البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1    كن أول من يقيّم
 د يحيى 
15 - فبراير - 2008
 
المحاضرات في اللغة والأدب
اليوسي
أجل آثار اليوسي التي تنيف على أربعين أثراً أدبياً ما بين رسالة وكتاب. وهي في كثير من فصولها أشبه بالرحلة، سجل فيها اليوسي تنقلاته ومشاهداته في بلاد المصامدة عام 1095هـ الموافق 1684م قال الشيخ عبد الحي الكتاني: (وكتابه المحاضرات عجيب في بابه، غريب في ترتيبه وأسلوبه، وكأنه في ترجمة نفسه، ألفه بسبب ما كان وقع بينه وبين عبد الرحمن بن عبد القادر الفارسي رحمهم الله لما افتتح التفسير بالقرويين)
 
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل من سماء رحمته غيثاً نافعاً، فأنبت به في قلوب عباده زهراً ناضراً وثمراً يانعاً.
زهر من العلم والعرفان مـؤتـلـق            في الطرس والنفس يستهدي بألـوان
وثمر يجـتـنـيه الأذكـياء بـتـش              مير ولا يجتنيه الـفـدم والـوانـي
للـه در كـرام فـاو فـائزهـــم          قدْماً بحلب درور منـه مـلْـبـان
وبابتنـاء مـبـان مـنـه سـامـية               لا يبتني مثلها في دهره الـبـانـي
هذا هو المجد في الدارين والشرف ال              محض الذي ما به في فضـل ثـان
"فاعكف عليه" مع الآناء مـعـتـنـياً         ولا يكن لك عن تـطـلابـه ثـان
واعلم بأنك لن تحظى بـصـهْـوتـه           حتى تجوز المدى في كـل مـيدان
ما لم تسنح علـيه كـلـمـا شـجـر             يرجى الجني منه أرضي وعَبْـدان
وتبذل النفس بعد المـال مـطـرحـاً           لكـل تـرفـيه أرواح وأبـــدان
وتغتـرب بـرهة فـي كـل آلـفة                من ذات قربى وأوطـان وإخـوان
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد ينبوع الأحكام والحكم، ومجموع شيم الفضائل وفضائل الشيم، وعلى آله ذوي المجد والكرم، وصحبه بحور العلوم ونجوم الظلم.
أما بعد، فإن الدهر أبو العجائب، وينبوع الغرائب، وفي المثل: الدهر حبلى لا يدري ما تلد، وقال الشاعر:
والليالي كما علمت حبالى            مقْرِبات يلدن كل عجيبه
 وقال طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً              ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وإن للعاقل على مرور الجديدين علماً جديداً حيث انتهى فهمه كما له عيش حيث تهدي ساقه قدمه وكنت قلت في نحو ذلك:
أراني حـيثـمـا أخـطُ           أجد ما لـم أجـد قـطُّ
وإن الدهر حبلـى كُـلّ         ما حين لـه سـقـط
لقد سـايرتـه طـفـلاً           إلى أن مسنـي وخـط
فلـم ينـفـك يشـتــد             على المرء ويشـتـط
ولم يأل إذا استـعـلـى         يوم الهون أو يسـطـو
له فـي كـل إذن مـن           بنـي أبـنـائه قـرط
وفـي كـل قـذال وس          مة بالنـار أو شـرط
وقد يحنـو ويسـتـأنـي        وقد يحبو لمن يعطـو
سمـاء ديمة تـأتـــي           بزهر زهرها رُقـط
فحمـر ومـصـفـر              وموفـور ومُـنْـقَـطُّ
ومـجـدود ومـحـروم          ومستعمل ومـنـحـط
ومـنـقـاد ومـعـوج            وكز الخلق أو سـبـط
قضاء مـبـرم مـمـن           إليه الحـل والـربـط
إلـهٌ أمـره الأمـــر             ومنه الرفع والـحـط
ومنه اليسر والـعـسـر                ومنه القبض والبسـط
له فـي كـلِّ مــا يومٍ           شؤون منه تـخـتـط
وذو الفهـم لـه عـلـم          جديد حيثمـا يخـطـو
ففكر واعتبـر تـعـلـم          علوماً دونها الضـبـط
وتدرك غير ما في الصح             ف يوماً خلد الـخـط
وسلم وأرض بالمـقـدو               ر لا يذهب بك السخط
ولا تبرم إذا الـمـولـى        يشدّ الحبل أو يمـطـو
فما ترجو من الرضـوا               ن أنْ تَرْضَى له شرط
 3  4  5  6 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه43     كن أول من يقيّم
 
ثم لما كانت الشهوتان أعني الأكل والنكاح لا تحصلان إلا من مادة وهي المال وبه يحصل المأكول، والنساء وبهن يحصل النكاح المؤدي إلى التناسل المذكور، والنساء لا يحصلن إلاّ بالمال أيضاً، طبع الله فيه حب المال وحب النساء وكل ما يستعان به في ذلك الباب من صحة وقدرة وجاه، وذلك هو مجموع الدنيا، فكانت الدنيا محبوبة طبعاً للحكمة المذكورة، وكان ميل النفس إلى سيئ من هذه المحبوبات بمقتضى الشهوتين المذكورتين، وهو المعبر عنه الهوى طبعاً في الإنسان، وكل ذلك في أصله رحمة من الله تعالى للإنسان كما ترى، إذ لولا ذلك لم يستمر له وجود.
ثم جعل الله تعالى العبد متأثراً بالعوارض في بدنه وفي ماله وفي حريمه ونحو ذلك فافتقر إلى احتماء عن ذلك ودفاع فطبع فيه الغضب وهو أيضاً رحمة منه تعالى، إذ لولا هو لم ينتهض للدفع عن نفسه ولا حريمه ولا ماله ولا جاره ولا غير ذلك ولا لتغيير منكر ولا نحو ذلك.
