المقامات: قراءة في المفهوم والقيمة كن أول من يقيّم
المقامات: نشأةً وتطورًا المفهوم للمقامة تعريفات كثيرة ،تختلف تعبيرًا وتتفق تفكيرًا، يمكن الخلوص إلى مفهوم شامل لها نصه: هي حكاية قصيرة، قد تكون في صفحتين أو أكثر قليلاً، بحيث تُلقَى في مجلس واحد، وأسلوبها متصنِّع بيانيًّا وبديعيًّا، وتشتمل على عِظَة أو مُلحَة أو نادرة أو مغامرة، وتنتهي عادة بمفاجأة غير متوقعة، لها راوٍ، وبطل يعتمد على الحيلة ووسائل الخداع والتلون ليحقق غرضه، وهو الكدية( الشحاذة) غالبًا. وهذا المفهوم جمع بين متطلبات شكل المقامة ومضمونها، ويمكن تفكيكه إلى الأركان الآتية حسب ورودها في النص المقامي: 1-الراوي 2- المجلس 3- الحكاية 4- اللغة المتصنعة 5- الحوار 6- البطل 7- النُّكتة أو الفكرة أو العظة أو المفاجأة (المغزى). نشأة المقامة ورائدها والمقامة فن عربي أصيل في بيئته ومخترعه وشكله. وليس كما يزعم أحد الباحثين من أنه فارسي !! ذلك لأن أول نص مقامي عُرِف عند الأعاجم كان بعد ترجمة مقامات الحريري إلى السريانية، كما أن رائد المقامة الفارسية القاضي حميد الدين البلخي (ت 559هـ) اعترف بتقليده للحريري في إبداعه، كما اعترف كثير من مؤرخي الأب المحدثين : مستشرقين وعربًا، بعروبة هذا الفن النثري الحكائي الرائع . وقد جاءت المقامة مزيجًا رائعًا من تيارين مُسَيْطِرَيْنِ في القرن الرابع الهجري: تيار اجتماعي حيث شيوعُ الحِرْمان والفقر والتسوُّل في الطبقات الوسطى والدنيا، وتيار فني حيث شيوعُ مذهب التصنُّع والتكلف الأسلوبي في طبقة النُّخْبة المثقفة المبدعة أدبيًّا . وقد اختلفت كلمة المؤرخين في رائدها على النحو التالي : v أرجع ابن عبد ربه (ت 382هـ) المقامات إلى عهد أبعد من القرن الرابع الهجري معددًا نصوصًا ذُكِرتْ فيها لفظة المقامة، ويمكن تأويلها على المدلول اللغوي لا الاصطلاحي . v يذهب الحصري ( ت نحو 413هـ) صاحب (( زهر الآداب )) إلى أن بديع الزمان الهمذاني تأثر بأبي بكر بن دريد الأزدي في أحاديث الأربعين، ويؤيد ذلك د/زكي مبارك، ود/شوقي ضيف ـ رحمهما الله تعالىـ لأن من معاني المقامة الحديث، كما أن أحاديث ابن دريد مصوغة في شكل رواية وسنَد يتقدمها، ثم هي غالبًا مسجوعة، وتمتلئ باللفظ الغريب، وهي أحاديث أُلِّفت لغرض تعليم الناشئة اللغة، بالضبط كما حاول بديع الزمان في أحاديثه، وان كانت خفيفة رشيقة . v يذهب الحريري والقلقشندي (ت831هـ)إلى أن الهمذاني له فضل السبق في ابتداعها وعملها، فهو سبّاق غاياتٍ وصاحب آيات، وان المتصدي بعده لإنشاء مقامه، ولو أُوتِي بلاغة قدامة، لا يغترف إلا من فُضالَته، ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته . v أما المحدثون من مؤرخي الأدب فقد اختلفوا أيضًا، فقد ذهب كارل بروكلمان مذهب ابن عبد ربه إلى أن المقامات ـ كلفظ ـ موجودة في التراث العربي منذ وجوده، ففي الجاهلية كانت تعني "مجتمع القبيلة"، وفي العصر الأموي كانت تدور حول مفهوم ديني خصوصًا لدى طبقة الزُّهَّاد والمتصوِّفة، ثم تطورت إلى المدلول الأدبي في القرن الثالث الهجري وما بعده. v ويذهب جرجي زيدان إلى أن أحمد بن فارس ( ت 395 هـ ) شيخ الهمذاني هو رائد المقامات ومخترعها، ولا دليل له على ذلك!!! والرأي الراجح والرأي الراجح، المقبول تاريخيًّا وعقليًّا أن الهمذاني هو رائد المقامات، اخترعها مصطلحًا ونصًّا، متأثرًا في ذلك بثلاثة أدباء أعلام، هم : *ابن دريد الذي وجَّه الهمذاني وجهةً شكليةً تعليمية بأحاديثه . * الجاحظ الذي ألهم الهمذاني المضمون الأساسي لمقاماته وهو الكُدْيَة، وذلك عن طريق رسالته التي تحدث فيها عن الكُدْيَة والمُكْدِين من حيث وسائلُها وأقاصيصُها . * الشاعر أبو دُلَف الخزرجي، المعاصر لبديع الهمذاني، والذي قدم له نموذجًا واقعيًّا لبطل مقاماته (أبي الفتح الإسكندري) فهو جوَّال جوَّاب محتالٌ في كسب الرزق بالأدب