البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1    كن أول من يقيّم
 د يحيى 
15 - فبراير - 2008
 
المحاضرات في اللغة والأدب
اليوسي
أجل آثار اليوسي التي تنيف على أربعين أثراً أدبياً ما بين رسالة وكتاب. وهي في كثير من فصولها أشبه بالرحلة، سجل فيها اليوسي تنقلاته ومشاهداته في بلاد المصامدة عام 1095هـ الموافق 1684م قال الشيخ عبد الحي الكتاني: (وكتابه المحاضرات عجيب في بابه، غريب في ترتيبه وأسلوبه، وكأنه في ترجمة نفسه، ألفه بسبب ما كان وقع بينه وبين عبد الرحمن بن عبد القادر الفارسي رحمهم الله لما افتتح التفسير بالقرويين)
 
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل من سماء رحمته غيثاً نافعاً، فأنبت به في قلوب عباده زهراً ناضراً وثمراً يانعاً.
زهر من العلم والعرفان مـؤتـلـق            في الطرس والنفس يستهدي بألـوان
وثمر يجـتـنـيه الأذكـياء بـتـش              مير ولا يجتنيه الـفـدم والـوانـي
للـه در كـرام فـاو فـائزهـــم          قدْماً بحلب درور منـه مـلْـبـان
وبابتنـاء مـبـان مـنـه سـامـية               لا يبتني مثلها في دهره الـبـانـي
هذا هو المجد في الدارين والشرف ال              محض الذي ما به في فضـل ثـان
"فاعكف عليه" مع الآناء مـعـتـنـياً         ولا يكن لك عن تـطـلابـه ثـان
واعلم بأنك لن تحظى بـصـهْـوتـه           حتى تجوز المدى في كـل مـيدان
ما لم تسنح علـيه كـلـمـا شـجـر             يرجى الجني منه أرضي وعَبْـدان
وتبذل النفس بعد المـال مـطـرحـاً           لكـل تـرفـيه أرواح وأبـــدان
وتغتـرب بـرهة فـي كـل آلـفة                من ذات قربى وأوطـان وإخـوان
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد ينبوع الأحكام والحكم، ومجموع شيم الفضائل وفضائل الشيم، وعلى آله ذوي المجد والكرم، وصحبه بحور العلوم ونجوم الظلم.
أما بعد، فإن الدهر أبو العجائب، وينبوع الغرائب، وفي المثل: الدهر حبلى لا يدري ما تلد، وقال الشاعر:
والليالي كما علمت حبالى            مقْرِبات يلدن كل عجيبه
 وقال طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً              ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وإن للعاقل على مرور الجديدين علماً جديداً حيث انتهى فهمه كما له عيش حيث تهدي ساقه قدمه وكنت قلت في نحو ذلك:
أراني حـيثـمـا أخـطُ           أجد ما لـم أجـد قـطُّ
وإن الدهر حبلـى كُـلّ         ما حين لـه سـقـط
لقد سـايرتـه طـفـلاً           إلى أن مسنـي وخـط
فلـم ينـفـك يشـتــد             على المرء ويشـتـط
ولم يأل إذا استـعـلـى         يوم الهون أو يسـطـو
له فـي كـل إذن مـن           بنـي أبـنـائه قـرط
وفـي كـل قـذال وس          مة بالنـار أو شـرط
وقد يحنـو ويسـتـأنـي        وقد يحبو لمن يعطـو
سمـاء ديمة تـأتـــي           بزهر زهرها رُقـط
فحمـر ومـصـفـر              وموفـور ومُـنْـقَـطُّ
ومـجـدود ومـحـروم          ومستعمل ومـنـحـط
ومـنـقـاد ومـعـوج            وكز الخلق أو سـبـط
قضاء مـبـرم مـمـن           إليه الحـل والـربـط
إلـهٌ أمـره الأمـــر             ومنه الرفع والـحـط
ومنه اليسر والـعـسـر                ومنه القبض والبسـط
له فـي كـلِّ مــا يومٍ           شؤون منه تـخـتـط
وذو الفهـم لـه عـلـم          جديد حيثمـا يخـطـو
ففكر واعتبـر تـعـلـم          علوماً دونها الضـبـط
وتدرك غير ما في الصح             ف يوماً خلد الـخـط
وسلم وأرض بالمـقـدو               ر لا يذهب بك السخط
ولا تبرم إذا الـمـولـى        يشدّ الحبل أو يمـطـو
فما ترجو من الرضـوا               ن أنْ تَرْضَى له شرط
 2  3  4  5  6 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 33    كن أول من يقيّم
 
ومنها رباط شاكر وهو مشهور، وكان مجمعاً للصالحين من قديم، ولا سيما في رمضان، يفدون إليه من كل أوب، حتى حكى صاحب التشوف عن منية الدكالية رضي الله عنها أنها حضرت ذات مرة في رباط شاكر فقالت لبعض من معها: إنه حضر هذا العام في هذا الرباط ألف امرأة من الأولياء، فانظر إلى عدد النساء فكيف بالرجال! فلا شك أن هذا الموضع موضع بركة ومجمع خير، ولكن لم نقف من أمره إلا على ما وقع في التشوف من أن شاكراً ذكر أنه من أصحاب عقبة بن نافع الفهري وأنه هنالك، وأن يعلى بين مصلين الرجراجي بناه، وكان يقاتل كفار برغواطة، وغزاهم مرات، وأن طبله هو الباقي هنالك إلى الآن، والله أعلم. ولم يظهر فيه في العهد من مشاهد الصالحين إلا أبو زكرياء المليجي، والله أعلم.