ثم إن النفس لما كان فيها ذلك طبعاً استعدت لأن تتقاضاه من كل وجه "طلباً" لحصول المرام على التمام فتأكل مثلاً وتبالغ ولا تقتصر على القدر المحتاج، ولا تتنزه عن الزائد المضر، وتشرب كذلك وتنكح، ثم لا تبالي من أي وجه حصل ذلك أمن مأذون فيه أم محرم، لأن سعيها طبعي لا شرعي، وكذا في غضبها ودفاعها، فمتى تركت وذلك أضرت بالعبد عاجلاً بحصول الأمراض وإتلاف الأموال في الشهوات وانتهاك الأعراض والمروءات وكثرة اللجاج والعدوان والهلاك والبوار، وآجلاً بالتعريض لطول الحساب، وأليم العقاب، عند وجوب التكليف، وهذه هي المضرة المنسوبة للنفس، فخلق الله تعالى العقل ليكون محتسباً عليها حتى تكون فيما ذكر من الشهوة والغضب تابعة لإشارة العقل أخذاً وتركاً، وأودع الله تعالى في العقل إدراك المصالح والمفاسد والمنافع والمضار حتى يعلم ما يشير به أمراً ونهياً ليجري الأمر على السداد، فلا يقع قصور عن المراد، ولا التعدي إلى ما يوجب الفساد.
ثم لما كان العقل أيضاً معرضاً للخطأ وللقصور عن كثير من المصالح وللجهل بكثير من المدارك ولا سيما المغيبات لأن النقصان شأن المخلوق افتقر هو أيضاً إلى مؤيد إما إلهام من الله تعالى وإما عقل آخر أكمل كما في حال التربية وتلقين الحكمة، وإمّا وحي سماوي وهو أكمل، فأنزلت الأحكام إليها عند أهل الحق لا إلى العقل فصار العقل مؤيداً للشرع ومتأيداً به.
 ثم إن إبليس اللعين عندما وقع له من الخزي والطرد مع صفي الله آدم عليه السلام ما وقع صار عدواً له حسوداً حقوداً وكذا لذريته إلى يوم القيامة، قال تعالى: (يَا آدَمُ إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) وقال تعالى: "(إنَّ الشَيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) وقال تعالى: (إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)" وقال تعالى: (إنَّ الشَيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) إلى غير ذلك. فكان دأبه السعي في مضرة الآدمي كما يسعى كل عدو في مضرة عدوه، ولم يجد إلى مضرته سبيلاً أيسر ولا سبباً أنجح من أن يأتيه من قبل النفس وطريق الطبع فيزين له ما طبع من الشهوات، ويسوّل له كل قبيح، قال تعالى: (الشَيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشاءِ) فحصل اتفاق بين النفس والشيطان على مضرة الآدمي، غير أن المقصد مختلف، فإن النفس لم تكن منها المضرة عن قصد وعداوة، كيف ولا أحب إلى كل أحد من نفسه؟ بل جهلاً وغلطاً، وذلك أنها أدركت ما في طبعها من الشهوات الحاضرة فاستحسنته، وظنت أن ذلك هو كمال صاحبها إذا ناله، فجاء الشيطان فأغراها مما استحسنت، وزين لها ما ظنت، فاعتقدته نصيحاً، واتخذته خليلاً، تلبي دعوته، وتجيب رغبته، فأتيَ الإنسان منها، وتمكن منه عدوُّه من طريقها، فصارت من هذه الوجه عدوة بل أكبر الأعداء.
وأما الشيطان لعنه الله فهو يفعل ما يفعل عن عداوة وقصد إضرار، فإنه لما خاب من رحمة الله وطرد عن بابه، نسأل الله العافية، أراد أن يسعى في خيبة الآدمي وبعده عن الله وحرمانه من نعيم الجنة باتباع الدنيا وغرورها والإكباب على شهواتها.
*د يحيى
17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 44    كن أول من يقيّم
 
واعلم أن الشيطان لشدة عداوته للإنسان ليس له غرض في اتباع الإنسان للشهوات وتمتعه باللذات، بل لو أمكنه أن يسعى في حرمانه دائماً فلا ينال لذة عاجلة ولا آجلة، ولا يحصل على منفعة في الدنيا ولا في الآخرة لكان ذلك هو منيته ورغبته، وهو مقتضى العداوة وثمرة الحسد، إلاّ أنه لما لم يمكنه ذلك لفرضان رحمة الله على عباده وسبوغ نعمه عليهم رأى أن يرتكب به أعظم الضررين فيستزلّه عن أعظم الحظين بل الحظ الذي هو الحظ، وهو الأخروي، ويستهويه إلى الحظ الدنيوي، ورأى أنه إذا خاب عن النفيس الباقي واستبدله بالخسيس الفاني فقد خاب، والأمر كذلك. فإن ما في الدنيا لو كان نفيساً وهو بصدد الانقطاع لم يلتفت إليه، فكيف وهو مع ذلك خسيس "مشوب" متكدر. بل لو كان نعيم الآخرة النفيس ينقطع لوجب أن يلتفت إليه، إذ النفس إنما تجد النعمة ما دامت متناولة لها، فإذا انقطعت عنها تكدرت كالصبي الراضع متى صرف الثدي عن فيه صاح.
وما مثال النفس في ذلك إلاّ مثال المرأة في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنّهُنَّ يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَإنَّكَ لَوْ أحْسَنْتَ إلى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأتْ مِنْكَ شَيْئاً قَالَتْ مَا رَأيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطُّ". فقد تحصل من هذا أن النفس مضرة بالإنسان من وجهين: أحدهما "أنها" تميل طبعاً إلى الشهوات وتخلد إلى الرعونات، الثاني أنها مسلك الشيطان إلى الإنسان كما مرّ، وإن الشيطان مضر للإنسان أبداً بوسوسته وتزيينه للنفس.
وهذه كلها أسباب جعلية اقتضتها الحكمة، والنافع والضار بالحقيقة هو الله تعالى، وتبين أن النفس تابعة للشيطان في مضرة الإنسان سفهاً منها وغلطاً، لا عداوة، ولسان حالها ينشد قول القائل:
وخلتهم سهاماً صـائبـات             فكانوها ولكن في فؤادي
الخاطر النفساني والخاطر الشيطاني
ومن أجل ما ذكرنا بين النفس والشيطان من اختلاف الوجه، وتباين المقصد فرق أئمة التصوف رضوان الله عليهم بين الخاطر النفساني والخاطر الشيطاني بعد اشتراكهما في الحض على السوء في الجملة، وهو أن الخاطر إذا تقاضى معصية مثلاً بعينها فإن أصر على ذلك فهو نفساني، وإن جعل يتحول من معصية إلى أخرى فهو شيطاني، ووجه ذلك أن النفس إنما تطلب المعصية بمقتضى طبعها فيها من حيث أنها شهوة لا غير، فلا تريد أن تنفك عنها حتى تنالها بعينها.
