البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : معالم الأدب العربي في العصر المملوكي    قيّم
التقييم :
( من قبل 7 أعضاء )
 صبري أبوحسين 
17 - يناير - 2008
مدخل:
تعاقبت على دراسة الأدب العربي ـ بكمه وكيفه الكبيرين المجيدين ـ نظريات متنوعة واتجاهات مختلفة ومدارس متباينة؛ كلها تتغيا تسهيل دراسة ذلك الأدب العريق في عمره وبيئته، وفي أعلامه ومعالمه، وفي ثراء نصوصه ونماذجه.
      وتعد النظرية المدرسية ـ التي اعتمدت على المنهج التاريخي وبنت عليه دراساتها ـ  من أشيع النظريات في الدرس الأدبي لدينا الآن حتى غدت تقليدً جرى عليه معظم المؤلفين ومعظم الجامعات العربية في تدريسها للأدب العربي.
         وقد نال الأدب العربي ـ عن طريق هذه النظرية ـ في عصر الجاهلية، وعصر صدر الإسلام، وعصر بني أمية، وعصر بني العباس، حظوة بالغة من قبل الدراسيين قديمًا، وإلى يومنا هذا.
وهوـ فعلاًـ أدب جيد جذاب يستحق هذه الحظوة؛ إذ بلغ القمة الفنية والفكرية في غالب نصوصه، فلم يسقط أو يضعف منه إلا شذرات من الأعمال الأدبية المتكلفة الصادرة عن أناس لا صلة لهم بالإبداع، ولا موهبة لديهم ولا صدق فيما ينشئون أو ينظمون.
        ولكن ـ وما أمرَّ لكن هذه ـ لم توجد ـ أو تُوجَّه ـ جهود متماثلة إلى الأدب العربي في عصر ما بعد سقوط بغداد 656هـ، من قبل الدارسين؛ وذلك راجع إلى اعتقاد ترسخ لدى كثير منهم بأن ذلك السقوط كان حدًّا فاصلاً صارمًا مميزًا بين قوة الدولة العربية الإسلامية ممثلة في الدولة العباسية، وبين ضعفها وانحلالها وانهيارها ممثلة في عصر الدول والإمارات حيث الأيوبيون والفاطميون والمماليك والعثمانيون.
ومن ثمَّ كان ـ كذلك ـ الحد الفاصل ـ في زعم الكثيرين ـ بين مرحلتي قوة الأدبالعربي وضعفه.
         وتلك رؤية استشراقية، غير موضوعية، بدأها كارل بروكلمان وتبعه فيها جرجي زيدان وطه حسين وشوقي ضيف وجودت الركابي... وآخرون.
 وقد واجهها عدد من الباحثين الجادين الموضوعيين، منهم: العلامة محمود شاكر، و الدكتور محمود رزق سليم،والدكتور محمد مصطفى هدارة، والدكتور ناظم رشيد، والدكتور بكري شيخ أمين!!!، والدكتور عمر موسى باشا، والدكتور محمد زغلول سلام ... وآخرون 
وفي قادم التعاليق مزيد توضيح لهذه الاراء، من خلال جهد طالباتي بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي، بإذن الله تعالى. د/صبري أبوحسين
 
 
 