لله الأمر من قبل ومن بعد
محتالون يظهرون الصلاح ويخدعون الناس
مما وقع بسجلماسة قريباً من هذه القصة أنه شاع في البلد ذات ليلة أنه قد ظهر رجل في المدينة الخالية، فأصبح الناس يهرولون إليه أفواجاً، وخرجنا مع الناس فقائل يقول: ولي من أولياء الله، وآخر يقول: صاحب الوقت، فلما بلغنا المدينة وجدنا الخلق قد اجتمعوا من كل ناحية على ذلك الرجل حتى أن أمير البلد وهو محمد بن الشريف خرج في موكب حتى رآه فلما كثر الناس اشتد الزحام عليه وتعذرت رؤيته، دخل في قبة هناك في المقابر فاخرج كفه من طاق في القبة فجعل الناس يقبلون الكف وينصرفون، وكان كل من قبل الكف اكتفى ورأى أنه قضى الحاجة فقبلناه وانصرفنا، ثم بعد أيام سمعنا أنه ذهب إلى ناحية الغرفة، وأنه سقط في بئر هنالك ومات، فظهر أنه رجل مصاب، وكأنه يشتغل باستخدام الجان ونحو ذلك فهلك.
 
وإنما ذكرنا هذا ليعلم وينتبه لمن هذا حاله، فكم تظاهر بالخير من لا خير فيه من مجنون أو معتوه أو موسوس أو ملبس، فيقع به الاغترار، للجهلة الأغمار.
ما أنت سار غـرّه قـمـر               ورائدٍ أعجبه خضرة الدمَنِ
وقد يشايعه من هو على شاكلته من الحمقى ومن الفجار، وشبه الشيء منجذب إليه.
إن الطيور على أجناسها تقع
فيغتر الأغبياء بذلك إلا من عصمه الله.
وقد صعدت في أعوام الستين وألف إلى جبل من جبال هسكورة فإذا برجل نزل عليهم من ناحية الغرب، واشتهر بالفقر، وبنى خباء له وأقبل الناس عليه بالهدايا والضيافات، وكان من أهل البلد فتى يختلف إليه ويبيت عنده، فاستراب من أمره بعض الطلبة، فتلطف مساء ليلة حتى ولج الخباء، فكمن في زاوية منه فلما عسعس الليل قام المرابط إلى الفتى فاشتغل معه بالفاحشة، نسأل الله العافية، ثم علم أن قد علموا به فهرب، وبلغ الخبر إلى اخوة الفتى فتبعوه، ولم أدر ما كان من أمره، ومثله كثير. ومن أغرب ما وقع من هذا أيضاً بسجلماسة ما حدث به أخونا في الله الولي الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن علي بن طاهر الشريف المعروف بابن علي رضي الله عنه قال: ما لعب بإخواننا يعني أشراف سجلماسة إلاّ رجل جاءهم في البلد واتَّسم باسم الصلاح، ووقع الإقبال عليه، فكان يأتيه الرجل فيعده بأن يبلغه إلى مكة ويحج به طرفة عين، واستمر على ذلك مدة، ثم قام نفر من الأشراف اتفقوا على اختباره، فكمنوا قريباً منه، وتقدم إليه أحدهم وعنده نحو خمسين مثقالاً فقال له: يا سيدي إن هذه الصلاة تثقل علي، فعسى أن ترفعها عني، وأفرغ تلك الدراهم بين يديه، وكأنه هش لذلك، فبادره الآخرون قبل أن يستوفي كلامه وأوجعوه ضرباً وطردوه. ثم بعد مدة سافر بعضهم إلى الغرب فمر بعين ماء هنالك، فإذا الرجل عندها يستقي قربة له منها، وإذا هو يهودي من يهود معروفين هنالك، نسأل الله العافية.
فالحذر مطلوب، ولا سيما فيما نحن فيه من آخر الزمان الذي استولى فيه الفساد على الصلاح، والهوى على الحق، والبدعة على السنّة، إلاّ من خصه الله وقليل ما هم، وفيه قيل:
هذا الزمان الذي كنّـا نـحـاذره               قول كعب وفي قول ابن مسعود
إن دام هذا ولم يحدث لـه غـير              يبك ميت ولم يفرح بمـولـود
بل نقول: ليته يدوم، فإنه لا يأتي بأمان إلاّ والذي بعده شر منه كما في الحديث الكريم.
نعم لا بد للناس من تنفيس، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا تنفيساً نقضي فيه ما بقي من أعمارنا في خير، ونستعتب مما مضى، إنه الكريم المنان.
*د يحيى
16 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه34    كن أول من يقيّم
 
هذا، ولا بد مع الحذر من حسن الظن بعباد الله، ولا سيما من ظهر عليه الخير والتغافل عن عيوب الناس.
وفي الخبر: خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حسن الظن بالله وحسن الظن بالناس، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر: سوء الظن بالله وسوء الظن بالناس، ومن تتبع عيوب الناس تتبع الله عيوبه حتى يفضحه في قعر بيته.
فالاعتراض بلا موجب جناية، واتباع كل ناعق غواية.
وفي كلام مولانا علي كرم الله وجهه: الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهَمَجٌ رَعاعٌ، أتباع كل ناعق. فمن ثبتت استقامته، وصح علمه وورعه وجب اتباعه، ومن اتسم بالخير وجب احترامه على قدره، والتسليم له في حاله، ومن ألقى جلباب الحياء عن وجهه وجب لومه، وإذا ظهرت البدعة وسكت العالم فعليه لعنة الله، ولا بد من مراعاة السلامة.
وهذا باب واسع لا يكفيه إلاّ ديوان وحده، وإنما ذكرنا هذه الإشارة استطراداً.