والشعر... وقد تبع الهمذاني وقلده في هذا الفن جمهور غفير من أدباء العصر العباسي والمملوكي والعثماني والحديث . من أشهرهم: الحريري، وصلاح الدين الصفدي، والسيوطي، وشهاب الدين التلمساني، وحافظ إبراهيم، ... و غيرهم. مع تطور ـ إلى درجه كبيرة ـ في طريقة بنائها تعبيريًّا وتفكيريًّا. ورغم هذا الحضور الإبداعي لفن المقامة إلا أنه لم يحظَ باهتمام نقدي تراثي، فقد تجاهله كبار النقاد، ولم يشيروا إليه أية إشارة ايجابية على الإطلاق، ويُستَثْنَى من ذلك عبارة أو عبارات موجزة خاطفة عند ترجمة الهمذاني أو الحريري، على النحو الذي نجده عند القلقشندي في موسوعته "صبح الأعشى" الذي وصف المقامات بأنها "في الغاية من البلاغة وعلوِّ الرتبة في الصنعة"!! بل إن ناقدًا كابن الأثير ازدرى المقامة، وفضّل فنَّ الكتابة عليها، متجنيًا على الحريري وناقمًا عليه !! ولم يُعرَف فضل المقامة نقديًّا إلا في العصر الحديث على يد د/ زكي مبارك، ود/ شوقي ضيف، والباحثين في الأدب المقارن مثل الدكتور محمد غنيمي هلال، والدكتور عبدالحكيم حسان، والدكتور الطاهر مكي... وغيرهم ممن ألفوا في فن المقامة من حيث تاريخه وأعلامه وقيمته . قيمة المقامة رغم أن هذا الفن متكلف الأسلوب، يتجاهله الكثيرون بسبب ذلك إلا أن هنا نجد له آثارًا طيبة اجتماعيًّا وثقافيًّا ونقديًّا، على النحو التالي: · المقامة مُعَلِّّمةٌ : المقامة بين أجناس النثر كالمنظومات العلمية في أجناس الشعر، تُعلّم متذوقها وحافظها غريبَ اللغة، وجليل العبارات، وكيفية بناء الأسلوب المسجَّع المتصنِّع، فهي تقدم رصيدًا معجميًّا رائعًا، ووسيلة للتمرن على الإنشاء المتأنق بيانيًّا وبديعيًّا، ومستودعًا للحِكَم والتجارب الإنسانية المؤثرة. · المقامة مُثَقِّفةٌ: كانت في البداية مُوسعةً لغوية أو جمهرة أدبية، ثم تطورت إلى مُوسِعة علمية متخصصة، منها الطبية، والتاريخية، والجغرافية، والدينية، والفكرية . وتتبُّع أسماء مقامات الهمذاني والحريري ـ فقط ـ يدل على ذلك . · المقامة مُصَوِّرة:تعد المقامة وثيقة تاريخيةـ إلى حد ما- تسجل جزءًا من عالمنا الإسلامي زمانيًّا ومكانيًّا وحياتيًّا، فهي وصف للعادات والأحداث والتقاليد البارزة في الطبقات الوسطى والدنيا . · المقامة مُمْتِعةٌ: جاءت المقامة في أطار قصصي فكاهي غالبًا، وعقلي أحيانًا كإطار ترغيبي مُشَوِّق، ينتهي بمفاجأة هزلية . وقد وصلت بعض المقامات إلى درجة عالية من الحَبْكة بين أجزائها، وإحداث عقدة مثيرة ومؤثرة . · المقامة مشرِّفةٌ نقديًّا : شرّفت المقامة الأدب العربي القديم، إذ كانت دليلًا نصيًّا على إدراك العرب للفن القصصي، بل إن بعض المقامات وصلت إلى مستوى عالٍ من الفن، يجعلها قصة عصرية – بكل تِقْنِيَاتِها – تنوء عن مضارعتها اليوم (القرن الحادي والعشرون) أية قصة في تحليل الشخصيات ودرس النفسيات. وتعد المقامة الأسدية، والمقامة البشرية من الأقاصيص ذوات العُقَد . ولو استدعى نظر الأدباء قديمًا في المقامة من خيال أكثر من الصياغة، لكان يمكن أن تكون أساسًا لفن القصة القصيرة . وكان يمكن أن تكون أخصب جنس أدبي عربي لو لم تنحرف عن النقد الاجتماعي في مضمونها، إلى ميدان المُماحكات اللفظية والألغاز اللغوية والتصنُّع التعبيري الذي لا طائل وراءه . وتعد ـ كذلك ـ نواة للمسرحية العربية الفُكاهية[الملهاة]، إنها في هذا الميدان تحتاج ـ فقط ـ إلى سيناريست مبدع أصيل . كذلك للمقامة تشريف للعرب بتأثرها في الآداب الشرقية من فرس وسريان وعبرانيين، وفي الآداب الأوروبية، إذ هي المؤثر الحقيقي في وجود قصص الشُّطَّار عند الأسبانيين وغيرهم من الأوروبيين. كما يقرر دارسو الآداب دراسة مقارنة . صياغة وتنسيق الطالبة :زينب بنت حمود بن عبدالله الراشدي الفرقة الثالثة بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي 2007-2008م فكرة ومراجعة د/صبري أبوحسين |