نشأة الأدب المقارن وتطوره كن أول من يقيّم
نشأة الأدب المقارن وتطوره ظهر الأدب المقارن في صورة بدائية حين نهض الأدب اللاتيني على أثر اتصاله بالأدب اليوناني القديم، وتبلورت بذورها الأولى في عصر النهضة الأوربية، فتمثلت في نظرية جديدة أطلق عليها الكُتّاب : نظرية المحاكاة . والمقصود بالنشأة تلك التي حدثت للأدب المقارن في أوربا، حيث اكتمل مفهومه ـ وتشعبت أنواع البحث فيه، وصارت له أهمية بين علوم الآداب . أما عندنا- نحن العربَ- فذلك له مقال آخر. ويمكننا أن نتتبع الأدب المقارن عبر العصور التي مرت بها أوربا، على النحو التالي: 1ــ الدراسات الأدبية المقارنة في العصر القديم : أقدم ظاهرة في تأثير أدب في أدب آخر، ما أثر به الأدب اليوناني في الأدب الروماني : ففي عام 146م ق.م انهزمت اليونان أمام الرومان، ولكن اليونان أثرت في روما فجعلتها تابعةً لها ثقافيًّا وأدبيًّا، فروما مدينةٌ (معترفة) لليونان في فلسفتها وفنها ونزعتها الإنسانية. والثمرة التي أثمرتها تلك التبعية لدى النقاد اللاتينيين "نظرية المحاكاة" في عصر النهضة الأوربية. وقد اختلف النقد الأوربي القديم في مفهوم المحاكاة: فهناك تعريف للمحاكاة عند "أرسطو" حين أراد أن يبين الصلة بين الفن بعامة وبين الطبيعة؛ معنى المحاكاة عنده هو(تقليد الأدباء للطبيعة). أما المحاكاة عند اللاتينيين فهي: (الدعوة إلى السير على نهج الأدب اليوناني القديم ؛ رغبةً في نهضة الأدب اللاتيني ) يقول "هوراس" في كتابه (نقد الشعر): " اتبعوا أمثلة الإغريق، واعكفوا على دارستها ليلاً ،واعكفوا على دراستها نهارا" . وهذا اعتراف منه بأن محاكاة اليونانيين في أدبهم مثمرة . ثم جاء من بعدهم "كانتيليان" وهو ناقدٌ روماني، شرح نظرية المحاكاة، فقد سن لهذه المحاكاة قواعد عــامــة : الأول : أن المحاكاة للكُتّاب والشعراء مبدأٌ من مبادئ الفن لا غنًى عنه، وهو يقصد محاكاة اللاتينيين اليونانَ. الثاني : أن المحاكاة ليست سهلة، بل تتطلب مواهب خاصة في الكاتب الذي يُحاكي. الثالث : أنّ المحاكاة يجبُ ألا تكون للكلمات والعبارات، بقدر ما هي لجوهر الأدب ومنهجه وموضوعه. الرابع : أنّ على من يُحاكي اليونانيين أن يختار نماذجه التي يتيسر له مُحاكاتها، وأن تتوافر له قوة الحكم ليميز الجيد من الرديء . الخامس : يُقرر " كانتيليان" أنّ المحاكاة في ذاتها غير كافية، ويجب ألا تعوق الشاعر، وألا تحول دون أصالته. وفي ظل نظرية المحاكاة، تم للأدب الروماني الازدهار، وتم وجود صورة بدائية ساذجة للدراسات الأدبية المقارنة . 