مشاهدات من أميركا (4) كن أول من يقيّم
الحلم الأميركي ثم عدنا إلى دالاس مرة ثانية . وقد زرت في أثناء إقامتي هذه المرة ولاية أوكلاهوما وولاية أركنساس وولاية كاليفورنيا ونيويورك . كذلك قمت بزيارة إلى شمال الولايات المتحدة إلى ديترويت ميشيغن حيث قضيت هناك حوالي الشهرين والنصف بضيافة زميلتي نوف . وأميركا ليست مسلية أبداً لمن يمكث فيها فترة طويلة من الزمن فأينما ذهبت تجد نفس المطاعم ونفس الفنادق ونفس الملاهي ونفس المنتجعات ونفس " المولات " الاسم الذي يطلقونه على المخازن الكبرى ونفس الأسماء . فهم يعتمدون على نظام السلسلة التي تقوم بفتح فروع لها في كل المدن . والمضحك بالأمر أنهم حتى يستأجرون المحلات بنفس الترتيب في كل مكان . المهم عندما تسأل أميركياً عن ماذا يفعل في أوقات فراغه فهو لا يتردد بأن يجيبك على الفور : أكل وتسوق وهذا هو شعارهم الأول . وهذه هي الهواية التي يمارسها 90 بالمئة من الشعب الأميركي . أما الباقي فيمارسون الهوايات المكلفة الأخرى كلعب الغولف والتنس وقيادة الزوارق المائية واقتنائها أو ركوب الخيل واقتنائها كذلك وهذا ما تراه كثيراً في تكساس . وإذا أردت التفصيل أكثر حول أميركا والأميركيين فإنني أستطيع البدء بأول شعور يتكون لديك عن البلد والشعب ( لأنني أعتقد بأن طبيعة الأرض تؤثر في طبيعة البشر , وكذلك طبيعة النظام السياسي السائد ) . بلد غني بكل شيء بالموارد الطبيعية المتنوعة وكذلك بطبيعة متنوعة فهو ممتد جغرافياً على مسافة واسعة من الأرض ويمكنك أن تختار هناك بين الطبيعة الجبلية أو السهلية أو المتوسطة الإرتفاع . أو بين المناخ الحار جداً والبارد جداً أو المعتدل . أو يمكنك أن تعيش قرب البحر أو في الصحراء أو في الغابات الشاسعة والتي لا تزال بكراً في أكثر المناطق . وإذا أردنا التكلم عن السكن فهو متوفر وبسهولة في هذه البلد كذلك العمل متوفر وبكثرة وحتى المتقاعدين والطاعنين في السن يمكنهم من إيجاد عمل مريح يسليهم ويجعلهم على احتكاك مباشر بالناس إذا أرادوا ذلك . وفي أميركا تسهيلات مالية كبيرة لمن أراد ذلك وعلى كافة الأصعدة . فحتى وأنت طالب تستطيع أن تحصل على قروض ميسرة من البنوك تستردها منك عندما تبدأ بالعمل وعلى دفعات . كذلك تستطيع الحصول على قروض للعمل والإستثمارات الصغيرة والكبيرة كذلك أنت تستطيع في تلك البلاد أن تشتري من أغلى المحلات وأن تدخل إلى أغلى المطاعم وأن ترتاد أفخم الأندية . وأن تدفع ثمن كل ذلك بواسطة بطاقات الدين التي تمنحك مبالغ معينة وتستطيع أن تسددها بطريقة مريحة . باختصار شديد الحياة سهلة مسهلة جداً في أميركا . وكل من يعيش في تلك البلاد يستطيع أن يلمس هذا بسرعة وأن يتمتع بنظام الحياة . هذه إذا شاء ذلك !! أو إذا شاءت له الأقدار والظروف ذلك !! فهناك دائماً ولكن مخفية في مكان ما من ذلك النظام . ولكن ... لنظام الحياة هذا ثمناً وثمناً باهظاً أيضاً !! فهو ككل شيء سهل .. يوصل إلى الحائط المسدود . فالأميركي ( أياً تكن هويته ) لا يستطيع أن يحيا حياته على مهله فهو مضطر لأن يسابق الزمن دائماً لكي يشعر بأنه مسيطر على جزء من حياته . فعندما يدخل الشخص في نطام الإقتراض السهل هذا ( وخصوصاً في الفترة الأولى ) لا يدري إلا وهو مكبّل بكميات كبيرة من الدين الذي يجب عليه سداده : فمن قسط التعليم إلى قسط الهاتف , إلى قسط السيارة , إلى قسط المنزل , إلى قسط الأثاث , إلى قسط الطبابة والأدوية , إلى قسط الإجازات والترفيه إلى قسط بعض المصاريف النثرية المتفرقة من ماء وكهرباء وخلوي . كل هذا يجعله مكبلاً . وتصبح الحياة عملية حسابية معقدة بين ما تنتجه وما تستهلكه من أموال . والأمور تبقى صمن المعقول إذا ما كنت تعمل بشكل دائم ومنتظم ولديك دخل مقبول . ولكن !! وهنا الكارثة إذا ما طرأ أي خلل على واحد من هذه السلسلة