وأما الشيطان فليس طلبه من الإنسان أن ينال شهوة ومتعة من حيث التنعم بها فإنه عدو، بل من حيث إنها معصية موجبة للعقاب، فمتى دعاه إلى واحدة وتعسرت أو تلكأ عليه فيها دعاه إلى أخرى لقيامها مقامها في المقصود، وهو حصول الإثم واستحقاق النار، نعوذ بالله تعالى من شره.
*د يحيى
17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 45    كن أول من يقيّم
 
  لله الأمر من قبل ومن بعد
الحقيقة والشريعة
خطر لي ذات ليلة بيت للملك الضليل امرئ القيس بن حجر فوجدته قد احتوى على مقتضى الشريعة الظاهرة والباطنة، وتضمن كل ما تحصل عن دواوين أئمة الدين وأقاويل الصوفية، فقضيت العجب من ذلك، وعلمت أن الله تعالى من باهر قدرته وعجيب حكمته يبرز الحكمة على لسان من شاء وإن لم يكن من أهلها، كما قال بعض السلف حين سمع بعض الولاة نطق بحكمة: خذوها من قلب خَرِبٍ، وتبينت إشارة قوله صلى الله عليه وسلم: "الحِكْمَةُ ضَالّةُ المُؤْمِنِ" أي فحقه أن يتلقفها ممن وجدها عنده، وإن لم يكن مرضياً كما يأخذ ضالته من الدنيا كذلك، وتبينت صدق قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً"، وقول الحكماء الأولين: أنزلت الحكمة على ثلاثة أعضاء في الجسد: على قلوب اليونان، وأيدي أهل الصين، وألسنة العرب، والبيت المذكور هو قوله:
الله أنجح ما طلبـت بـه               والبر خير حقيبة الرحل
فالشطر الأول قد احتوى على الحقيقة كلها، وهي باطن الشريعة، فإن معناه أن ما طلبته بالله فأنت منجح فيه. وهو كما قال في "الحكم العطائية": "ما تعسر مطلب أنت طالبه بنفسك" ومعلوم أنك لست تروم ذلك إلاّ وأنت تعرف الله تعالى وأنه حق لا شريك له، وأنه هو الفاعل المدبر النافع الضار، ثم تنفي عن نفسك وعن حولها وقوتها وتدبيرها واختيارها وتبغي بربك. وهذا هو سر العبودية، وهو الكنز الذي يحوم حوله المريدون، ويعنو إليه السالكون، وهو المشار إليه في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنّةِ"، وهذا هو كلية الأمر، ولا حاجة إلى التطويل. والشطر الثاني قد تضمن الشريعة كلها، وهي ان البر خير ما تحمَّله العبد وادخره، أي والفجور شر ما تحمَّله، ويدخل في البرِّ برُّ العبد مع ربه بطاعته له قولاً وفعلاً واعتقاداً، وكذا مع من أوجب الله تعالى طاعته من نبي وأمير ومالك ووالد ونحوهم، وبره مع الناس بالإحسان فعلاً وقولاً وخلقاً، وهو مجموع ما يطلب شرعاً ولا حاجة إلى التطويل.
لله الأمر من قبل ومن بعد
أبيات الحكمة والتمثيل
واعلم أن البيت قد اشتمل على مثلثين مستقلين كما رأيت، فرأيت أن أستطرد هنا من أبيات الحكمة والتمثيل نبذة صالحة يقع بها الإمتاع، ويحصل الانتفاع، فمن ذلك قول لبيد:
ألا كلُّ شَيءٍ ما خَلا اللهَ بَاطِلُ        وكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحـالَةَ زَائِلُ
واعلم أن هذا البيت مع كونه في غاية الحكمة وكونه قد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك كما ورد في الحديث: "أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشّاعِرُ قَوْلَ لَبِيدٍ: ألا كلُّ شَيءٍ ما خَلا.... البيت"، يسأل عنه فيقال مثلاً في المصراع الأول: إن معرفة الله تعالى وشرعه ودينه وأنبياءه ونحو ذلك داخل فيما جعله باطلاً وليس بباطل، وفي الثاني: إن نعيم الآخرة غير زائل فيلزم انتقاض الكليتين.
والجواب عن الأول من وجهين: أحدهما أن المراد ما سوى الله تعالى وما انضاف إليه، كما وقع في الحديث: "الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُون مَا فِيهَا إلاَّ ذِكْرُ اللهِ وَمَا وَالاهُ وَعَالِمٌ أوْ مُتَعَلِّمٌ" وهذا واضح، فإن صفات الله تعالى لا تدخل في الباطل لانضيافها إلى الذات وشمول الاسم لها، فكذلك كل مُنضاف.
الثاني أن هذا كلام في الحقائق، ولا شك أن الله تعالى هو قديم واجب الوجود، فهو حق ثابت، والعالم كله محدث، فهو باطل لا ثبوت له من ذاته لكن بإثبات الله تعالى، وهذا الوجه أيضاً واضح لا شبهة فيه، والموجودات كلها متى اعتبرت إضافتها وتعلقها بالله تعالى كانت حقاً به، وهي باطلة بحسب ذاتها ومنها ما هو حق باعتبارين أعني بهذا التعلق وبإثبات الله له شرعاً كما في الوجه الأول، وهو مع ذلك باعتبار ذاته، ولا تنافي في شيء من ذلك، فافهم.