2ــ الدراسات الأدبية المقارنة في العصور الوسطى : خضعت الآداب الأوربية في هذه العصور لعوامل مشتركة، وكان لهذا الاشتراك في اتجاه الأدب مظهران عامان: أولهما : ديني : حيث كان رجال الدين فيه هم المسيطرون، فكان منهم القراء والكتّاب معًا . وتغلغلت الروح المسيحية في ذلك الإنتاج الأدبي، فكانت اللاتينية هي لغة العلم والأدب كما كانت لغة الكنيسة. وثانيهما : أنه كان للفروسية التي وحدت بين كثير من الآداب الأوربية في تلك العصور . ولكن في هذه العصور الوسطى لم يوجد فيها مجال للدراسات الأدبية المقارنة، بسبب هيمنة الكنيسة على الأدباء في تلك الفترة، ورفضها لكل ما هو يوناني لأنه وثني خرافي!!! 3ــ الدراسات الأدبية المقارنة في عصر النهضة : اتجهت الآداب الأوربية وجهت الآداب القديمة من يونانية ولاتينية، وكان للعرب فضل توجيههم إلى ذلك، بما قاموا به من ترجمات لتراث الفلاسفة اليونان وبخاصة "أرسطو". وكانت الدعوة إلى الرجوع لآداب اليونان والرومان ومحاكاتها بمثابة ثورة فكرية في ذلك العصر ؛ لأنها كانت تتضمن الخروج على آداب العصور الوسطى ذات الطابع المسيحي . وعاد رجال الأدب ـ في عصر النهضة ـ إلى شرح نظرية المحاكاة، محـاكاة الأقدمين من يونانيين ولاتينيين، وكان هذا الشرح أوضح ما يكون لدى "جماعة الثريا ". وجماعة الثريا: جماعة أدبية تكونت من شعراء فرنسيين بارزين في عهد الملك هنري الثاني، وقد كان أهم أعضائها : دورا، ودي بلي، وبلتييــر، وكان هدفهم من نظرية المحاكاة ؛ باعتبارها وسيلة ناجحة لإغناء اللغة الفرنسية نظريًّا وتطبيقيًّا، وكانت خلاصة رؤيتهم لنظرية المحاكاة أنهم اهتموا بالكشف عن كنوز الآداب القديمة (اليونانية، والرومانية، والإيطالية) لمحاكاتها، وأنها لابد أن تؤثر في أدب الفرنسيين. وكذلك كانت من خلاصة رؤيتهم أن المحاكاة الإيجابية تكون لأدب مخالف لأدبهم في اللغة، لأن في المحاكاة لأدب من اللغة نفسها جمودًا وتكرارًا للجهود. كما أن المحاكاة الرشيدة هي التي لا تمحو أصالة الكاتب بل لابد عليه أن يتجاوز النموذج المُحاكَى . ويعد ( دورا ) ـ وهو شاعر وناقد من جماعة الثريا ـ سلك في تلقين تلاميذه معنى نظرية المحاكاة مسلكًا عمليًّا مثمرًا مُثيرًا؛ إذ أخذ يقرأ لهم النص الروماني ويقارنه بالنص اليوناني الذي يشبهه ويحاكيه! .. وتعدُّ دراسات (دورا) أقدم دراسة أدبية مقارنة بين أدب اليونان والرومان ـ وهو من الداعين إلى أن اللغة يمكن أن تتطور عن طريق محاكاتها للغاتٍ أقدم وأعرق. ويرى ناقد آخر من جماعة الثريا ( دي بلي ) في دفاعه عن اللغة الفرنسية، بأن الفرنسية لكي تتطور لابد من أن تحاكي اللغات القديمة الرومانية واليونانية والإيطالية، ويرى أنه لابد للشعراء من الرجوع إلى نصوص الآداب القديمة بأنفسهم وهضمها . ويرى أن الترجمة وحدها لا تكفي في الأدب ؛ إذ أنّ كل ترجمة خيانةٌ للأصل، وجحود بما له قيمة، فهو بذلك يرفضها، ويصر على أنه يجب على الأديب أن يطلع على أدب الآخرين بلغتهم، ولا يعتمد على الترجمة . ويرى (بلتييــر) ـ من جماعة الثريا ـ أن الترجمة الأمينة وفيةٌ لأصلها بما تنقل من كلمات وعبارات، وأن الترجمة الدقيقة خير من ابتكار أعوزه التوفيقُ . ويرى أن المحاكاة