 1  2  3  4 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
الفساد الاقتصادي    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
وقد تبع هذا الفساد السياسي حالة اقتصادية سيئة، صورها شهاب الدين بن الأعرج السعدي) ت785 هـ) بقوله:
وكيف يرومُ الرزقَ في مصرَ عاقلٌ                  ومـن دونه الأتراكُ بالسيفِ والـتُّرسِ
وقد جمعته القبْطُ مـن كلِّ وُجهـةٍ                 لأنفسهـم  بالربع ِ والثمـنِ والخمـسِ
فللتركِ و السلـطانِ ثلثُ خراجـها                  وللقـبـط نصف والخلائق في الـسدسِ
وهذه التوزيعة الاقتصادية التي قررها الشاعر حقيقة موجودة في كل بيئة ينتشر فيها الفساد السياسي والاقتصادي ويجتمعان معًا، فيكون الشعب الضحية، الذي يسقط عمَّاله وموظفوه في أخطاء و معايبَ لا تُحصى، عدَّد الشاعر شرف الدين البوصيري بعضها في قوله يصوِّب وابل سخريته على طبقة الموظفين، فاضحًا المستخدمين من العُمال والجُباة والقضاة والكتاب، يقول:
ثكِـلْتُ طوائفَ المستخدِمينـا                   فلم أر فيهمُ رجلاً أمـيـنـا
فـخذْ أخبارهم مني شفاهًـا                    وأَنْـظـرني لأخبـرك اليقينا
  فقد عاشرتهم ولبثت فيهـم                    مع التجريبِ من عمري سنينا       
 حوتْ بلْبَيْسُ طائفة لصوصًا                     عدلتُ بواحـدٍ منهـم مئيـنا
فكتاب الشمالِ هم جميعـًا                     فلا صحبتْ شمالهـمُ اليـمينا
وقد سرقوا الغلالَ وما علمنا                   كما سرقتْ بنو سيفِ الجرونا
وجل النـاس خـوان ولكن                  أُنـاسٌ منهـمُ لا يستـرونـا
ولولا ذاك ما لبسوا حريـرًا                  ولا شربوا خـمور الأندريـنا
ولا ربـوا من المردانِ قومًا                 كأغـصان يقُمْنَ و ينحنـيـنا
ولم ينفعهم البرطيلُ شـيئًـا                 ومـا ازدادوا بـه إلا ديـونا
وقد تعبت خيولُ القوم مـمَّا                 يطوفـون البلاد ويرجـعـونا
فواضح مدى تركيز البوصيري على هجاء هؤلاء بالخيانة وسوء الأمانة، وفحش السلوك، والإغراق في الرشوة واستعمال الوسائل المختلفة التي تتسبب في كل أموال الناس بالباطل .
وهكذا قدمت هذه النماذج ـ وغيرها كثير ـ دلالة على أن الشعر ـ فنَّ العرب الأول ـ ما زال يقدم دورَه في التعبير عن أدواء المجتمع وآلامه، سواء على مستوى القمة أو القاع، كما أنه تحول إلى لسان العامة يعبرون به ـ وفيه ـ عن همومهم ومعاناتهم، وينفسِّون عن كُرَبِهم وانقباضهم. ولذلك كان الشعر ـ وسيظل ما بقيت لغةُ القرآن الكريم ـ ديوانَ العرب وسجلَّ أيامهم ومدوَّنةَ وقائع حياتهم في كل عصر ومصر.
*صبري أبوحسين
23 - يناير - 2008
الحياة الاجتماعية في مرآة الشعر    كن أول من يقيّم
 
