قبل النهضة الأوروبية (2) كن أول من يقيّم وقد جعل ألفونس السابع ( 1126 – 1157م ) طليطلة في إسبانيا المركز الذي تنتشر منه الثقافة العربية في أنحاء إسبانيا وأوربا، وقد دعا إلى مدينته المترجمين من أنحاء الغرب، وأدخل الثقافة العربية في مناهج المدارس المسيحية يساعده في ذلك أسقف طليطلة رايموندو، الذي حفز مدرسة المترجمين الطليطليين على نقل المؤلفات العربية في الفلك والرياضيات والطب والكيمياء والطبيعة وما وراء الطبيعة وفلسفة أرسطو وشروح الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. وترجمت مؤلفات إقليدس وبطليموس وأبقراط وجالينوس بشروح أعلام العرب وبلغت طليطلة الذروة في عهد ألفونس الحكيم ( 1252 – 1284 ) وهرع إليها المتعطشون إلى مناهل العلم اليوناني والعربي من أمثال سكوت الإنجليزي الذي ترجم بعض كتب أرسطو وابن سينا والبطروجى وكتب ابن رشد وشروحه على أرسطو إلى اللاتينية، ومثله هرمان الألماني في كثرة الترجمة لكتب الثقافة العربية إلى اللاتينية، وقد نقل إليها كتب ابن رشد والفارابي. وبجانب طليطلة ومدرستها الكبيرة في ترجمة الثقافة العربية مدرسة سالرنو في جنوب إيطاليا،وقد نشأت في القرن العاشر الميلادي، وأتيح لها في القرن الحادي عشر الميلادي قسطنطين الإفريقي من قرطاجة التونسية، وكان قد ثقف العربية وعلوم الأوائل، وعرض على روجار الأول ملك صقلية ترجمة الكتب العربيـة فشجعه، فرجع إلى تونس واختار له أنفس ما كتبه أطباؤها، كما اختار له روائع ما كتب العرب في الفلك والرياضيات، وكان قد أصبح أسقفًا، فأسس له ديرًا في جبل كاسينو بالقرب من سالرنو، فأغرى رهبان الدير بتعلم العربية وترجمة ما حمله من الكتب العربية، واشترك معهم في الترجمة، ودُرس ما ترجموه في مدرسة سالرنو ومنها نقل إلى الجامعات الأوربية، وبذلك أصبحت مدرسة الترجمة في سالرنو مركزًا كبيرًا لنقل الثقافة العربية إلى الغرب منذ القرن الحادي عشر الميلادي. ونقل الغرب عن العرب علوم اليونان والأمم القديمة وما أضاف العرب إليها من نظريات علمية قيمة، وأبدأ بالرياضيات وبعلم الفلك من علومها، فقد صاغ لهم الفزاري في القرن الثاني الهجري ما للهند فيه ولم يلبثوا أن نقلوا إلى لغتهم ما ذكره بطليموس الإسكندري من نظريات الفلك وتنشأ عندهم مراصده منذ عهد المأمون وزيجاته وآلاته. ومن كبار علماء الفلك في منتصف القرن الثالث الهجري ابن كثير الفرغاني. ويقول ألدومييلي إن لكتابه أصول الفلك ترجمات كثيرة إلى اللاتينية وأثر تأثيرًا محسوسًا في الغرب وله كتب متعددة في الأسطرلاب، ومن الفلكيين بعده أبو معشر البلخي المتوفى سنة 272 للهجرة وله تأثير واسـع عند مسيحيي الغرب في العصور الوسطى. ومن كبار الفلكيين في المشرق بعده البتاني في أوائل القرن الرابع الهجري، وكان له مرصد على نهر الفرات وترجم زيجه إلى اللاتينية وضمنه أرصاد النيرين وإصلاحه لحركاتهما في كتاب بطليموس، ولنالينو كتاب عنه. وينشط علم الفلك وكل ما يتصل بالرياضيات في جميع البلاد العربية. وخير من يصور ذلك في مصر أبو كامل شجاع بن أسلم في أواخر القرن الثالث الهجري ويشتهر بتنقيحه لعلم الجبر، ويذكر ألدومييلي أن له رسالة في