لله الأمر من قبل ومن بعد
أشعار في الكرم وخدمة الضيف
من الشعر المستملح في باب التكرم قول المقنَّع الكِندي أنشده القالي في النوادر:
يعاتبني في الدَّين قـومـي وإنـمـا             ديونيَ في أشياء تكسبهـم حـمـدا
أسدُّ به ما قـد أخـلّـوا وضـيعـوا             ثغورَ حقوقٍ ما أطاقوا لهـا سـدا
وفي جفنة ما يغلق البـاب دونـهـا           مكللة لـجـمـاً مـدفـقة ثـردا
وفي فرس نهد عتـيق جـعـلـتـه              حجاباً لبيتي ثم أخدمـتـه عـبـدا
وإن الـذي بـينـي وبـين أبـــي                وبين بني عمّي لمخـتـلـف جـدا
فإن يأكلوا لحمي وفرْتُ لحومـهـم           وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجـدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبـهـم         وإن هم هوُوا غيي هويت لهم رُشدا
 
ولا أحمل الحقد القـديم عـلـيهـم             وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جل مالي إن تتابع لـي غـنـى            وإن قل مالي لم أكلفـهـم رفـدا
وإني لعبد الضـيف مـا دام نـازلاً             وما شيمة لي غيرها تشبه العبـداد
ونحوه قول عروة بن الورد:
أيا بنت عبـد الـلـه وابـنة مـالـك             ويا بنت ذي البردين والفرس الـورد
إذا ما صنعت الزاد فالتـمـسـي لـه           أكيلا فإني لسـت آكـلـه وحـدي
أخاً طارقاً أو جـار بـيت فـإنـنـي             أخاف مذمات الأحاديث من بـعـدي
وكيف يسـيغ الـمـرء زاداً وجـارُهُ           خفيف المِعى بادي الخصاصة والجهد
وللمَـوْتُ خـير مـن زيارة بـاخـل             يلاحظ أطراف الأكيل على عـمـد
وإني لعبـد الـضـيف مـا دام ثـاوياً           وما فيَّ إلاّ تلك من شيمة الـعـبـد
وقول الآخر:
لعمر أبيك الخير إنـي لـخـادم        لضيفي، وإني إن ركبت لفارس
لله الأمر من قبل ومن بعد
أصناف الناس
*د يحيى
16 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه35    كن أول من يقيّم
 
قال معاوية رضي الله عنه يوماً لصعصعة بن صوحان وكان من البلغاء: صف لي الناس. فقال: خلق الناس أخيافاً، فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورجرجة فيما بين ذلك، يكدرون الماء، ويُغلُون السِّعر ويضيقون الطريق. وقال الآخر في نحو هذا:
الناس هم ثـلاثة              فواحد ذو درقه
وذو علوم دارس             كتبـه وَوَرَقَـه
ومنفق في واجب             ذهبَه وَوَرِقـه
ومن سواهم همج            لا وَدَكٌ لا مرقه
وفي كلام مولانا علي كرم الله وجهه لكميل بن زياد: الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كا ناعق.
"وقال الآخر:
ما الناس إلاّ العارفون بربهم                وسواهم متطفل في الناس"
وهذا المعنى له تفصيل وتحقيق، والاشتغال به يطيل، ويكفي اللبيب فيه ما مرّ عند ذكر الحسب وتفصيل المزايا في الناس.
*د يحيى
16 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه36    كن أول من يقيّم
 
لله الأمر من قبل ومن بعد
أصناف بقاع الأرض
كان شيخنا الأستاذ المشارك الفاضل الناسك أبو بكر بن الحسن التطافي ينشدنا كثيراً في التنويه بالعلم قول القائل:
وما عرَّف الأرجاء إلاّ رجالهـا               وإلاّ فلا فضلٌ لتُرْب على تُرْبِ
والمعنى أن القطر من الأرض وكذا المدينة والقرية تعرف وتشرف بنسبة المعروف إليها كأبي عثمان المغربي وابن عامر الشامي والحسن البصري وأبي الحسن الحرالي وغيرهم.
واعلم أن بقاع الأرض كأفراد الإنسان، هي كلها مشتركة في كونها أرضاً وتربة، ثم تتفاوت في المزايا الاختصاصية، إما من ذاتها بأن يجعلها الله منبتاً للعشب، وهي أفضل من السبخة أو مزرعة، وهي أفضل من الكنود أو سهلة، وهي أفضل من الحزن، وقد ينعكس الأمر، أو معدناً، وتتفاوت بحسب الجواهر المودعة فيها، أو منبعاً للماء، وتتفاوت بحسب المياه، إلى غير ذلك من مختلفات الفواكه والأشجار والأزهار وسائر المنافع، وأما من عارض، كأن يختصها الله تعالى بكونها محلاً لخير إما نبوءة بيته بمكة، فهي أشرف البقاع ما خلا المدينة من ثلاثة أوجه: الأول كونها محلاً لبيته، وقبلة لعباده، والثاني كونها عمارة خليله إبراهيم عليه السلام، الثالث كونها مولد ومبعث أشرف الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام، إلى وجوه أخرى ككونها وسط الأرض أو أرفع الأرض أو من تحتها دحيت الأرض، وكونها حراماً وغير ذلك ولبيت المقدس قسط من هذا الفضل لأنها مأوى الأنبياء، وكانت قبله، واختصت المدينة طيبة بكونها مهاجر أشرف الخلق ومدفنه مع أكابر أصحابه رضي الله عنهم فصارت خير البقاع حتى مكة عند علمائنا أما التربة التي تضمنت شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم فلا مثل لها في الأرض ولا في السماء قطعاً.
 وأما نبوءة فتشرف كل بلدة ولد فيها نبي أو بعث أو أقام أو دفن، وتشتهر بذلك وتتعرف كما قال صلى الله عليه وسلم يوم الطائف للغلام وقد قال له: إنه من نينَوى. "قَرْيَةُ أخي يُونُسَ عَلَيْهِ السّلامُ" وإما علم فكل قرية أيضاً أو بلدة كان فيها عالم أو كان منها فهي تشرف بذلك وتتعرف كما في البيت المذكور، وإما زهدٌ أو عبادة أو نحو ذلك أو ملك أو جود أو نجدة أو جمال أو خلق حسن أو غير ذلك حتى رخاء العيش وصحة الهواء، فكل ذلك ونحوه يكون به الشرف والاشتهار كما يكون الاشتهار في النقصان والمذمة بأضداد ذلك. واعلم أن المولى تبارك وتعالى من لطيف حكمته وسابغ منته كما لم يُخْلِ عبْداً من عباده من فضل عاجل أو آجل، ظاهر أو باطن، كثير أو قليل، كذلك لم يُخِل بقعة من بقاع الأرض من فضل، ولم يُعْرِ بلدة من مزية يتعلل بها عُمّارُها حتى لا يتركوها، وقد جعل الله تعالى الأهواء مختلفة، والطباع متفاوتة، وحبب لكل أحد ما اختصه به، ذلك تقدير العزيز العليم الحكيم، فتجد هذا يمدح أرضه بكثرة المياه للاتساع في الشرب والطهارة والنقاوة ونحو ذلك، وهذا يمدح أرضه بالبعد عن كثرة المياه لجودة منابتها، وصحة هوائها، وذهاب الوخم عنها، وهذا يمدح أرضه بالسهولة لوجود المزارع فيها وكثرة ريفها واتساع خيرها، وهذا يمدح أرضه بكونها جبالاً لتمنعها وعزة أهلها، وحسن مائها وهوائها وقناعتها وغير ذلك.