فستنكسر على الفور وتقع تحت العجز وتبدأ هنا المشاكل التي تتوالى ساعتها مثل لعبة الدومينو. وهنا يكمن الخطر في هذا النظام فهو كالمطحنة لا يحمي الأفراد بل يجعلهم أرقاماً تتوالى وتتتابع. العروض كثيرة ولكن المنافسة كبيرة كذلك وطريقة العمل تتم على شكل حلقات في سلسلة طويلة ومتصلة وعندما تنكسر إحداها يتم استبدالها على الفور فالبديل جاهز دوماً . وفي نظام يعتمد على القدرات الفردية ويعززها فإن المنافسة التي تخلقها الوضعية السائدة تحول الجميع إلى أعداء وتشجع على التناحر والتنابذ وإبعاد الآخر . والشخصانية والفردية من مميزات معظم الشعوب الأوروبية ولكنها تبقى الأقوى في النظام الأميركي الذي مع الأسف تحاول كل الأنظمة الأخرى في العالم تقليده . ليس لأنه الأنسب إنسانياً بل على العكس لأنه الأنسب مردوداً اقتصادياً ومادياً وبما أن الحرب الكونية الحالية هي حرب إقتصادية فالكل يلهث لكي يلحق بالركب الأميركي واضعاً راحة وسعادة أفراده على جنب . وبالرغم من عمليات غسل الدماغ المستمرة التي يتعرض لها المواطن الفرد هناك فإن عمليات الغسل هذه والتي تتم بواسطة الإعلام بكل أدواته وبواسطة طريقة التربية والتعليم المعتمدة والتي تعزز سلماً للقيم لا علاقة له بالقيم أصلاً . بالرغم من كل هذا وبالرغم من نفخ الروح المعنوية لدرجة الغرور المبالغ فيه . فإن المواطن الأميركي قلق وغير مستقر . لأنه يشعر بالغريزة وبالحدس بأن وضعه غير ثابت وبأن مصيره ومصير من حوله دائماً مهدد . وهذا الأمر نفسه ينسحب على السياسة . فالأميركي يثق بساسته ( بشكل عام ) ثقة عمياء . وهو يصدق معظم ما ينقل له عبر الإعلام من أكاذيب : بكل بساطة هو لا يهتم بالتفاصيل من حوله . المهم أنه " مرتاح " يأكل ويشرب ويقتني منزلاً وسيارة إلخ .. حتى لا يتورط في أي عمل آخر . وأكثر الأميركيين لا يتدخلون في ما يحيط بهم من باب أنهم لا يتدخلون في شؤون الآخرين . وكأن كل واحد منهم يعيش في جزيرته الخاصة منعزلاً ووحيداً . لذلك أنت تجدهم مربكين ومحتارين عند أول مشكلة تصادفهم وينهارون بأسرع مما تتخيل لأنهم غير معدين تربوياً وقيمياً لمواجهة الصعاب . وإذا واجهوها فهم يواجهونها منفردين . فيسهل عندها انكسارهم وتحولهم مرضى نفسيين ( وهذا يفسر أسباب كثرة المعالجين النفسيين في تلك البلاد ) . وهناك مشكلة كبيرة في ذلك المجتمع تبرز للعيان فوراً وهي التمييز العنصري الواضح والجلي في كل مرافق الحياة . وبالرغم من النفي المتكرر للك وبالرغم من القوانين التي تمنع التمييز وتعاقب عليه وخصوصاً تجاه السود والملونين . إلا أن كل هؤلاء لا يزالون يعانون الأمرّين في ذلك البلد . بالإضافة إلى أنهم متهمون بكل الجرائم : الصغير منها والكبير . لذلك يعمد البيض منهم إلى مغادرة أي منطقة يسكن فيها الملونون حتى لا يضطروا للإختلاط بهم . وهذا ما يؤدي لنشوء الكانتونات . فهناك مناطق خاصة بالسود , ومناطق خاصة بالمكسيك , ومناطق خاصة بالصفر ( أي الصين والفيتنام واليابان إلخ .. ) . كذلك يظهر التمييز جلياً في توزيع الأعمال . فالقيادة هي دائماً للبيض ( في غالب الأحيان ) والجامعات المهمة التي تخرج القادة هي حكر على طبقة معينة من الشعب (أوكسفورد , هارفرد , يال إلخ ..) ولا يمكن لعامة الشعب من ارتيادها بسبب أقساطها الباهظة. والولايات المتحدة تستورد مئات آلاف العمال من كافة أنحاء العالم ( الثالث والعاشر منه حتى ) الذين يعملون بأجور زهيدة تبدأ من ثلاثة دولارات بالساعة وتصل في أقصاها إلى ثمانية دولارات بالساعة مما يضطرهم للعمل ليل نهار لكي يتمكنوا من جمع قوتهم . بينما لا يقبل الأميركي أن يقوم بهذه المهام حتى لو بقي عاطلاً عن العمل . ويبقى الجميع يحيا ويعيش على أساس أنه واحد من مجموعة ضخمة وكبيرة وفخورة ببلدها من ضمن وهم كبير اسمه : الحلم الأميركي . |