*د يحيى
17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 46    كن أول من يقيّم
 
والجواب عن الثاني ثلاثة أوجه: الأول أن المراد نعيم الدنيا، لأنه هو المعروف الشاهد، لا سيما في حق هذا القائل، فإنه كان حين قوله ذلك جاهلياً، لا ذكر للآخرة عنده، فإن قيل: من لك بأنه إذ ذاك جاهليّ؟ ولعله قال هذا بعد الإسلام، قلت: قد استفاض في شأنه أنه لم يقل بعد الإسلام إلاّ بيتاً واحداً، وهو قوله:  
        الحمد لله إذ لم يأتنـي أجـلـي         حتى لبست من الإسلام سربالا
على أنه لو كان بعد الإسلام لكان إرادة الدنيوي في غاية الوضوح، إذ المراد تهوين أمر الدنيا والتنفير عنها والتزهيد فيها كما وقع ذلك في كلام كثير من أهل الإسلام. الثاني أن يكون أيضاً كلاماً في الحقائق، فإن النعيم كله ممكن حادث، فهو بصدد الزوال والفناء فعلاً أو قوة، وما بقي منه إنما بقي بإبقاء الله تعالى لا بذاته.
الثالث أن يراد أن كل نعيم ناله العبد وتنعم به فهو زائل عنه قطعاً بالشخص، وإنما تتجدد أمثاله، وهذا قدر مشترك بين الدنيوي والأخروي، قال النبي صلى الله عليه وسلم في متاع الدنيا: "وَإنَّمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ مَا أكَلْتَ فَأفْنَيْتَ، أوْ لَبِسْتَ فَأبْلَيْتَ، أوْ تَصَدَّقْتَ فَأمْضَيْتَ". وقال تعالى في نعيم الآخرة: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ). وقول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جـوازيه             لا يذهب العُرْفُ بين الله والناس
وقول طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً              ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وكان صلى الله عليه وسلم ينشده أحياناً استحساناً فيقول: ويأتيك من لم تزوده بالأخبار، ويقول: "هُمَا سَوَاءٌ" أي التركيبان، يعني في المعنى، فيقول أبو بكر رضي الله عنه: أشهد أنك رسول الله، قال تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ) وقول النابغة:
ولست بمستبـقٍ أخـاً لا تَـلُـمُّـهُ               على شعثٍ، أي الرجالِ المهذب ؟
وقول امرئ القيس:
وإنك لم يفخر عليكَ كفـاخـر          ضعيف ولم يغلبْك مثل مغلَّبِ
"وأخذه أبو تمام فقال:
وضعيفة فإذا أصابت قـدرة           قتلت، كذلك قدرة الضعفاء
البيت من قصيدته التي مطلعها:
قدك اتئب أربيت في الغلواء         كم تعذلون وأنتم سجرائي
والبيت شحره التبريزي بقوله: يقول: "الخمر على شدتها ضعيفة ليس لها بطش، فإذا أكثرت منها قتلت". وقوله: "كذلك قدرة الضعفاء يعني أن الضعيف يعمل الشيء بفرق فهو لا يبقي مخافة أن يعطف عليه فلا يكون له فضل في المقاومة".
وقول زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه              يَفِرْهُ ومن لا يتق الشـتـم يشـتـم
وأخوات هذا البيت في ميميته مثله، وهي مشهورة لا نطيل بها.
غيره:
لذي الحلم قبْلَ ما تُقرَعُ العصا               وما عُلَّمَ الإنْسانُ إلاّ ليعلمـا
وقوله:
قليلُ المال تصلحهُ فيبقـى            ولا يبقى الكثير مع الفساد
غيره:
العبد يقرع بالعـصـا           والحرّ تكفيه الملامه
وقول عبد الله بن معاوية:
فعين الرضا عن كل عيب كلـيلةٌ             ولكن عين السخط تبدي المساويا
وقول القُطامي:
قد يدرك المتأني بعض حاجتـه               وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقوله:
والناس من يلق خيراً قائلون لـه            ما يشتهي، ولأمِّ المخطئ الهَبَلُ
وسبقه إلى الأول عدي بن زيد في قوله:
قد يدرك المبطئ مـن حـظـه          والخير قد يسبق جهد الحريص
*د يحيى
17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 47    كن أول من يقيّم
 
وقول عمرو بن براقة:
فما هداك إلى أرضٍ كعالمها         ولا أعانك في عزم كعزام
وقول عبد الله بن همام:
وساع مع السلطان ليس بحارس            ومحترس من مثله وهو حارس
وقول عبيد بن الأبرص:
الخير يبقى وإن طال الزمان بـه             والشر أخبث ما أوعيت في زاد
وقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ربّ حلم أضاعه عدم المـا            ل وجهل غطى عليه النعيم
وزعموا أن حسان بينما هو في أُطُمِه، وذلك في الجاهلية، إذ قام في جوف الليل فصاح: يا للخزرج فجاءوا وقد فزعوا، فقالوا: ما لك يا ابن الفريعة فقال: بيت قلته فخفت أن أموت قبل أن أصبح فيذهب ضيعة، خذوه عني، فقالوا: وما قلت؟ فأنشد البيت المذكور.
وقول أبي ذؤيب:
والنفس راغبة إذا رغبتها           وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقول زهير:
وهل ينبت الخطِّيُّ إلاّ وشيجه                وتغرس إلاّ في منابتها النخل
غيره:
أرى كل عود نابتاً في أرومةٍ                أبى منبت العيدان أن يتغيّرا
وقول بشار:
تأتي المقيمَ وما سعى حـاجـاتُـه             عددَ الحصا ويخيب سعي الطالب
غيره:  
 متى ما تقد بالباطل الحقّ يَأبَـهُ             وإن قدت بالحقِّ الرواسي تنقد
وقول عبيد:
من يسأل الناس يحرموه             وسائل اللهِ لا يخـيب
غيره:
يفرّ جبان القوم عن أُمِّ نـفـسـهِ              ويحمي شجاع القومِ من لا يناسبه
"ويرزق معروف الجـواد عـدُّوه             ويُحرَمُ معروفَ البخيلِ أقاربُـه"
فهذا كله ونحوه مشتمل على مثلين كبيت امرئ القيس، وقد يكون مثلاً واحداً لقول طرفة:
رأيت القوافي يتَّلِجْنَ موالجـاً        تضايق عنها أن توالجها الإبر
"وهو معنى قول الأخطل: والقول ينفذُ ما لا تنفذ الإبر".