*د يحيى
16 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه37    كن أول من يقيّم
 
 
وللشعراء قديماً وحديثاً في هذا ما يحسن ترداده، ويطول إيراده، فمن ذلك لأبي بكر بن حجة الحموي يتشوق إلى بلده قوله:
بوادي حماةِ الشامِ عن أيمن الشـط          وحقك تطوى شُقّة الهمّ بالبسـط
بلاد إذا ما ذقت كـوثـر مـائِهـا               أهيم كأني قد ثمِلْتُ بإسـفِـنْـطِ
فمن يجتهد في أن في الأرض بقعة          تماثلها قل: أنت مجتهد مـخـط
وصوّبْ حديثَيْ مائِهـا وهـوائِهـا             فإن أحاديث الصحيحين ما تُخطي
وللآخر في تلسمان مثل هذا:
بلد الجدار ما أمـرّ نـواهـا            كلِفَ الفؤاد بحبها وهواهـا
يا عاذلي في حبها كن عاذري               يكفيك منها ماؤها وهواهـا
ولابن حمديس الصقلي في بلده:
ذكرت صقيلية والأسـى               يهيج للنّفسِ تذكـارهـا
فإن كنتَ أخرجت من جنة            فإني أحدِّثَ أخبـارهـا
ولولا ملوحة ماء البـكـا              حسبت دموعي أنهارها
وللأعرابي:
أقول لصاحبي والعيس تخدي                بنا بين المُنيفةِ فالضـمـار
تمتع من شميم عرّار نـجـد           فما بعد العشيّة من عَـرّار
ألا يا حبَّذا نفـحـات نـجـد             وَرَيّا روضه بعد القِطـار
وأهلك إذ يحلّ الحي نـجـداً           وأنت على زمانك غير زار
شهور ينقضين وما شعـرنـا         بأنصاف لهـنّ ولا سِـرار
وللآخر في تونس:
لَتونِسُ تونسُ من جـاءهـا           وتودعه لوعة حيث سـار
فيغدو ولو حلَّ أرض العراق         يحن إليها حنين الـحُـوار
ويأمل عوداً ويشتـاقـه اش          تياق الفرزدق عَوْد النَّوار
وللآخر في مدينة فاس:
يا فاس حيا الله أرضك من ثـرى             وسقاك من صوب الغمام المسبل
يا جنة الدنيا التي أربـت عـلـى              عَدْن بمنظرها البهيّ الأجـمـل
غُرَفٌ على غُرَفٍ ويجري تحتها             ماء ألذ من الرحيق السلـسـل
وكثيراً ما يقع الحنين إلى المنازل والبلدان، من أجل من فيها من الإخوان والأخدان، كما قال القائل:
أحب الحِمى من أجل من سكن الحِمى               ومن أجل من فيها تحب المـنـازل
*د يحيى
17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه38    كن أول من يقيّم
 
وللشعراء قديماً وحديثاً في هذا ما يحسن ترداده، ويطول إيراده، فمن ذلك لأبي بكر بن حجة الحموي يتشوق إلى بلده قوله:
بوادي حماةِ الشامِ عن أيمن الشـط          وحقك تطوى شُقّة الهمّ بالبسـط
بلاد إذا ما ذقت كـوثـر مـائِهـا               أهيم كأني قد ثمِلْتُ بإسـفِـنْـطِ
فمن يجتهد في أن في الأرض بقعة          تماثلها قل: أنت مجتهد مـخـط
وصوّبْ حديثَيْ مائِهـا وهـوائِهـا             فإن أحاديث الصحيحين ما تُخطي
وللآخر في تلسمان مثل هذا:
بلد الجدار ما أمـرّ نـواهـا            كلِفَ الفؤاد بحبها وهواهـا
يا عاذلي في حبها كن عاذري               يكفيك منها ماؤها وهواهـا
ولابن حمديس الصقلي في بلده:
ذكرت صقيلية والأسـى               يهيج للنّفسِ تذكـارهـا
فإن كنتَ أخرجت من جنة            فإني أحدِّثَ أخبـارهـا
ولولا ملوحة ماء البـكـا              حسبت دموعي أنهارها
وللأعرابي:
أقول لصاحبي والعيس تخدي                بنا بين المُنيفةِ فالضـمـار
تمتع من شميم عرّار نـجـد           فما بعد العشيّة من عَـرّار
ألا يا حبَّذا نفـحـات نـجـد             وَرَيّا روضه بعد القِطـار
وأهلك إذ يحلّ الحي نـجـداً           وأنت على زمانك غير زار
شهور ينقضين وما شعـرنـا         بأنصاف لهـنّ ولا سِـرار
وللآخر في تونس:
لَتونِسُ تونسُ من جـاءهـا           وتودعه لوعة حيث سـار
فيغدو ولو حلَّ أرض العراق         يحن إليها حنين الـحُـوار
ويأمل عوداً ويشتـاقـه اش          تياق الفرزدق عَوْد النَّوار
وللآخر في مدينة فاس:
يا فاس حيا الله أرضك من ثـرى             وسقاك من صوب الغمام المسبل
يا جنة الدنيا التي أربـت عـلـى              عَدْن بمنظرها البهيّ الأجـمـل
غُرَفٌ على غُرَفٍ ويجري تحتها             ماء ألذ من الرحيق السلـسـل
وكثيراً ما يقع الحنين إلى المنازل والبلدان، من أجل من فيها من الإخوان والأخدان، كما قال القائل:
أحب الحِمى من أجل من سكن الحِمى               ومن أجل من فيها تحب المـنـازل
وقال المجنون:
وما حب الديار شغفن قلبـي          ولكن حب من سكن الديارا
وهي خصوصية في البقعة عارضة من سكانها كالذي في البيت، فإن الميل إليها يقتضي فضلها على غيرها بالنسبة إليه، ومن هذا المعنى أكثر العرَب ذكر الحِمى كقوله:
فإن كان لم يغرّض، فإني وناقتي            بحجر إلى أهل الحِمى غَرِضان
تحنّ فتبدي ما بها مـن صـبـابة              وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني
الغرض المشتاق، وكقول الآخر:
وإن الكئيب الفرد من جانب الحِمى          إليَّ وإن لـم آتـهِ لـحـبـيب
وكقول الآخر:
وكنت أذود العين أن ترد البكا               فقد وردت ما كنت أذودهـا
خليليّ ما بالعيش عتب لَو أنّنـا              وحدنا لأيام الحِمى من يعيدها
وكقول الآخر: 
ألا أيها الركب المجِدّون هل لـكـم            بساكن أجزاع الحمى بعدنا خُبْـر؟
فقالوا: قطعنـا ذاك لـيلاً وإن يكـن            به بعض من تهوى فما شعر السَّفْر
وكقول الآخر:
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها            عن الغيّ بعد الشيب أسبلتا معا
فليست عشيات الحمى برواجـع             إليك ولكن خِلّ عينيك تدمعـا
إلى غير ذلك.