المضلع ذي الزوايا الخمس ترجمت إلى الإيطالية والألمانية، مما يدل على أنه كان حاذقًا في الرياضيات والهندسة. ومن كبار علماء الفلك المصريين ابن يونس، ويقول ألدومييلي : كان راصدًا للفلك عالمًا رفيع المنزلة للظواهر السماوية، وبدأ يعمل زيجًا في عهد الخليفة العزيز الفاطمي وأتمه في عهد الخليفة الحاكم، وكان كبيرًا ويشغل أربعة مجلدات ضخام ، ويدل على زيادة النشاط الرياضي بمصر والدراسات الفلكية والهندسية والفلسفية حينئذ أن عالما رأى خزانة القصر الفاطمي سنة 435هـ وكان بها في تلك الدراسات ستة آلاف وخمسمئة جزء وكرة نحاس من عمل بطليموس الإسكندري. واشتهر في عهد الأيوبيين قيصر بن أبى القاسم المتوفى سنة 649 للهجرة وكان مهندسًا كبيرًا. وأقام لأمير حماة في الشام نواعير نهر العاصي، وتنحدر إليها المياه من علو شاهق إلى اليوم، وأنشأ كرة سماوية عظيمة وهي محفوظة إلى الآن في المتحف الوطني لمدينة نابولي بإيطاليا. ويؤلف البيروني سنة 421هـ كتابه القانون المسعودي في الفلك والتنجم، ويقال إنه يتفوق على كل كتاب فيهما. وترجم إلى اللاتينية. ويزدهر علم الفلك في الأندلس منذ مسلمة المجريطى في أواخر القرن الرابع الهجري ، ويفتتح سلسلة الرياضيين العظام هناك وترجم إلى اللاتينية شرحه لقبة الفلك لبطليموس ورسالة له عن الأسطرلاب. ومن كبار علماء الفلك هناك الزرقالي المتوفى سنة 472هـ ، وله زيجات أو جداول فلكية، واخترع للأسطرلاب أجهزة دقيقة وابتكر في الفلك نظرية جديدة عن الكواكب السيارة والحركات الدائرية للنجوم ، وأعماله مترجمة إلى اللاتينية. ويشتهر بعده جابر بن أفلح الإشبيلي بكتابه في علم النجوم الذى سماه "إصلاح المجسطي" وترجمه دي كريمونا إلى اللاتينية. ويتألق اسم البطروجي في النصف الأول من القرن الثاني عشر الميلادي بكتابه في علم الهيئة الذي قوَّض فيه نظرية بطليموس في كتابه عن الكواكب السيارة ذاهبًا إلى أنها تتحرك في مدارات إهليليجية أو بيضاوية حول الشمس، وكانت نظرية بطليموس قد ظلت تنتقل قرونًا بعد قرون وجيلاً بعد جيل إلى أن هدمها البطروجي. وترجم ميشيل سكوت كتابه إلى اللاتينيـة سنة 614 هـ / 1217 م وبذلك أدخل نظـرية البطروجي الفلكية مبكرًا إلى العالم الغربي ، وبدون شك اطلع عليها كبلر الألمانى ( 1571 – 1630 م ) وصاغ على أساسها نظريته الفلكية المشهورة في مدارات الكواكب السيارة وعُدَّ بها أبًا لعلم الفلك الحديث ، وهو ليس أباه الشرعي ، فأبوه الشرعي البطروجي الإشبيلي العربي. ويلقانا في الهندسة الفضل بن حاتم وله شرح على كتاب الأصول في الهندسة ترجمه إلى اللاتينية دي كريمونا وله شـــرح على كتاب بطليموس في الفلك. وكما عُني الغربيون بمباحث الهندسة العربية عنوا بعلم العدد وحساب المثلثات. ومن العلوم اليونانية التي نهض بها العرب نهضة كبيرة الطب، وقد نقل العرب عن اليونان لبقراط وجالينوس كل ما ألفاه فيه من كتب ورسائل ، وازدهرت دراسة هذا العلم عند العرب ازدهارًا عظيمًا، ومن أكبر أطبائهـم محـمد ابـن زكريـا الـرازي المتـوفى سنـة 320 للهجـرة رئيـس بيمارستان بغداد وأهم كتبه في الطب كتاب "الحاوي" وهو موسوعة طبية ضخمة، وتُرجم إلى اللاتينية، واستخرج