وقول علقمة:
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله            فليس له في ودهن نـصـيب
وهو لامرئ القيس في قوله:
أراهن لا يحببن من قل مـالـه                ولا من رأين الشيب فيه وقوسا
ومنه قول الأعشى:
وأرى الغواني لا يواصلن امرءاً            فقد الشباب وقد يصلن الأمردا
وقول أبي تمام:
أشهى الرجال من النّساء مواقعاً            من كان أشبههم بهنّ خـدودا
وقول علقمة بن عبدة:
وكل قوم وإن عزوا وإن كثروا              عديدهم بأثافي الدهر مرجوم
وكل حصن وإن طالت سلامته               على دعائمه لا بدّ مـهـدوم
وقول الآخر:
"وما رزق الإنسان مـثـل مـنـية             أراحت من الدنيا ولم تُخزِ في القبر"
*د يحيى
17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 48    كن أول من يقيّم
 
وقول ابن حازم:
لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها          من الشباب بيوم واحد بدل
ومثله قول منصور النمري:
ما كنت أوفي شبابي حق غرته              حتى مضى فإذا الدنيا له تبـع
وقول امرئ القيس:
إذا المرء لم يخزن عليه لـسـانـه            فليس شيء سواهُ بخزّان ونحـوه:
إذا ضاق صدر المرء عن كتم سره          فصدر الذي يُستودعُ السر أضـيق
وقوله:
إذا جاوز الاثنين سرّ فإنّـه           يبثُّ وإفشاء الحديث قمين
وقد قيل: الاثنان هنا الشفتان، وقول طرفة:
وإن لسان المرء ما لم يكن له               حَصَاةٌ على عوراته لدلـيل
الحصاة: العقل وهو إشارة إلى قول الحكماء: لسان العاقل من وراء عقله، ولسان الأحمق على العكس، وقول الخنساء رحمها الله:
ولولا كثرة الباكين حولـي            على إخوانهم لقتلت نفسي
وقول الآخر:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد               إليه بوجه آخر الدهـر تُـقْـبِـل
وغيره:
وظلم ذوي القربى أشد مـضـاضة           على المرء من وقع الحسام المهند
غيره:
إذا لم تعرض عن الجهل والخنا             أصبت حليماً أو اصابك جاهل
غيره:
كل امرئ راجع يوماً لشيمته                وإن تخلق أخلاقاً إلى حين
ونحوه:
ومن يبتدع ما ليس من سُوس نفسه        يدعْه ويغلبْه على النفس خِيمُهـا
السوس والخيم: الطبيعة.
ونحوه:
إنّ التخلّق يأتي دونه الخُلُقُ
وقد يكون المثل جزءاً لبيت كهذا، ونحوه للنابغة:
حلفت فلم أترك لنفسـك ريبة         وليس وراء الله للمرء مطلب
وقوله:
لمبلغك الواشي أغش وأكذب
وقول دريد:
متبذلاً تبدو مـحـاسـنـه               يضع الهِناءَ مواضع النقبِ
وقول الصَّلَتان العَبْدي:
نروح ونغدو لـحـاجـاتـنـا             وحاجات من عاش لا تنقضي
وقول الآخر:
تدس إلى العطار سلـعة بـيتـهـا              وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
وقول زهير:
لهم في الذاهبين أروم صدق         وكان لكل ذي حسب أروم
وقوله:
كذلك خيمهم ولكل قـوم              إذا مستهم الضراء خِيم
وقول الآخر:
تسائل عن حصين كلّ ركب          وعند جُهَيْنَةَ الخبرَ اليقين
وهذه الأنواع لا يأتي عليها الحصر، وإنما أردنا بعضاً من مختار ذلك ومشهوره، وما تركناه أكثر، وقد يشتمل البيت على ثلاثة أمثال أو أربعة، وهو قليل بالنسبة إلى غيره، فمن غير ذلك قول زهير:
وفي الحلم إذعان وفي العـفـو دُربة         وفي الصدق منجاة من الشر فاصدق
غيره:
العلم يجلو العمى، والجهل مهلكة           واللاعب الرفل الأذيال مكذوب
وقول صالح:
كل آت لا بد آت وذو الجـه           ل معنى والهم والغم فضل
وقولي من قصيدة:
فلا تهتبل للحادثـات ولا تـثـق                بما وهبت يوماً فموهوبها معرى
 مقربها مقصى ومرفوعها لقىً             ومنهلها مظما ومكسوها معرى
وقولي فيها:
وإن أبصروا بالمملق اهـتـزأوا بـه          ومدوا إليه طرفهم نـظـراً شـزرا
وقالوا بغيض إن نـأى ومـتـى دنـا           يقولون ثقيل مبرم "أدبر الـفـقـرا"
*د يحيى
17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 49    كن أول من يقيّم
 
فإن غاب لم يفقد، وإن عـلّ لـم يعـد         وإن مات لم يشهد، وإن ضاف لم يقرا
وهذا الباب لا ينحصر، وقد أودعنا منه "كتاب الأمثال والحكم" قدراً صالحاً، ولنقتصر على هذا القدر هنا خوفاً من الملل.
لله الأمر من قبل ومن بعد
روايات المؤلف عن محمد الحاج الدلائي
حدثني الرئيس الأجلّ أبو عبد الله محمد الحاج بن محمد بن أبي بكر الدلائي رحمه الله قال: لما نزلنا في طلعتنا إلى الحجاز بمصر المحروسة خرج للقائنا الفقيه النبيه أبو العباس أحمد بن محمد المقري قال: وكنت أعرفه عند والدي لم يشب، فوجدته قد شاب، فقلت له: شبت يا سيدي فاستضحك ثم قال:
شيبتني غرنـدل ويحـار               وبحار فيها اللبيب يحار
قال: وحدث أنهم كانوا ركبوا بحر سويس فهال بهم مدة من نحو ستة أشهر، وهم يدورون دوراناً، وأنه ألف في تلك المدة موضوعاً في علم الهيئة وسارت به البركان، فلما خرج من البحر وتصفحه وجد فيه الخطأ الفاحش، وقد فات تداركه، وذلك مما وقع له من الهول. قال: وإذا هو قد خرج معه برجل ضرير البصر فقال: هذا الضرير من أعاجيب الزمان في بديهة الشعرِ، فألقِ عليه أي بيت شئت يأت عليه ارتجالاً بما شئت من الشعر، ثم عهْدُه به أن يقوله فلا يبقى شيء منه في حفظه، فأتيتكم به لتشاهدوا من عجائب هذه البلاد ونوادرها وتذهبوا بخبر ذلك إلى بلادكم قال: فاقترحوا مني بيتاً يقول عليه، فحضر في لساني بيت ابن الفارض:
سائقَ الأظعان يطـوي الـبِـيدَ         مسرعاً عرِّج على كثبان طيْ
قال: فذكرته فاندفع على هذا الروي مع صعوبته حتى أتى بنحو مائة بيت ارتجالاً.