ويكثرون أيضاً ذكر كقوله:
شيب أيام الفـراق مـفـارقـي          وأنشزن نفسي فوق حيث تكون
وقد لانَ أيام اللوى ثمَّ لـم يكـد               من العيش شيء بعدهنّ يلـين
وكقول جرير:
لولا مراقبة العيون أرَيْنَـنـا           مُقل المها وسوالف الآرام
هل يَنْهَيَنَك أن قتلنَ مرقشـاً          أو ما فعلن بعروة بن حزام
ذُمَّ المنازل بعدَ منزلةِ اللّوى         والعيشَ بعد أولـئك الأيامِ
إلى غير ذلك.
وأما نجد وهو ما ارتفع من الأرض من بلادهم وأكثر من ذلك كلّه كقوله:
سقى الله نجداً والسلام على نجد             ويا حبذا نجد على النأي والبعد
وقول الآخر:
أشـاقـتـك الـبـــوارق والـــجـــنـــوب         ومـن عـلـوي الـرياح لـهــا هـــبـــوب
أتـتـك بـنـفـحة مـــن شـــيح نـــجـــد         تصـوب والـعـرار بــهـــا مـــشـــوب
وشمت البارقات فقلت: جيدَتْ جبال البتر أو مطر القليب         
ومن بستان إبراهيم غنّت            حمـائم بـينـــهـــا فـــنـــن رطـــيب
فقـلـت لــهـــا: وقـــيتِ ســـهـــامَ رامٍ                ورُقْـط الـريش مـطـعـمـهـا الـجــنـــوب
كمـا هـــيجـــت ذا حُـــزْنٍ غـــريبـــاً          علـى أشـجـانـهِ فـبـكـــى الـــغـــريب
ومـا وجـد أعـرابـية قـــذفـــت بـــهـــا               ..................الأبــــــــــــــــيات
وتقدم شيء من ذلك، وهو كثير، وذلك في الغالب لحسنه في نفسه هواء وماء ومنابت ومسارح، والناس كلهم مجمعون على ذكر ديار الأحباب ومعاهد الشباب، ولا خصوصية للعرب، وإن كان لهم مزيد رقة.
*د يحيى
17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 39    كن أول من يقيّم
 
لله الأمر من قبل ومن بعد
الأريحية
أنشد في النوادر لمحرز العكلي:
يظلّ فؤادي شاخصاً من مكانـه              لذكر الغواني مستهاماً متيّمـا
إذا قلت مات الشوق مني تنسمت           به أرْيحيّاتُ الهوى فتنسـمـا
وفي البيت فائدة، وهي أن لفظ الأريَحِيّة هو بسكون الراء وفتح الياء، ووقع في شعر المولدين أيضاً ما يوافق ذلك.
مما علق بحفظي من أشعار المعاني عند العرب قول الشاعر:
فجنبت الجيوش أبـا زينـب           وجاد على مسارحك السحاب
يحتمل أن يكون دعاء له بالعافية والخصب، ويحتمل أن يكون دعاء عليه بالإفلاس حتى لا تقصده الجيوش، ثم بالخصب مع ذلك لأنه أوجع لقلبه، حيث يرى الرِّعيْ ولا راعية كما قال الراجز:
أمرعت الأرض لوَانَّ مالا
لو أن نوقاً لك أو جمالا
أو ثلة من غنم أمّا لا
أي إن كنت لا تجد غيرها، وقال الآخر:
ستبكي المخاض الجرب أن مات هيثم              وكلّ البواكي غـيرهـنّ جـمـود
أي إنه كان يستحييها بخلاً، ولا ينحرها للضيفان، فهي تبكي عليه، ولا يبكي عليه أحد من الناس إذ لا خير فيه، وهذا هجو، وقد استعمل الجمود في مجرد عدم البكاء، وكأنه لاحظ فيه المبالغة، فإن الناس لعدم اكتراثهم بالهالك أصبحوا في حقه لا يتصور منهم البكاء ولا انحدار دمع كمثل الأحجار ونحوها، ويستعمل الجمود حيث يراد البكاء ولا تسمح العين بالدموع كقوله:
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط                عليك بجاري دمعها لجمود
ولذا عيب قول القائل:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا              وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
ومتى اعتبرنا بالمعنى الأول فلا عيب، وقول الآخر هو توبة بن مضرس بن عبد الله التميمي يلقب الخنوت بوزن السنور:
قتيلان لا تبكي المخاض عليهما             إذا شبعت من قرمل وأفـان
وهذا مدح ضد الأول أي إنهما كانا يهلكانها بالنحر، فإذا ماتا استراحت وشبعت فلم تبك عليهما، والقرمل واحده قرملة، وهي شجرة ضعيفة تنفضح إذا وطئت، ومنه قولهم في المثل إذا التجأ الضعيف إلى مثله: ضعيف عاذ بقرملة، والأفاني واحده فانية، وهي شجرة أخرى، وقول الآخر، وهو حميد بن ثور:
ولقد نظرت إلى أغز مشهر          بِكْرٍ توَسَّن بالخميلة عُونـا
متسنم سنماتها مُتبَـجّـسٍ            بالهدر يملأ أنفساً وعيونـا
لقح العجاف له لسابع سبعةٍ         وشَرِبْنَ بعدَ تَحَلُّؤٍ فروينـا
