أدواء المجتمع كن أول من يقيّم
وفي المجتمع المتداعي المأزوم مثل مجتمع عصر المماليك تصبح الرشوة عرفًا سائدًا، وقانونًا لازمًا، ولا غرابة في ذلك مادام المال هو المطلب الأسمى، والقيمة العليا، ويصير الدرهم شفيعًا لا يمكن رده، وبلسمًا شافيًا لكل جرح، على حد تعبير أحد شعراء هذا العصر، وهو أثير الدين أبوحيان، حيث يقول : أتى بشفيـع ليـس يمكـن ردُّه دراهـمَ بِيضٍ للجروحِ مراهـمُ تصيِّر صعبَ الأمرِ أهـونَ ما ترى وتَقـضي لُبانات الفتى وهو نائم كما أصبح الدرهم الطريق الأمثل والأسرع إلى قلوب الأمراء وإلى أبوابهم، وانظر إلى هذه السخرية المرة لسراج الدين الوراق، وقد أراد الدخول على أحد الأمراء: قلـت لبـوَّاب علـى بـابـه مُـشَوَّه الخِلْـقـةِ والـشكـلِ: خذ لي عليه الإذن قال: استرح ذا بابُ "خُذْ منِّي" و لا "خذ لي" وأمر طبيعي أن تنهار كل القيم والحال على ذلك، فيعتلي المناصب مَن لا يستحقها، ويصبح الناس في سباق محموم يأكل بعضهم لحم بعض، وكل يريد أن يهدم الآخر ليعلو هو فلا وازع من الدين يمنع، ولا تورع عن الحرام يروع، ولعلنا نحس بأصداء هذه المحنة الأخلاقية في قول ابن دقيق العيد: قـد جـرحـتنا يـد أيامـنا وليس غير الله من آســــي فلا ترج الخلق في حاجــة ليسـوا بأهـل لسـوى اليـاس ولا تـزد شكوى إليهم فـمـا معـنى لشكـواك إلى قــاسي فإن تخـالط منهمُ معشــرًا هـويـتَ فـي الديـن على الراس يـأكل بعضهم لحم بعض ولا يـحسب فـي الغِـيبة من بــاس لا ورعٌ فـي الدين يحميهـمُ عـنـها ولا حـشمـة جـــلَّاس لا يعـدم الآتـي إلى بابهـم مـن ذلـة الكـلب سـوى الخـاس فاهربْ من الناس إلى ربـهم لا خـيـر فـي الخُـلْطـة بالنـاس وفي أبيات أخرى له نحس بآثار هذه المحنة، وكيف استشرى أمرها فاضطربت المعايير، وأصبح لا يُقدَّم إلا صاحب المال، أما أهل العلم فلا مكان لهم في الساحة، يقول: يقولون لي: هلا نهضت إلى العلا فـما لـذَّ عيش الصـابر المتقنـِّعِ وهلا شددتَ العيس حتى تحلَّـها بمصـرَ إلى ظـلِّ الجناب المـرفَّع ففيها من الأعيان من فيض كفه إذا شـاء روِّى سـيلُه كـلَّ بلقـعِ وفيها قضاة ليس يخفى عليـهمُ تعيُّـنُ كـون العلم غيرَ مضـيَّع وفيها شيوخ الدين والفضل و الألى يشـير إليهـم بالعُلا كـلُّ إصـبع وفيها، وفيـها، والمهـانة ذلَّـةٌ فقمْ واسعَ واقصدْ بابَ رزقِك واقرعِ فقلت: نعـمْ أسعى إذا شئتُ أن أُرى ذلـيلًا مُهـانًا مُستَخـفًّا بموضـعي وأسعى إذا ما لذَّ ليْ طولُ موقفـي عـلى بـاب محجوب اللقاء مُمَنَّـعِ وأسعى إذا كان النفـاق طريقتـي أروح وأغـدو في ثيـاب التصنُّـع وأسعـى إذا لـم يبـقَ فيَّ بقيـَّةٌ أراعي بهـا حق التُّقَى والتـورُّعِ أرأيت هذا الانهيار الأخلاقي الذي يتحدث عنه الشاعر ابن دقيق العيد، الذي جسد لنا كيف يكون الاستخفاف بالعلم وأهله، وكيف يكون النفاق والرياء، وتحلل الدين وانفصام عُراه، وما كان كل ذلك إلا لأن المال وُضع على الرأس في قائمة القيم وشغل الناس بالدنيا، وألهتهم المادة يحصلونها بأي وسيلة ومن أي طريق . ولا نترك ابن دقيق العيد دون أن نورد له هذه الأبيات التي تصور انقلاب الموازين، وتشعرنا بما كان يعانيه الرجل من ألم يحاول أن يتعزى عنه: أهل المناصب في الدنيا ورفعتها أهل الفضائل مرذولون بينـــهم قـد أنـزلونا لأنَّا غير جنسهـم منازلَ الوحش في الإهمال عنـدهمُ فـما لهم في تَوَقِّي ضرنا نظـرٌ ولا لهم في ترقِّي قـدرنـا همـمُ فليتنا لو قـدرنا أن نـعرِّفَـهـم مقدارَهم عندنا أو لــو دَرَوْه هُمُ لهم مريحانِ من جهل وفرط غنًـى وعنـدنا المتـعبان: العلم والعـدم
وهكذا نرى الألم يعصف بنفس الشاعر، و هو يرى ضياع قيمة العلم ومكانة العلماء، بينما يتقدم الجهلاء ويفوزون برغد العيش . |