قلت وهذا غريب، فإن هذا القدر كله يعز وقوعه من العرب المطبوعين فكيف بالمولدين؟ فكيف بآخر الزمان الذي غلبت فيه العجمة على الألسن؟ ولكن رب الأولين والآخرين واحد، تبارك الله أحسن الخالقين! وحدثني أن الفقيه أبا العباس المذكور كان أيام مقامه بمصر قد اتخذ رجلاً عنده بنفقته وكسوته وما يحتاج على أن يكون كلما أصبح ذهب يقتري البلد أسواقاً ومساجد ورحاباً وأزقة، وكل ما رأى من أمر واقع أو سمع يُريحُه عليه بالليل فيقصه عليه.
قلت: وهذا اعتناء الأخبار والنوادر والتواريخ.
وقد كان نحو هذا لشيخ مشايخنا أبي عبد الله محمد العربي ابن أبي المحاسن يوسف الفاسي، فكان من دأبه أنه متى لقي إنساناً يسأله من أي بلد هو؟ فإذا أخبره قال: من عندكم من أهل العلم؟ من عندكم من أهل الصلاح؟ ومن الأعيان؟ فإذا أخبره بشيء من ذلك كله سجله، وهذا الاعتناء بالأخبار والوقائع والمساند ضعيف جداً في المغاربة، فغلب عليهم في باب العلم الاعتناء بالدراية دون الرواية، وفيما سوى ذلك لا همة لهم.
وكان أبو عبد الله المذكور يذكر في كتابه "مرآة المحاسن" أنه كم في المغرب من فاضل ضاع من قلة اعتنائهم، وهو كذلك.
وقد سألت شيخنا الأستاذ أبا عبد الله ابن ناصر رحمه الله ورضي عنه يوماً عن السند في بعض ما كنت آخذه عنه فقال لي: إنا لم تكن لنا رواية في هذا، وما كنا نعتني بذلك. قال: وقد قضيت العجب من المشارقة واعتنائهم أمثال هذا حتى إني لما دخلت مصر كان كل من يأخذ عني عهد الشاذلية يكتب الورد والرواية والزمان والمكان الذي وقع فيه ذلك.
*د يحيى
17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 50    كن أول من يقيّم
 
منافسة علماء مصر لأحمد المقري
 رجعنا إلى الحديث الأول قال: ووجدت الفقيه أبا العباس المذكور قد وقع بينه وبين طلبة العلم من أهل مصر شحناء عظيمة، وحدث أن سببها اتفاق غريب، وهو أنه حضر ذات يوم سوق الكتب وهو إذ ذاك لم يعرف، فوقع في يده سِفْرٌ من تفسير غريب، ففتح على "تفسير" سورة النور. فإذا هو قد تعرض لمسألة فقهية غريبة، وذكر فيها اختلافاً وتفصيلاً وتحقيقاً، فحفظ ذلك كله على الفور، وكان رجلاً حافظاً، ثم اتفق عن قريب أن اجتمع علماء البلد في دعوة وحضر معهم، فلما استقر بهم المجلس إذا سائل في يده بطاقة يسأل عن تلك المسألة نفسها، فدفعت للأول من أكابر أهل المجلس، فنظر فكأنه لم يحضره فيها ما يقول، فدفعها لمن يليه، ثم دفعها الآخر للآخر وهكذا حتى بلغت أبا العباس المذكور، فلما تناولها استدعى الدواة فكتب عليها الجواب بنحو ما حفظ، فجعلوا ينظرون إليه متعجبين، فلما فرغ تعاطوها فقالوا: من ذكر هذا؟ فقال لهم: ذكره فلان في تفسير سورة النور، فالتمسوا التفسير فإذا الأمر كما ذكر، فدخلهم من ذلك ما هو شأن النفوس.
قلت: وليس هذا ببدع، فما زال هذا الجنس يتحاملون على من توسموا فيه شفوفاً عنيهم، أو مزاحمة في رتبة أو حظ إلاّ من عصمه الله، وقليل مثلهم.
كضرائر الحسناء قلن لوجهها               حسداً وبغضاً أنه لـدَمـيمُ.
وقد أفتى بعض الفقهاء أنه لا تقبل شهادة بعضهم على بعض لهذا المعنى، ولا شك أنه "ليس" على العموم، ولكنه شائع معلوم.
فمن ذلك ما وقع للإمام سيبويه مع أهل الكوفة، وقصته مشهورة.
وما وقع لسيف الدين الآمدي مع أهل مصر، فإنه لما برز عليهم في العلوم أنكروه ونسبوه إلى الأهواء، وكتبوا عليه رسماً بذلك، فكانوا يدفعونه بعضهم لبعض ليوقعوا فيه الشهادة على ذلك، فكانوا يشهدون حتى انتهى إلى بعض من وفقه الله وعصمه فوقع تحت الشهادات.
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه             فالقوم أعداء له وخصـوم
وقد تناهى به ذلك حتى خرج من مصر.
وما وقع للفقيه محمد بن تومرت المعروف بالمهدي إمام الموحدين، فإنه دخل مدينة مراكش مَقْفَلَهُ من المشرق، فحرَّك العلوم العقلية، وكانوا أهل بادية لا يعرفون ذلك، فقالوا: هذا أدخل علينا علوم الفلاسفة، ووَشوا به إلى اللمتوني حتى كان من أمره ما كان.
و"مثله" ما وقع للإمام أبي الفضل بن النحوي حين دخل سجلماسة فجعل يدرس أصول الدين وأصول الفقه، فمر به عبد الله بن بسام أحد رؤساء البلد فقال: ما العلم الذي يدرسه هذا؟ فأخبروه، وكانوا قد اقتصروا على علم الرأي فقال: هذا يريد أن يدخل علينا علوماً لا نعرفها، وأمر بإخراجه، فقام أبو الفضل ثم قال "له": أمَتَّ العلمَ أماتك الله ههنا، قالوا: وكانت عادة أهل البلد أن يعقدوا الأنكحة في المسجد، فاستحضروا ابن بسام لعقد نكاح صبيحةَ اليوم الثاني من ذلك اليوم، فخرج سَحَراً وقعد في المكان المذكور، فمرت عليه جماعة من ملوانة إحدى قبائل صنهاجة فقتلوه برماحهم، وارتحل أبو الفضل إلى مدينة فاس فتسلط عليه القاضي ابن دبوس ولقي منه ما لقي من ابن بسام، فدعا عليه أيضاً فهلك، ولما رجع إلى وطنه القلعة واشتغل بالتقشف تسلط عليه ابن عصمة أيضاً فقيه البلد بالإذاية.
وهذا النوع أعني الفقهاء ولا سيما أرباب المناصب منهم كالقضاة لم يزالوا متسلطين على أهل الدين كما وقع لهذا، وكما وقع للقاضي ابن الأسود مع الإمام العارف أبي العباس بن العريف ولابن "أبي" البراء مع القطب الجامع أبي الحسن الشاذلي وكلهم قد أخذهم الله بذنوبهم في الدنيا قبل الآخرة، نسأل الله تعالى العصمة من اتباع الهوى، ونعوذ بالله أن نظلم أو نظلم، إنه الحفيظ الرحيم
*د يحيى
17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 51    كن أول من يقيّم
 
وحدثني الحاج المذكور أيضاً قال: دخلنا مكة شرفها الله فدخلت ذات يوم المسجد الحرام فإذا هو غاص بأهله والناس مزدحمون فقلت: ما هذا؟ فقالوا: جنازة ولد توفي للشيخ يوسف الوفائي وكان حاضراً في تلك الحجة، قال: وكنت أعرفه، فجئت إليه لأعزيه في مصيبته، فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت عليه وهو مع أصحابه فإذا هو يتحدث وهو في غاية ما يكون من البسط والسرور، قال: فجلست أمامه وقلت: أعظم الله أجرك فأنكر علي غاية الإنكار وقال: أمثلك يقول هذا؟ وقد طالما كنت أتمنى أن يجعل الله "جسدي في هذه البقاع المشرفة، واليوم قد جعل الله" بعضي فيها، فله الحمد وله الشكر، أو كلاماً هذا معناه رحمة لله ورضي عنه، "و" إنما أذكر مثل هذه القصة للاعتبار والائتساء.
وحدثنا أيضاً قال: بتنا عند الفقيه الشيخ علي الأجهوري برسم زيارة، فبات ليله على النظر في كتب العلم، وهو يشرب الدخان، فكان له صاحب بعمر له الدواة حتى إذ فرغت عمر أخرى، ويرى حلَيَته.
قال: وكان الشيخ إبراهيم اللقاني معاصره وبلديه يفتي بحرْمته.
لله الأمر من قبل ومن بعد
قضاء الحاجات عند الصلحاء
وكان يحدثناعن أسلافه أن ثلاثة من صلحاء الغرب قد جرب عندهم قضاء الحاجات: الشيخ عبد السلام بن مشيش، والشيخ أبو يعزى "يلنور" والشيخ أبو سلهام، غير أنهم اختلفوا، فالأول في أمور الآخرة، والثالث في أمور الدنيا، وأبو يعزي في الكل، نفعنا الله بهم وبأمثالهم.
وقد ذكر غيره كالشيخ زروق أن هؤلاء الثلاثة أبا يعزى وأبا العباس السبتي وأبا مدين قد وقع الانتفاع بهم بعد الموت، وهذا بحسب ما اشتهر وانتشر، وإلاّ فالانتفاع واقع بأولياء الله كثيراً في كل أرض.
وقد شاهدت المولى أدريس بن إدريس رضي الله عنه أيام مقامي بمدينة فاس تِرْياقاً في كل ما أنزل به من حاجة.
وحدثونا في درعة عن الشيخ سيدي أحمد بن إبراهيم أنه كان يقول لهم: إن سيدي أبا القاسم الشيخ وهو معروف هنالك يقضى عنده ما يقضى عند الشيخ أبي يعزى.
وحدثني بمدينة مراكش الفاضل أبو العباس أحمد بن أبي بكر الهشتوكي قال: رأيت ذات ليلة فيها يرى النائم أني دخلت مقام الشيخ أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي، فإذا هو جالس وهو يقول، من كانت له إلى الله حاجة فليأتنا، قال فلما أصبحت وكان أمير الوقت قد بعث إلى أهل المدينة أن يعطوا الرماة، وشق عليهم ذلك كثيراً، وكان قوم قد ذهبوا إليه وعزموا أن يسعوا في إذايتي، فجئت أليه فقلت: إنك قلت كذا، وها أنا ذا قد جئت في هاتين الحاجتين، قال: فقضى الله الحاجتين معاً.
وحدثني أيضاً الأخ الصالح أبو عبد الله محمد بن أحمد الهشتوكي قال: بلغني عن الفقيه سيدي عبد الواحد الشريف أنه حدث أصحابه فقال لهم: كنا خرجنا ونحن نفر ثلاثة لزيارة الشيخ عبد الخالق بن ياسين الدغوغي، فلما كنا ببعض الطريق قلنا: تعالوا فليذكر كل واحد منكم حاجته التي يريدها، قال: فأما أنا فقلت لهم: إني أريد كرسي جامع المواسين، وأما الثاني فقال: أريد أن أتولى الحكومة في البلد، وأما الثالث فقال: أريد محبة الله تعالى، قال: فزرنا، فأما أنا وصاحبي فقد تولينا ما طلبنا، وأما الآخر فبخروجه من مقام الشيخ تحرك وفغر فاه واستقبل البرية، فكان ذاك آخر العهد به، وقد قضى الله الحاجات كلها.
