلق السكراني " من أمراء ( ولد محمد ) أرسل رسولا من قبله ومعه " سعيد السكراني " من عبيده ، وهو والد " مطلق " هذا يوصي المحاميد بأن يخرجوا لاستقبال الأمير محمد عند جبل ثور ، وأن يدلوه على مداخل المدينة ، وقد فعلوا ذلك واستقبلوه عند هذا الجبل ، المسمى بجبل( الدقاقات ) فهو كان ولا يزال معروفا لدى ( المحاميد ) وغيرهم من العربان بأنه جبل ثور .
وبهذا تم حسب رأي الموقعين على هذا التحقيق تعيين جبل ثور ، وأنه هو نفسه هذا الجبل الذى يسميه - اليوم - عوام المحاميد وغيرهم جبل ( الدقاقات ) وموقعه - كما أشرنا - آنفا - شمالي أحد من جهة الغرب ، ويقع على يمين الماشي في الطريق إلى الخليل ، ويحده " وادي النقمي " من شماليه و " مبنى مصلحة المجارى والصرف الصحي " من جنوبه ، وهو قريب من " بستان الصادقية " و " بستان الزبير "ومما زادنا اطمئنانا لهذا التحديد كلام ذكره " على بن موسى أفندى " كان حيا سنة 1320 هـ في كتابه " وصف المدينة " المنشور ضمن مجموعة في تاريخ المدينة عني بنشرها وتحقيقها الشيخ حمد الجاسر ، وطبعت سنة 1392 هـ ، قال في الصفحة الثلاثين ما نصه : " وأما ثور فهو في نهاية مفيض الصادقية بالجهة الشامية : جبل منقطع صغير أحمر ، وفي السبخة التي من قبليه على ما ورد في الحديث يكون نزول الأعور الدجال في آخر الزمان.
وعليه ، فيقترح الموقعون على هذا التحقيق على من يعنيهم الأمر ، من المسؤولين الكرام اعتماد هذا التحديد ، والعمل على إبراز هذا المعلم من معالم حرم المدينة النبوية - شرفها الله - وإظهاره ، حتى يعرفه الناس ، وتعرفه الأجيال القادمة .
والله الموفق والحمد الله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
كتبه بخطه عبد العزيز بن عبد الفتاح بن عبد الرحيم القارىء في الثانى عشر من جمادى الآخرة سنة 1410هـ .