ملامح الحياة الاجتماعية في أدب العصر المملوكي([1])
        يتضح لنا مما سبق اتساع رقعة المساحة التي حكمها المماليك وامتدادها لتشمل أجزاء واسعة من مساحة الوطن العربي ابتداءً من مصر وجنوبها في السودان غربًا، والشام بمدنها الهامة شمالاً، مرورًا بأرض الجزيرة العربية حتى نصل إلى صنعاء وعدن جنوبًا .
 ومع هذا الاتساع المكاني الذي تتعدد فيه البيئات، وتتباين فيه المجتمعات العربية تحت حكم هؤلاء المماليك، لم يوجد ثمَّةَ فارق كبير في طبيعة الحياة الاجتماعية يمَيِّز كل مدينة عن مدينة أخرى، أو يفضل مجتمعًا على مجتمع آخر؛ وذلك لأن الظروف والمؤثرات التي كان تحكم هذه الشعوب وتتحكم فيها كانت واحدة في معظم الأوقات .
فالمجتمع في عصر المماليك كان يموج بتيارات متباينة، ويضطرب بصراعات شتى، ولكي نقف على حقيقة هذا المجتمع، ونتمثل هذه الصراعات وأبعادها، يجب أن نقف أولاً على العناصر التي كان يتألف منها هذا المجتمع وأجناسه المتباينة، وعلاقة كل عنصر بالآخر .
المقريزي  شاهد على العصر:
        يقسم المقريزي المجتمع في عصر المماليك سبع طبقات، فيقول: " اعلم ـ حرسك الله بعينه التي لا تنام ـ أن الناس بإقليم مصر في الجملة على سبعة أقسام : القسم الأول: أهل الدولة، والقسم الثاني:  أهل اليسار من التجار وأولي النعمة من ذوي الرفاهية، والقسم الثالث: الباعة، وهم متوسطو الحال من التجار، يقال لهم أصحاب البز، ويلحق بهم أصحاب المعايش وهم السوقة، والقسم الرابع:  أهل الفلْح وهم أهل الزراعات والحرث وسكان القرى والريف، والقسم الخامس: الفقراء وهم جلُّ الفقهاء وطلاب العلم، والكثير من أجناد الحلقة ونحوهم، والقسم السادس:  أرباب الصنائع والأجراء، وأصحاب المهن، والقسم السابع:  ذوو الحاجة .
أولاً: الطبقة الحاكمة "المماليك":
        وهم أهل الدولة الذين وضعهم المقريزي على رأس الطبقات الاجتماعية السبعة، وهم سلاطين المماليك والأمراء وأتباعهم من جند المماليك، والوزراء والكتاب، وأرباب السلطة . ومن المعروف أن طبقة المماليك طبقة غريبة دخيلة تتشكل من جنسيات مختلفة، وإن كان يغلب عليها اسم " الترك " لكثرة من ينتمي إلى هذا الجنس بينهم، وقد عاش هؤلاء المماليك في صراع دائم فيما بينهم، كل منهم يعِدُّ العدة ليوم يكون فيه السيد الحاكم .
وقد قام ملك هؤلاء المماليك على أساس القوة لا العدل، فالقوة لديهم أساس الملك، فمتى ملك أحدهم القوة استطاع أن يثِب إلى الملك، ويقضي على السلطان القائم، واستطاع أن يكسب كل القوى الأخرى من الأمراء ورجال القضاء والدين بقوة السيف والسلطان .
        ومتى تولى أحدهم السلطة يصبح في وُسْعه أن يمارس كل أنواع البطش والظلم ضد الآخرين ليفرض سلطانه ويحقق رغباته وأهوائه، ويصبح من حقه فرص الضرائب والإتاوات التي تمكنه من تحقيق أطماعه وطموحاته .
         وهكذا فاز أبناء الطبقة الحاكمة بكل شيء، وشاركهم التجار وأثرياء الناس، ولم يدعوا لغيرهم من سائر الناس سوى ما يتصدقون به عليهم أو ما يكسبونه بعرق جبينهم. وتظهر في هذا المجتمع سمات الإقطاع العسكري بأجلى مظاهره، فالحق كل الحق في خيرات البلاد وأموالها للعسكر من المماليك و ليس لأحدهم حق في شيء إلا ما يتفضلون به عليه على سبيل الإحسان والبر، فالمماليك هم أصحاب السيف والسلطة والثروة .


([1]) أعد هذه المادة العلمية أخي الأكبر –بارك الله فيه- الدكتور عبدالفتاح منصور. ولي فقط دور المراجعة اللغوية والتنسيق.
*صبري أبوحسين
4 - فبراير - 2008
تصوير سوء طبقة المماليك    كن أول من يقيّم
 
            وقد التفت الشاعر المصري جمال الدين بن مطروح إلى ما تنطوي عليه طبقة هؤلاء المماليك وأخلاقهم من غدر وخيانة واغتصاب، فنراه يحن إلى أيام الأيوبيين وعهدهم فيرثي آخر سلاطينهم " توران شاه" الذي قتل غدرا بسيوف المماليك، فيقول:
يا بعيد الليل من سحــرهْ               دائمًا يبكي على قمــرهْ
خـلِّ ذا وانـدبْ معي ملكًا               ولَّت الدنـيا عـلى أثـرهْ
كانت الدنـيا تطـيب لنـا                بـين بـاديه و محتضرهْ
سلـبتْه المُلْـك أسـرتُُـهُ                واستووْا غدرًا على سُرُرِهْ
حسـدوه حـين فـاتهـمُ                في الشباب الغضِّ من عمرهْ
ويرى فريق آخر من الشعراء ألا فرق بين المماليك وسابقيهم في الظلم والغدر، فبينما كانوا يعيشون أيام الأيوبيين يترقبون يوم الخلاص منهم، حتى جاء المماليك فشعروا بخيبة الأمل، ورأوا أنهم ما تخلصوا من شر إلا ليواجهوا شرًّا آخر، وفي ذلك المعنى يقول الشاعر البهاء زهير:
دولةٌ كـم قـد سألـنا        ربـنا التعـويضَ عنها
وفـرِحْنـا حين زالـتْ        جاءنا أنحسُ منـــها
 
