الاجتهاد : تجديد وتجدد كن أول من يقيّم
شكرا أخي زين الدين ، يمكن أن يكون الحوار معك مفيدا ونافعا ، لكوني لمست في ردك الأخير نسمة ابستمية . وتلك النسمة هي التي حاولت في الملتقى الدولى أن أبرزها ، فالاجتهاد ليس مجرد استدراك لما كان وتصحيح ما ينبغي أن يكون . بل الاجتهاد هو فعل وجودي الغاية منه الخلق والإبداع . ونحن نعلم أن علماء الإسلام قسموا الشريعة إلى ثلاث دائر . دائرة القطعي ( ضيقة) دائرة الظني ( أشمل من الأولى بقليل ) ودائرة المباح ( أوسع مما نتصور) فالاجتهاد المقاصدى الذي نريده هو الذي يجتهد ضمن الدوائر ( الظنية والمباحة ) أما القطعي وهو قليل جدا لا اجتهاد معه وفيه إلا أن يكون الاجتهاد فيه اجتهاد زمن ( كما اجتهد عمر بن الخطاب عام الرماضة). إن مفهوم الثورة الاجتهادية لا يختلف من حيث المفهوم عن الثورة العلمية ، فإذا كان العلم لا يتطور ولا يتقدم بطريقة مضطردة ثابتة لا تعترف بما كان كنقطة يمكن الرجوع إليها في تصور الكلاسيكيين . فإن اليوم صار الاعتقاد أن حركة تطور العلم تأخذ خط سير مرصود من نقطة بداية المعرفة إلى نقطة نهايتها. والعلم أثناء تلك الحركة تعتريه جملة من التغيرات والتحولات لارتكازه على جملة من البارديجمات، والتي تتخذ من الماضي والمستقبل طرفي القضية معا. ** ثورية مفهوم الاجتهاد والتجديد إن مفهوم التجديد يحمل عدة دلالات في اللغة العربية، فهو الجديد الذي يقابل التليد فيحمل معنى الخروج عن المألوف ، وبالتالي يحمل في السياق ذاته عدة معاني متنوعة، فقد يفيد الأمر الغريب إذ كان الجديد ليس له أصول في بيئته، وقد يفيد العجيب إذا كان من ذات البيئة لكنه حَمل إليهم جديدا غير معلوم، وغالبا ما يرتبط العجيب بما هو وجداني وعرفاني. وقد يحمل معنى الحداثة إذا كان الغرض منه وضع حد لسيطرة العتيق . فالحداثة التي أفرزتها الفلسفة الغربية المعاصرة في منتصف القرن المنصرم فُهمت لدى الفكر العربي المعاصر على أنها ضد الأصالة ، ومن هنا لم يتقبلها المجتمع العربي من منطلق كونها ضد هويته . لكن أعتقد أن الحداثة في العالم العربي لو قدمت على أنها ضد العتاقة لأدت دورها بامتياز داخل تراث يعاني من سيطرة العتاقة وعبق الشرق القديم. إن الحداثة هي محاولة تمثل العتيق تمثلا زمانيا من أجل وضع قطيعة معه، ووضع العتيق في مقام التاريخ لا في مقام السلوك والاعتقاد . إن المشهد اليومي للإنسان لا يسمح له اليوم بتمثل العتيق لعدم تعبيره عن هويته حتى على المستوى التاريخي فما بالك بالمستوى الأنطولوجي. ومن جهة أخرى فالعتيق هو الجانب الميت من جسد التراث، ونحن في هذا المقام نريد أن نوجه مفهوم الحداثة كمحاولة للتجديد ضمن الفكر الإسلامي من أجل التحرر من العتاقة التي تسيطر على أنماط السلوك والتفكير. والجديد يعنى الراهن ، والراهن هو ماهية الإنسان ، لأني في الحقيقة ما شرعت في أن أكون ( إن أبنائكم خلقوا لزمن غير زمنكم فلا تلزموهم بما ألزمتم به أنفسكم) ، وهي دعوة من عمر بن الخطاب لإعطاء كل جيل حقه في الوجود، فلكل جيل تاريخ ووجود مستقل من حيث الراهن عن تاريخ ووجود الجيل السابق ( لا ننفي التواصل والالتزام بالمبادئ المشتركة لكل الأجيال) . فالراهن يفرض على كل جيل أن يضع بصماته على التاريخ عن طريق تحديث ما اكتسبه بالوراثة الاجتماعية وما اكتسبه بالخبرة الوجودية . والجديد هو الإصلاح ، الذي يحاول إعادة الأصيل إلى طبعه الأول ، وذاك من خلاله رفض العارض والشوائب والدخيل .. والإصلاح هو محاول اكتشاف الخلل وطبيعته من أجل إعادته إصلاحه ورده إلى صورته الأولى، يقول أبو يعرب المرزوقي: "الإصلاح فعل نقدي ملازم لفعل الوجود ذاته وليس هو مرحلة من مراحله. ذلك أن الفعل الإنساني لمجرد كونه إنسانيا لا يحصل حتى في أقصى درجات اللاوعي الفردي والجمعي إلا وفيه قدر معلوم من رؤية الفعل السابقة والمصاحبة واللاحقة لحدوث الفعل نفسه، أعني ما يميزه عن مجرد الحركة الطبيعية. وهذه الرؤية السابقة والمصاحبة واللاحقة هي التعديل الذاتي الدائم للفعل الإنساني خلال حصوله وليس فقط بعده." والجديد هو ثورة على القديم والمألوف من أجل خلق جو ثقافي واجتماعي متحرر من سلبيات ما كان .. وعندئذ تصبح كل ثورة هي محاولة تغيير جذري لوضع تاريخي سابق اتسم بالركود والاستكانة للسلف أو القيم العتيقة. ومن حيث اللعبة اللغوية ، يصبح الاجتهاد مرادف للجهاد ترادف تطابق لوحدة الغاية ، والتي تكمن في التغيير والثورة على الاستكانة التاريخية والاستقالة الحضارية، فالجهاد الغاية منه تغير وضع سائد ينتج المفاسد ويلحق الأضرار. والاجتهاد من حيث العمق هو محاولة الثورة على مكامن الخلل ضمن المنظومة السلوكية والفكرية . ولهذا السبب لا نتفق مع أبي يعرب المرزوقي حين عرف الاجتهاد على أنه إصلاح .... والفرق يكمن في مفهوم الإصلاح نفسه، الذي يعتمد على ما هو قائم ويحاول إصلاحه وبين التجديد الذي هو خلق وابتكار. ونلاحظ أن دعاة التجديد الجُدد تجاوزوا مفهوم الإصلاح لصالح مفهوم التطوير والتجديد، أي أن المحاولات الفكرية المعاصرة لا تبحث في كيفية تحقيق الإصلاح، باعتباره هدفا مباشرا لطموحها، بل نجدها تنصب على محاولة فهم الإسلام بهدف صياغة أو إعادة صياغة مشروعه الحضاري بلغة عالمية معاصرة وبمفاهيم علمية معاصرة تهدف للحداثة والمعاصرة وفق قيم الأصالة. والجديد يعنى الانقلاب من أجل إعادة ترتيب الأشياء والأفكار ضمن أنساق جديدة تعطي للإنسان حقه في ممارسة الاستخلاف. ومن خلال كل المفاهيم المطروحة يمكن القول أن الاجتهاد من حيث الجوهر هو كل تجديد يهدف لوضع الذات ضمن فضاءات الكينونة والشاهدية. كما أن المفهوم من الوجهة الأصولية يحمل بعض الدلالات المشار إليها أعلاه ، ومن ذالك أن الاجتهاد عندما يُقرن بالتجديد فهو يؤدي وظيفة بعض المصطلحات التقليدية كإحياء الدين وإحياء العقل وإحياء النص ... لكنه يعود إلى نفي تلك المعاني لما يُربط الاجتهاد بمفهوم إتباع السنة، إتباع السلف... فالإتباع المطلق ضد التجديد وبالتالي ضد الاجتهاد.( الإتباع المطلق فساد مطلق) وعليه نحن بحاجة إلى براديجم اجتهادي يشبه ابن تيمية في زمنه ، والعز بن عبد السلام ، ومحمد عبده، وإقبال ، وابن باديس ، والطاهر بن هاشور، وطارق رمضان ... أما الجنايات الخمس ليست بسب أصحابها بل الجنايات نحن من حولها تاريخيا إلى جناية، فابن خلدون على سبيل المثال كان ضد التقليد وضد مركزية العالم التاريخية ، لكنه تحول هو ذاته إلى ما كان يُحذر منه .. فالجناية فعل تاريخي وليس بفعل معرفي.
|