 يصف السحاب وفعله وانتفاع الأرض به على طريق التّمثيل، فقوله: أغر أي سحاب فيه برق "أو" أبيض، وقوله: بكر أي لم يمطر قبل ذلك، وقوله: توسن بالخميلة عوناً أي طرقها ليلاً وقت الوسن أي النعاس، والخميلة رملة لينة ذات شجر، والعون جمع عوان، وهي في النساء التي كان لها زوج، وهنا هي الأرض التي أصابها المطر قبل، على التشبيه، وقوله: متسنم سنماتها أي طالع على الأكام والتلال، وأصله في الجمل يتسنم الناقة أي يعلو عليها، وهي سَنمة أي عظيمة السنام، مرتفعته، قوله: متبجس أي متكبر، بالهدر أي رعده يملأ أنفساً وعيوناً عجباً به أو رعباً منه، قوله: لقح العجاف أي الأرضون المجدبة حملت به الماء فأنبتت العشب، وذلك بعد تحلُّؤٍ أي امتناع من السقي لعدم المطر، فهذا كله تمثيل، وقول الآخر:
حلوا عن الناقة الحمراء أرحـلـكـم           والبازل الأصهب المعقول فاصطنعوا
إن الذئاب قد اخضرت بـراثـنـهـا             والناس كلهم بـكـر إذا شـبـعـوا
أراد بالناقة الحمراء الدهناء، وبالجمل الأصهب الصمان، كأنه يقول: ارتحلوا عن السهل والجؤوا إلى الجبال مخافة الغارات، والقائل كان أسيراً فكتب إلى قومه ينذرهم، وكانت بكر لهم عدواً فهو يقول: الناس كلهم إذا شبعوا أعداء لكم كبكر حذروهم، وهذا المعنى مذكور في قصة أخرى: يحكى أن رجلاً من بني العنبر كان أسيراً في بكر بن وائل، فسألهم رسولاً إلى قومه فقالوا له: لا ترسل إلاّ بحضرتنا، وكانوا أزمعوا غزو قومه، فتخوفوا أن ينذرهم، وذلك هو ما أراد هو أيضاً، فأتوه بعبد أسود فقال له: أبلغ قومي التحية وقل لهم: ليكرموا فلان، يعني أسيراً من بكر كان عندهم، فإن قومه لي مكرمون، وقل لهم إن العرفج قد أدبي، وقد شكت النساء. وأمرهم أن يعروا ناقتي الحمراء، فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملي الأصهب بآية ما أكلت معهم حيساً، واسألوا الحارث عن خبري، فلما أبلغهم العبد الرسالة قالوا: جُنّ الأعورُ، والله ما نعرف له ناقة حمراء ولا جملاً أصهب، ثم سرّحوا العبد ودعوا الحارث فحدثوه بالحديث فقال: قد أنذركم، أما قوله: العرفج قد أدبى فكناية عن الرجال وأنهم استلأموا أي لبسوا الدروع للغزو، وقوله: شكت النساء أي اتخذن الشكاء للسفر، وهي جمع شكوة، معروفة، والحيس أراد به الأخلاط من الناس المجتمعون للغزو، لأن الحَيْسَ يجمع الأقِطَ والسمن والتمر.
*د يحيى
17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه40    كن أول من يقيّم
 
لله الأمر من قبل ومن بعد
فضل العلم
كنت في أعوام الستين وألف مرتحلاً في طلب العلم، فدخلت قرية في أرض دكالة، فرأيت فيها رجلاً مسناً قد لازم المسجد منقطعاً عن الناس، فجلست إليه مستحسناً لحاله، وفي الحديث "إذَا رَأيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْداً في الدُّنْيَا وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ فَادْنُوا مِنْهُ، فَإنَّهُ يُلَقَّنُ الحِكْمَةَ".
فلما دنوت منه إذا هو يعظم العلم وأهله تعظيماً بالغاً، فازددت به عجباً، فكنت أجلس بين يديه ويحدثني ويصبرني على الغربة، ويحضني على العلم رحمة الله عليه، وأنشدني في شأن الغربة ملحوناً:
أنا الغريب الـمـتـوح          صابر على كلّ هانـا
إلى نتجرح ما نقـل اح               في قلب من قطعت أنا
وفي نحو هذا يقول الشاعر:
إذا كنت في قوم عِداً لست منـهـم            فكل ما علفت من خبيث وطـيب
وإن حدثتك النّـفـس أنـك قـادر               على ما حوت أيدي الرجال فكذب
وقال الآخر:
لا يعدم المرء كِنّاً يستـقـر بـه                وَبُلغةً بين أهلـيهِ وأحـبـابـه
ومن نأى عنهم قلت مهـابـتـه               كالليث يحقر لما غاب عن غابه
وقال الحريري:
إن الغريب الطويل الذيل ممتهن             فكيف حال غريب ما له قوت
وأنشدني في مدح العلم ملحوناً:
العلم شـمـعـا مـنـيرا          يتـنـاولـه الأكــياس
ما فـوق مـنـو ذخـيراً         يزول عن القلب الإحساس
وفضل العلم وشرفه أمهر أشهر من أن يذكر، وأوضح من أن ينكر، ويكفي في ذلك النظر.
 ومن غريب ما حكي أنه اتفق للفقيه الخليل الإمام ابن عرفة رضي الله عنه وكان قد مرض فأصابه غشي قال: فجاءتني طائفتان: إحداهما عن يميني وجعلوا يرجحون الإسلام، والأخرى عن يساري وجعلوا يرجحون الكفر، عياذاً بالله تعالى. قال: فأخذ هؤلاء يلقون شبه الكفار ويلهمني الله تعالى الجواب عنها بما كنت عرفت من قواعد العقائد، فعلمت أن العلم ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة.