وكانت أهلي أيام كنا بالزاوية البكرية قد تراخت عنها الولادة، فدخلها من ذلك غم عظيم، فأصبحت ذات يوم فأخبرت أنها رأت أنها ذهبت إلى مقام سيدي أبي علي الغجاتي، "فقالت فوجدته جالساً وأنا في غاية العطش" فإذا حوله عين يرشح منها ماء قليلٌ. لا يغني، فقلت: يا سيدي ما هذا؟ جئت إليك عطشى رجاء أن أشرب، أفأرجع كما جئت؟ قال: لا، إن الماء ثمَّ، انبشي يخرج، فقالت: فنبشت بيدي فخرج الماء وشربت حتى رويت، وطلبت مني أن نزوره وأن نطعم عنده طعاماً ففعلنا، فولد ولدنا محمد الكبير أصلحه الله وأمتع به.
ولما نزلنا بالزاوية المرةَ الثانيةَ مَقْفَلَنَا من حضرة مراكش كانت لنا بُنَيّةٌ عجزت عن النهوض وهي في سن من يمشي، فظنناها مقعدةً فذهب بها الخدم إليه وزوروها فقامت بالفور على رجلها تمشي، وأمثال هذه الأمور لو تتبعنا منها ما رأينا وما سمعنا لملأنا بها الدواوين.
 نعم رأيت لبعضهم أن الولي إذا مات أنقطع تصرفه من الكون، وما يحصل لزائره مثلا إنما يحصل له على يد قطب الوقت بحسب درجة ذلك الولي، والله تعالى أعلم.
*د يحيى
17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 52    كن أول من يقيّم
 
لله الأمر من قبل ومن بعد
الحرة تكفي وتغني
وكان أيضاً رحمه الله كثيراً ما ينشدنا "لبعضهم":
إذا لم يكن في منزل المرء حرة             تدبر أمراً نابه فهـو ضـائع
وقوله في البيت حرة يحتمل أن يريد بها ضد الأمة لأن الحرائر مظنة العقل والتجربة والغناء والكفاية، والظاهر أن المراد أخص "من ذلك" وهي الكاملة الحرية، كما يقال لكامل الرجولية: فلان رجل، وذلك أن ليس كل حرة تكفي وتغني، بل رب أمة لبيبة أقوم من حرة، فالمرأة الصالحة الكيِّسة الصيِّنة هي التي تراد.
وفي الحديث: "تُنْكَحُ المَرْأةُ لِديِنَها وَجَمَالِهَا وَمَالِهَا، فّاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ" "تَرِبَتْ يَمِينُكّ".
وفي الحديث أيضاً: "الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأةُ الصَّالِحَةُ".
وفي الحديث: "إنَّ المَرْأةَ الصَّالِحَةَ بَيْنَ النساءِ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ بَيْنَ الغِرْبَانِ" وذلك لعزة من تستكمل المعتبر من الأوصاف، أو لعزة الدين فيهن، فإنهن ناقصات عقل ودين.
وروي عن نبي الله داود أنه قال لابنه سليمان عليهما السلام: يا بني، إن المرأة الصالحة كمثل التاج على رأس الملك، وإن المرأة السوء كالحِمل الثقيل على الشيخ الكبير.
وعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: النساء ثلاث: امرأة عاقلة مسلمة عفيفة هينة لينة ودود ولود، تعين أهلها على الدهر، ولا تعين الدهر على أهلها، وقليلاً ما تجدها، وأخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك، وأخرى غُلّ قمل يجعله الله في عنق من يشاء، ثم إذ شاء أن ينزعه نزعه.
وقوله غل قمل تمثيل، وأصله أن الأسير مثلاً يجعل عليه الغل فيبقى حتى إذا طال قَمِلَ أي دخله القمل فيأكله القمل في عنقه ولا يمكنه أن يزيل القمل منه ولا أن يزحزح الغُلّ من محله ما لم "من" أصله، فيلقى من ذلك عذاباً لازماً، وكذلك المرأة إذا كانت سيئة الأخلاق أو ذميمة الخلقة أو جمعتها فالرجل يتأذى منها أذىً عظيماً لازماً، ما لم يطلقها، فالمرأة إذا كانت جميلة حسنة الشباب مليحة ألفها الطبع وشربتها النفس، فكان سيئها حسناً، وذنبها مغفوراً كما قال أبو فراس:
يُعد عليَ الواشـياتُ ذنـوبَـه          ومن أين للوجه المليح ذنوب
ولا بد مع ذلك من كفاية بيتها، فإذا جمعت الحسن والدين والكفاية فهي الحرة المعدودة، والضالة المنشودة، وفي أمر النساء كلام يكثر، لا يفي به إلاّ تصنيف مستقل، وهذا يكفي في هذا المحل.
"وكان يقول كثيراً: لا تواكل من لا يواكل، ولا تجالس من لا يجانس".
وكان يقول في حديثه بما سمع ممن لقي: إن الولي الصالح سيدي عبد العزيز بن عبد الحق الحرار المعروف بالتباع كان يقول لأصحابه، وهم سيدي سعيد بن عبد المنعم المناني الحاحي، "وسيدي علي بن إبراهيم البوزيدي " وسيدي رحال المعروف بالكوش: سعيد فقيهكم، وعابدكم، ورحال مجذوبكم، والغزواني سلطانكم، نفعنا الله بجميعهم آمين.
وسمعته يحدث عن والده سيدي محمد بن أبي بكر أن شيخه سيدي محمد ابن أبي القاسم المعروف بالشرقي التادلاوي كان وقع بينه وبين ولده سيدي الغزواني كلام وعتاب إلى أن قال الولد: أنت ترزقني؟ فقال الشيخ نعم أنا أرزقك، فأعظم الناس هذا الكلام، قال: فقال الوالد: لا شيء في هذا، فإن الشيخ هو القطب في الوقت، والقطب تجري الأرزاق على يده، فصح بهذه الإضافة أن يكون رازقاً.
*د يحيى
17 - فبراير - 2008
 3  4  5  6