منه مايرهوف 33 ملاحظة إكلينيكية مهمة وفيه وصف لكثير من الأمراض، ومن أشهر مؤلفاته رسالة في الفروق بين الجدري والحصبة، وهي بحث طبي عالمي وترجمت إلى اللاتينية واليونانية واللغات الحية. ويلي كتابه "الحاوي" في الشهرة كتاب المنصوري الذي ترجم مرارًا في العصور الوسطى وعصر النهضة، وطبع الجزء الأول منه الخاص بالتشريح طبعة فرنسية، وترجم بروند القسم الخاص بالرمد. وكانت مصر تعنى بالطب منذ عصر الفراعنة،وعنيت به في مدرسة الإسكندرية لعهد البطالسة، وظلت عنايتها متصلة بعد احتراق مكتبة الإسكندرية، أجيالاً بعد أجيال، ونرى عمر بن عبد العزيز حين صار خليفة يستدعي منها طبيبه ابن أبجر، ويَلْزمه، كما نرى هارون الرشيد يستدعي منها طبيبًا مشهورًا لعلاج إحدى جواريه هو بليطيان وكان بطريركًا لها في القرن الثامن الميلادي، وكانت كثرة أمراض العيون في مصر سببًا في نبوغ أطبائها في الرمد ولخلف الطولوني في القرن الثالث كتاب "النهاية والكفاية في تركيب العينين وأدويتهما"، وتألق اسم عمار بن علي طبيب العيون في عهد الخليفة الفاطمي الحاكم ، واشتهر بنجاحه في إجراء عملية ماء العين (الكاتاراكت) وابتكر لها الإبرة المجوفة التى تمتص ماء العين كما يقول ألدومييلي، وله المنتخب في علاج أمراض العين. ومن الأطباء الكبار في مصر علاء الدين أبو الحزم بن نفيس القرشي المصري في العصر المملوكي طبيب الظاهر بيبرس المتوفى سنة 687 وكان رئيسًا لأطباء مستشفى قلاوون واكتشف لأول مرة الدورة الدموية الثانية مسجلاً بذلك كشفًا طبيًّا مهمًّا. ويقول ألدومييلي: "إن سرفيتو نقله عنه في القرن السادس عشر كلمة كلمة. ومما يدل على شهرة مصر في الطب أن نجد السلطان العثماني يرسل في سنة 795 إلى السلطان برقوق المملوكي رسالة يسأله فيها أن يرسل إليه بطبيب مختص بأمراض المفاصل وأرسل إليه رئيس الأطباء ابنًا صغيرًا ومعه أدوية كثيرة لعلاجه. ويزدهر علم الطب في الأندلس منذ عهد عبد الرحمن الناصر في النصف الأول من القرن الرابع الهجري ، ولا يلبث هذا الازدهار أن يتوَّج بالزهراوي أبي القاسم خلف بن عباس طبيب ابنه المستنصر المتوفى سنة 404 للهجرة وهو أعظم الأطباء الجراحين من العرب ، وله موسوعة طبية في ثلاثين جزءًا سماها "التصريف لمن عجز عن التأليف" وجعلها ثلاثة أقسام : قسمًا في الطب العام والأمراض ، وقسمًا في الصيدلة، وقسمًا في الجراحة أرفق به صورًا كثيرة لآلاتها. وتُرجم جميعه وأجزاء منه إلى الغرب مرارًا، وانتشرت ترجماته في البلدان الأوربية، ويقول ألدومييلي إنه نال أسمى درجات التقدير في أنحاء أوربا، وظل يدرس في جامعاتها من القرن الحادي عشر الميلادي إلى القرن السابع عشر كما ظل الأطباء في الغرب يعدونه إمامهم في جراحة العظام وحصاة المثانة وتفتيتها وعمليات الفتق والدوالي وبذلك يعد أبًا للجراحة العالمية كما عد البطروجي أبًا لعلم الفلك وابن رشد أبًا لحركة التنوير الفكري في الغرب. ومنـذ القـرن الخـامس الهجـري تشتهـر أسـرة بني زهر بأطبائها ، مثل عبد الملك الذي طبع كتابه "التيسير" في الغرب مرارًا. ويقول ألدومييلي: "يعد عبد الملك أعظم طبيب إكلينيكي عند العرب". ولابن رشد في الطب كتابه "الكليات" وفيه يعرض التشريح ووظائف الأمراض وأعراضها والأدوية وعلاجها ، وطبعاته تكررت في الغرب. وكما ازدهر الطب عند العرب ازدهرت الصيدلة منذ ترجمة كتاب ديسقوريدس في الحشائش والأدوية، ويشتهر كتاب فيها لسابور بن سهل في النصف الأول من القرن الثالث الهجري،وتكثر الصيادلة شرقًا وغربًا، وتشغل الصيدلة القسم الثاني من كتاب الزهراوي السالف،ويشتهر فيها بالقرن السادس الهجري كتاب الغافقي الأندلسي عن الأدوية المفردة في العقاقير وقد ترجم إلى اللاتينية. وأهم صيادلة العرب على مر العصور ابن البيطار الأندلسي الذى جعله السلطان الكامل الأيوبي رئيسًا للصيادلة بمصر، وأهم كتبه "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" وبه(330) دواء عن اليونان والعرب وزاد عليها 300 دواء، وترجم إلى الفرنسية والألمانية. وترجم مبكرًا إلى العربية كتاب الأصول لإقليدس في الأشكال الهندسية ودفع إلى نشاط كبير في علم الهندسة. وللكندي فيه كتاب ترجمه دي كريمونا إلى اللاتينية، وله ترجمة فرنسية، ويقول ألدومييلي: "إنه أثر تأثيرًا ملحوظًا في: بيكون ووايتلو". ومن كبار الرياضيين وأهمهم أبو الوفا البوزجانى المتوفى سنة388هـ، ويقول ابن خَلِّكان: "هو أحد الأئمة المشهورين في علم الهندسة، وله فيه استخراجات عربية لم يسبق بها" ويقول فيه ألدومييلي : "شارح إقليدس وبطليموس عالم أصيل رفيع المنزلة ويقترن اسمه بتنمية حساب المثلثات والمسائل الهندسية". وأعظم المهندسين الرياضيين عند العرب الحسن بن الهيثم البصري نزيل القاهرة والمتوفى بها سنة 430هـ وقد ظل بها ثلاثين سنة ، وفيها ألف كتابه "المناظير في علم الضوء والعدسات" وفيه يذهب إلى أن الضوء ينشأ من المرئيات لا من العين ، كما كان يظن سابقوه ، ويدرس ظاهرة الانكسار الجوي والرؤية المزدوجة بالعينين ، وهو أول من استعمل الغرفة المظلمة. وتحدث ألدومييلي عن ترجماته وعمَّن تُعَدّ مؤلفاتهم مقتبسة من كتابه البصريات أو مأخوذة منه. وفى القرن الحادي عشر الميلادي استدعى الملك روجار الثاني ملك صقلية من غرناطة إلى بالرمو عاصمته الشريفَ الإدريسيَّ ليؤلف له كتابًا جغرافيًّا، ويقول ألدومييلي إنه من علماء العرب الذين اشتركوا في نقل كنوز العلم العربية إلى الغرب واستجاب لروجار، وظل عنده، وألف له كتابه الباهر: "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، وألحق به كرة فضية تزن ثمانمئة أوقية رسم عليها خريطة الأرض وأقاليم شعوبها المعروفة، مثبتًا عليها خطوط الطول والعرض لأول مرة في الخرائط العربية ويقوم الكتاب من الخريطة مقام الشرح والتكملة، وهما بحق كما يقول ألدومييلي عملان علميان باهران نقلا إلى الغرب كما نقلت الأعمال الباهرة السابقة لأعلام العرب في العصور الوسطى، وانتفعوا بها انتفاعًا عظيمًا. ولعلي في هذه الكلمة الموجزة أكون قد أوضحت تأثير الثقافة العربية في الثقافة الغربية الحديثة، وما أتمت للعلم العالمي من اكتمال دوره الثاني إذ رعته ونمته صورًا متنوعة من النمو وطورته أطوارًا شتى، انطلق الغرب بها ينشئ للعلم العالمي دوره الثالث للنهوض بالثقافة الغربية الحديثة. والسلام عليكم ورحمة الله . شوقي ضيف |