لله الأمر من قبل ومن بعد
الانزعاج عن الوطن
خرجت في أعوام التسعين وألف من حضرة مراكش حرسها الله، وكنت إذ ذاك منزعجاً عن الوطن، مباياٌ للقطين والسكن، فلقيت أعرابياً من هوارة، وهم حي من شبانة، فإذا هو قد انزعج عن وطنه في السوس الأقصى، فحدثني عن أحمد بن عبد الله بن مبارك الوقاوي أنه كان هبت له ريح فحسده قومه وقالوا عنه وهو في غربته حتى خرج عن وطنه إلى وداي السوس، قال: فجئته ذات مرة وهو في غربته، فقال لي: أين العرب وأين القوالون؟ قال: فقلت: هم بحالهم، لم يزالوا يقولون، قال ثم أنشد هو ملحوناً:
إلى برك لي الزمان أركبت علـيه            ولى راد المولى نلقاه عـراضـا
برك لي مركوب فإني ضاري بـه            ما نحسبش أيامي علي مغتاضـا
نصبر لأحكام المولى حتى تتقاضا          
في قوله: مغتاضاً من الغيظ، وأبدل من الظاء "هنا" ضاداً، وكان هذا من عجيب الاتفاق، فإن هذا القول مناسب لأحوالنا معشر الثلاثة، أعني القائل والراوي والسامع، وقوله: "نصبر لأحكام المولى حتى تتقاضا" هذا هو أدب العبد، وهو الصبر لأحكام الله تعالى والسكون تحت مجاري الأقدار، قال تعالى: (وَاصْبِرْ لحُكْمِ رَبّكَ...)، ونحوه من نصوص الكتاب والسنّة وأقوال أئمة الدين لا يحصى.
*د يحيى
17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 41    كن أول من يقيّم
 
 
واعلم أن الحكم حكمان حكم تكليفي وحكم تصريفي، وكلاهما يجب الإذعان له والتسليم.
أما التكليفي فهو الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة التي وردت بها الشريعة المطهرة.
وأما التصريفي فهو ما قدر على العبد من غير ذلك مما يرد عليه كالغنى والفقر والعز والذل والصحة والمرض والسرور والحزن وغير ذلك. ومورد الأول كلام الله تعالى أمراً ونهياً، ومورد الثاني قدرته تعالى إيجاداً وإعداماً على وفق مشيئته وعلمه؛ وكما لا بد من قبول الأول وامتثاله فعلاً وتركاً وتلقيه بالصبر على ما فيه من المشقة على النفس، وقد تضمحل أيضاً دواعي النفس فيرتقي العبد إلى الرضى والاستلذاذ، كذلك لا بد في الثاني من تلقي محبوبه بالشكر ومكروهه بالصبر؛ وقد تضمحل أيضاً دواعي النفس فيرتقي العبد إلى الرضى.
ثم إن كل شيء قدر على العبد فلا محالة يقدر له وقت يقع فيه لا يتقدمه ولا يتأخر عنه، فمتى حان وقت شيء فهو بارز لا محالة خيراً كان أو شراً لا يمكن أن لا يبرز ولا أن يبرز غيره في موضعه، فالبصير يستكن حتى ينقضي بانقضاء وقته فيجمع بين راحة قلبه والأدب مع ربه، والجاهل يقلق منه أو يروم ظهور غيره دونه فيصير أحمق الحمقاء، ولا يحصل إلا على الشقاء.
وقال صاحب "الحكم العطائية": "ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهر الله فيه" وقالوا: الوقت سيف، وأنشدوا:
وكالسيف إن لاينته لان مسه                وحَدَّاه إن خاشنته خَشِنـان
ولله الأمر من قبل وبعد
النفس والشيطان
وأنشدني أبو البقاسم بن بوعتل الشباني ثم الزراري لبعض الأعراب ملحوناً:
يا رأسـي عـيبـك بــان                والى عيبو ما يصيب ايدسو
قالوا علة ابن آدم شـيطـان           وإنا نقول علة ابن آدم نفسو
قبـل لا يزيغ إبـلـــيس        اش يكـون ابـلـيســو
فانظر إلى هذا الأعرابي كيف غاص على معنى كبير وهو أن نفس الإنسان سبب هلاكه بإذن الله تعالى إلاّ من عصمه الله، وكيف وقع على حجة برهانية وقياس منظوم في النفس، وتقريره أن يقول: لو كان كل زائغ إنما يزيغ بشيطان لكان إبليس حين زاغ بإبليس آخر، والتالي باطل للزوم التسلسل فالمقدم مثله.
  ونحو هذا في الاستدلال ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أبطل العدوى بمعنى أنه لا تأثير فيها لغير الله تعالى فقال له الأعرابي: ما بالنا نرى الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيدخلها جمل أجرب فتجرب كلها، فقال له صلى الله عليه وسلم:"فَمَنْ أعْدَى الأوَّلَ"؟ أي لو كان جمل إنما يأتيه هذا البلاء من آخر قبله لزم التسلسل، وهو باطل، فلا بد أن ينتهي الأمر إلى بعير يصيبه البلاء من عند الله بلا سبب هذه العدوى فيعلم عند ذلك أن الله تعالى هو الفاعل المختار، يفعل الشيء عند الشيء، وهو قادر أن يفعله بلا شيء ولا عند شيء، سبحانه عما يشركون.
