دلائل حياة الأدب كن أول من يقيّم
معالم الحياة الأدبية في العصر المملوكي لم يمت الأدب في هذا العصر، كما يدعي البعض، وما كان ينبغي له أن يموت، فهو خالد بخلود لغتنا العربية الفصحى، تلك التي حفظت _ وستزال محفوظة _ بحفظ القرآن الكريم، كان ديوان العرب، يسجل حياتهم، وينشرحكمهم، ويغرس فضائلهم في الناشئة والطالبين لها الباحثين عنها. وقد وجدت له معالم وأعلام في كل عصر ومصر منذ جاهليته الأولى حتى العصر المملوكي، الذي فقد دافعا أساسيا على حياته وتطوره، وهو تشجيع الطبقة الحاكمة لرجاله، وبقيت في هذا العصر عدة دوافع ساعدت على مواصلة الأدب لمسيرته، وسيره سيرا جديدا متطورا متنوعا، منها: _ كثرة العلماء وتنامي أثرهم وزيادة دورهم وتنوع صلتهم بالأدب إبداعا وجمعا ودرسا ونقدا وتشجيعا وتوجيها. _ هجرة كثير من الأدباء إلى مصر والشام، فارين من العراق وما قبلها من بلاد المشرق الإسلامي، خوفا من الإرهاب المغولي الهمجي، ومطرودين من الأندلس وما بعدها من بلاد المغرب الإسلامي، إنقاذا لأنفسهم وذويهم من الصراع الحربي الدموي في هذه البلاد، بين المسلمين بعضهم البعض أحيانا، والمسلمين وغيرهم أحيانا أخرى. _ التنافس بين شعراء مصر والشام في إجادة شعرهم، فلم يكن شاعر في أحد القطرين، ينظم قصيدة طريفة،حتى يتناولها شعراء القطر الآخر بالنقد والمعارضة والاحتذاء. يروى أن ابن نباتة كان إذا ما اخترع معنى أخذه الصفدي بلفظه أو بتغيير فيه قليل، فألف ابن نباتة رسالة، جمع فيها ما قاله،فأخذها منه الصلاح، وسماها "خبز الشعير". ونتيجة لهذا التنافس في الإبداع صار لكل بيئة خصائصها، ففي شعر أهل الشام ميل إلى الوصف وبخاصة وصف الطبيعة، لجمال البيئة واعتدال الجو وحسن مناظر الطبيعة هناك ولشعر أهل مصر ميل إلى الرقة والفكاهة، وتناول للأحداث السياسية الكبرى. _ كثرة المدارس ودور التعليم والمكتبات، وزيادة عدد الشيوخ والطلاب، ورعاية الحكام لأبنية العلم وأهلها اقتصاديا واجتماعيا.وقد سجل الشعراء هذه الرعاية وصوروها بشاعريتهم. يقول الشاعر أبو الحسن الجزارعند افتتاح المدرسة الصالحية: ألا هكـذا يبني المـدارس مـن بنى ومن يتعالى في الثواب وفي البنا (1) ويقول شاعر آخر في تهنئة الظاهر برقوق في مناسبة إنشاء المدارس الظاهرية: الظاهر الملك السلطان همته كادت لرفعتها تعلو على زحل وبعض خدمه طوع لخدمته يدعو الجبال فتأتين على عجل فواضح مدى دلالة هذه النصوص على اهتمام الحكام المماليك بإنشاء المدارس ورعايتها وقد اتجهت شيوخ هذه الدور العلمية وطلابها نحو الدرس اللغوي والأدبي بحثا وتأليفا وتعليما وإبداعا. _ كثرة المؤلفات البلاغية والأدبية والنقدية المؤثرة في هذا العصر،ككتب حسن التوسل في صناعة الترسل لشهاب الدين الحلبي، ومفتاح العلوم للسكاكي، والحواشي التي ألفت في شرحه واختصاره للقزويني والتفتازاني والسبكي وغيرهم. و " بديع القرآن" و" تحرير التحبير" لابن أبي الإصبع، وإختصار ابن منظور للأغاني، والعقد الفريد، وزهر الآداب ، ويتيمة الدهر، ونصرة الناثر على المثل السائر للصفدي، وصبح الأعشى للقلقشندي ونهاية الأرب للنويري، وخزانة الأدب، وثمرات الأوراق لابن حجة، بالإضافة إلى دواوين الشعراء ورسائل الأدباء. ويبدو أن مقامات الحريري كانت مادة المتأدبين في هذا العصر، يحفظونها ويتمثلون أساليبها. وقد وقف الفخري في كتابه " الآداب السلطانية" أمامهم بالمرصاد، منتقدا عادة عصره في تحريض المتعلمين على حفظ المقامات ويرى أنها إن نفعت من جانب اللغة أضرت من جانب الأخلاق لما تحويه من حوادث الكدية والحيل في الاستجداء،مما يصغر الهمم،ويضعف النفوس. ـ وقد امتزج العلم بالأدب عند العامة امتزاجا واضحا،سجله الشاعر بقوله: هذب النفــس بالعلــوم لترقــى وتــرى الكـل وهــو للكـل بيت إنمــا النفس كالزجاجة والعـقـ ل ســراج وحكمـة اللــه زيــت فــإذا أشرقت فإنــــك حـــــي وإذا أظــلمــت فإنـــــك ميـــت وقد أسهم الشعر في بيان دخول العلماء في متاهات لا طائل منها،ونقد ذلك نقدا صريحا،ودليل ذلك قول الأدفوي: إن الدروس بمصرنا في عصرنا طبعت على لغط وفرط عياط ومباحــث لا تنتـــهي لنهايـــــــة جدلا ونقـل ظاهر الأغـــلاط ومدرس يبدي مباحث كلــــــــها نشأت عن التخليط والأخـلاط فهذا النص الشعري يعدد المعالم السلبية الموجودة عند قطاع معلمي هذا العصر، ويعرب عن النفور العام منها،لعدم جدواها وآثارها.(1) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1)تاريخ الأدب العربي،ت:د.عمر فروخ،ج:3 |