ليست تقليدا محضًا وإنما هي السير على هدى نماذج بشرية بمثابة قدوة للكاتب. وجاء من بعدهم " الشراح الإيطاليون" في شرح نظرية المحاكاة، وهي في نظرهم أن يراعي الأديب ثلاثة مبادئ : الأول : أن يختار النماذج التي تُحاكَى، ويميز صحيحها من زائفها . الثاني : أن يحاكي الأديب ما يتفق وعصره . الثالث : أن لا يحاكي الكُتاب من نفس لغتهم . ونتوصل من ذلك إلى التعريف النهائي لمصطلح المحاكاة وهو : " التأثير الهاضم الأصيل، لا التقليد الخاضع الذليل " . أي أنه يجب على الأديب المحاكاة للعمل الأدبي من أوله إلى آخره، وأن يعلن عن شخصيته وإبداعه، وإلا تكن محاكاته سفيهةً . 4ــ الدراسات الأدبية المقارنة في العصر الكلاسيكي : اتجه الأدب الكلاسيكي ـ بتأثير نظرية المحاكاة ـ إلى التقنين في الأدب، أي إلى النقد الفني العلمي ـ فكانت مهمة الناقد أن يضع قواعد لمختلف الأجناس الأدبية، وأن يدعو الكتاب للسير عليها، وأن يحكم على قيمة إنتاجهم عن طريق هذه القواعد؛ فمن يلتزم بها يكون في القمة مؤمنًا بالكلاسيكية، ومن يخرج عليها يهبط أدبه ويكون كافرًا بالكلاسيكية. ولكن بسبب الميل إلى التقنين في الأدب، وجعل قواعد النقد عائدةً إلى القدم ـ فقد خلا العصر الكلاسيكي (ق:17 و18) من أيه دراسات أدبية مقارنة مثمرة رغم وجود عوامل تساعد الدارس المقارن من اتصال الآداب الأوربية، وكثرة الرحلات. 5ــ الدراسات الأدبية المقارنة في العصر الحديث: كان القرن التاسع عشر في أوربا فيه تقدم ملحوظ في الناحية الاجتماعية، وفي البحوث العلمية، فكثرت الأسفار، وتعددت التراجم للآثار الأدبية، وعكف العلماء والكتاب على درس مختلف الظواهر الاجتماعية والأدبية . ونشأ عن ذلك اتجاهان عامان في نشأة الأدب المقارن همـا : أ ـ الحركة الرومانتيكية (الرومانسية) . ب ـ النهضة العلمية . ظهرت بحوثٌ كثيرة في أخريات القرن التاسع عشر والقرن العشرين. منها ما نشره العالم السويسري " مارك مونييه" في دراسته لتاريخ النهضة من (دانته) إلى (لوثر) ومن (لوثر) إلى (شكسبير) . ويؤخذ على هذه البحوث أنه لابد من التعرض لمظاهر علاقاتها وتأثيرها وتأثرها بالآداب الأخرى على نحوٍ منهجي . وقد اكتمل معنى الأدب المقارن على يد الباحث الفرنسي "جوزيف تكست" في آخر القرن التاسع عشر، وقد وجه ذلك خير توجيه على يد أستاذه "برونتيير" في مدرسة المعلمين العليا بباريس، وتمتاز دراسة "تكست" بالأفق الواسع والنظرة الشاملة في بيان تطور الأفكار . ثم ذاعت فكرة الأدب المقارن ورُوج لها في أوربا، وظهرت بحوث كثيرة تندرج تحت مفهومه وتتناول قضاياه، وآخر من يحمل لواء هذا العلم الأستاذ " ديدييه " وهو مدير معهد الأدب المقارن للآداب الأوربية الحديثة في السربون.... وللحديث بقايا عمل الطالبين: الزبير السد راني عبدا لله الفارسي إشراف الدكتور : صبري أبو حسين السنة والشعبة : 4/5 التاريخ : 25/2/2008م |