واعلم أن ما ذكره هذا الأعرابي في ملحونه من أن علة الإنسان نفسه صحيح، وعزله الشيطان عن ذلك غير صحيح إن أراد أنه لا مدخل له، وإن أراد أنه غير مستقل بالإضرار لمشاركة النفس له أو أن ضرر النفس هو الأعظم لأنها المباشرة والشيطان متسبب فصحيح، وتقرير هذه الجملة باختصار: إن كلاً من النفس والشيطان مضر بالعبد فهما متظاهران على العبد كما قال "بعضهم" وقد ضم إليهما الدنيا والهوى:
إني بليت بأربـع يرمـينـنـي          بالنبل عن قوس لهـا تـوتـير
إبليس والدنيا ونفسي والـهـوى             يا رب أنت على الخلاص قدير
وسبب ذلك أن الآدمي لما أبدعه الله تعالى بقدرته مؤتلفاً من الأخلاط ذا مزاج جعله سبحانه بباهر حكمته وسابق مشيئته مفتقراً عادة في بقاء وجوده الشخصي إلى القوام وهو الغذاء بالطعام والشراب وفي بقاء وجوده النوعي إلى التوالد بواسطة "النكاح، فطبع فيه عند ذلك شهوة الأكل وشهوة النكاح" و "لو" لم يكن ذلك طبعاً لافتقر إلى داع آخر فيتسلسل، أو يبقى فاتراً عن ذلك فيهلك شخصاً أو نوعاً، فسبحان المدبر الحكيم.
*د يحيى
17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 42    كن أول من يقيّم
 
لله الأمر من قبل ومن بعد
الحكم التكليفي والحكم التصريفي
واعلم أن الحكم حكمان حكم تكليفي وحكم تصريفي، وكلاهما يجب الإذعان له والتسليم.
أما التكليفي فهو الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة التي وردت بها الشريعة المطهرة.
وأما التصريفي فهو ما قدر على العبد من غير ذلك مما يرد عليه كالغنى والفقر والعز والذل والصحة والمرض والسرور والحزن وغير ذلك. ومورد الأول كلام الله تعالى أمراً ونهياً، ومورد الثاني قدرته تعالى إيجاداً وإعداماً على وفق مشيئته وعلمه؛ وكما لا بد من قبول الأول وامتثاله فعلاً وتركاً وتلقيه بالصبر على ما فيه من المشقة على النفس، وقد تضمحل أيضاً دواعي النفس فيرتقي العبد إلى الرضى والاستلذاذ، كذلك لا بد في الثاني من تلقي محبوبه بالشكر ومكروهه بالصبر؛ وقد تضمحل أيضاً دواعي النفس فيرتقي العبد إلى الرضى.
ثم إن كل شيء قدر على العبد فلا محالة يقدر له وقت يقع فيه لا يتقدمه ولا يتأخر عنه، فمتى حان وقت شيء فهو بارز لا محالة خيراً كان أو شراً لا يمكن أن لا يبرز ولا أن يبرز غيره في موضعه، فالبصير يستكن حتى ينقضي بانقضاء وقته فيجمع بين راحة قلبه والأدب مع ربه، والجاهل يقلق منه أو يروم ظهور غيره دونه فيصير أحمق الحمقاء، ولا يحصل إلا على الشقاء.
وقال صاحب "الحكم العطائية": "ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهر الله فيه" وقالوا: الوقت سيف، وأنشدوا:
وكالسيف إن لاينته لان مسه                وحَدَّاه إن خاشنته خَشِنـان
ولله الأمر من قبل وبعد
النفس والشيطان
وأنشدني أبو البقاسم بن بوعتل الشباني ثم الزراري لبعض الأعراب ملحوناً:
يا رأسـي عـيبـك بــان                والى عيبو ما يصيب ايدسو
قالوا علة ابن آدم شـيطـان           وإنا نقول علة ابن آدم نفسو
قبـل لا يزيغ إبـلـــيس        اش يكـون ابـلـيســو
فانظر إلى هذا الأعرابي كيف غاص على معنى كبير وهو أن نفس الإنسان سبب هلاكه بإذن الله تعالى إلاّ من عصمه الله، وكيف وقع على حجة برهانية وقياس منظوم في النفس، وتقريره أن يقول: لو كان كل زائغ إنما يزيغ بشيطان لكان إبليس حين زاغ بإبليس آخر، والتالي باطل للزوم التسلسل فالمقدم مثله.
  ونحو هذا في الاستدلال ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أبطل العدوى بمعنى أنه لا تأثير فيها لغير الله تعالى فقال له الأعرابي: ما بالنا نرى الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيدخلها جمل أجرب فتجرب كلها، فقال له صلى الله عليه وسلم:"فَمَنْ أعْدَى الأوَّلَ"؟ أي لو كان جمل إنما يأتيه هذا البلاء من آخر قبله لزم التسلسل، وهو باطل، فلا بد أن ينتهي الأمر إلى بعير يصيبه البلاء من عند الله بلا سبب هذه العدوى فيعلم عند ذلك أن الله تعالى هو الفاعل المختار، يفعل الشيء عند الشيء، وهو قادر أن يفعله بلا شيء ولا عند شيء، سبحانه عما يشركون.
واعلم أن ما ذكره هذا الأعرابي في ملحونه من أن علة الإنسان نفسه صحيح، وعزله الشيطان عن ذلك غير صحيح إن أراد أنه لا مدخل له، وإن أراد أنه غير مستقل بالإضرار لمشاركة النفس له أو أن ضرر النفس هو الأعظم لأنها المباشرة والشيطان متسبب فصحيح، وتقرير هذه الجملة باختصار: إن كلاً من النفس والشيطان مضر بالعبد فهما متظاهران على العبد كما قال "بعضهم" وقد ضم إليهما الدنيا والهوى:
إني بليت بأربـع يرمـينـنـي          بالنبل عن قوس لهـا تـوتـير
إبليس والدنيا ونفسي والـهـوى             يا رب أنت على الخلاص قدير
وسبب ذلك أن الآدمي لما أبدعه الله تعالى بقدرته مؤتلفاً من الأخلاط ذا مزاج جعله سبحانه بباهر حكمته وسابق مشيئته مفتقراً عادة في بقاء وجوده الشخصي إلى القوام وهو الغذاء بالطعام والشراب وفي بقاء وجوده النوعي إلى التوالد بواسطة "النكاح، فطبع فيه عند ذلك شهوة الأكل وشهوة النكاح" و "لو" لم يكن ذلك طبعاً لافتقر إلى داع آخر فيتسلسل، أو يبقى فاتراً عن ذلك فيهلك شخصاً أو نوعاً، فسبحان المدبر الحكيم.
*د يحيى
17 - فبراير - 2008
 2  3  4  5  6