*صبري أبوحسين
4 - فبراير - 2008
الطبقات الأخرى     كن أول من يقيّم
 
ثانيًا: طوائف الشعب:
        وتشمل -في حصر المقريزي- بقية الطبقات الأخرى، بدايةً من الطبقة الثانية، وهم أهل اليسار من أعيان الناس وأولي النعمة وكبار التجَّار الذين تشبَّهوا كثيرًا بأهل الدولة وشاركوهم تجارتهم، ثم الطبقة الثالثة وهم الباعة ومتوسطو الحال من التجار والحِرَفِيُّون والعطَّارون، والرابعة: وهم الفلاحون وسكان القرى والريف، والخامسة وهم أكثر الفقهاء وطلاب العلم، والسادسة وهم أرباب الصنائع والأجراء، والطبقة السابعة والأخيرة: وهم أهل المسكنة وذوو الحاجة والحرافيش و الحرامية... إلى آخر عناصر الطبقة الدنيا من عامة الشعب .
 
ثالثًا: طبقة الأعراب:
        وتتمثل هذه الطبقة في القبائل العربية التي هاجرت من شبه الجزيرة العربية إلى سائر البلاد التي فتحها المسلمون واتخذت لنفسها نمطًا حياتيًّا خاصًّا بها. وانتشرت في بلاد الشام ومصر، وقد نَعِمَتْ هذه القبائل ـ إلى حدٍّ كبير ـ بما يشبه الاستقلال الذاتي في نظامها الداخلي، وطرائق معاشها، تولى السلطة حينًا في القاهرة أو دمشق، وتثور عليها أحيانًا أخرى حيث كانت تعتقد أنها الأولى بالسلطة، وأن المماليك ـ كالأيوبيين ـ مغتصبون للحكم .
        وإذا كانت الطبقة الأولى من المماليك قد استأثروا بكل شيء بالسلطة والمال والقوة، فإن طبقات الشعب العربي المختلفة ظلت ترقب الصراع الدائر حولهم في صبر وأناة وفي تحمل عجيب لكل صنوف القوة والظلم .
ومع أن بعض طبقات الشعب نَعِمت أحيانًا بالثراء، غير أنها انتكست فيما بعدُ لكثرة ما فُرِض عليهم من الأموال والضرائب، أو المصادرات وتعنُّت الحياة، بالإضافة إلى المِحَن الطبيعية من الجفاف و القحط والمجاعات...وغير ذلك .
      والظاهرة الأكثر بروزًا في تصنيف المقريزي هي جعلُه جُلَّ الفقهاء وطلاب العلم في الطبقة الخامسة بعد طبقة الفلاحين، وربما بدا ذلك غريبًا، لكنه ليس مستغربًا في دولة يقوم نظامها على العسكرية. دولة تعطي كل اهتماماتها للإعداد للحروب والفروسية والقتال، ومن ثَمَّ كان تقديم معظم طبقات المجتمع على الفقهاء وطلاب العلم، مما يدل على انقلاب القيم والموازين في المجتمع العربي في ظل حكم المماليك العسكري!!!
*صبري أبوحسين
4 - فبراير - 2008
فساد الموظفين    كن أول من يقيّم
 
مجتمع العصر المملوكي في مرآة الشعراء
        لعل أبرز تطور للأدب في هذا العصر هو أن الأدب أصبح قريبًا إلى الشعب، ملتصقًا به، معبرًا عن همومه وأحزانه، فلم يعد للأدباء صلات وثيقة بالسلاطين والأمراء؛ لأنهم كانوا أعاجم لا يتذوقون العربية ولا أشعارها من ناحية، ومن ناحية أخرى انصراف هؤلاء المماليك إلى صراعاتهم المستمرة على الحكم وتحقيق مصالحهم الخاصة، مما دفع بالشعراء إلى الالتحام بطبقات الشعب، والتعبير عن قضاياه وأحواله، فقصدوا الشعب بفنهم الشعري، وجعلوه منهم وإليهم. يستمدون من حياة الشعب مادة أدبهم، ومن ثم يمكننا تعليل اختلاط العامية بالفصحى في اللغة الشعرية في هذه المرحلة، واقتراب لغة الشعر من لغة الحياة اليومية.
فنرى أحد شعراء هذا العصر، وهو القاضي شهبة المؤرخ الشافعي يصور الدواهي التي أصابت المجتمع العربي تحت حكم هؤلاء المماليك القُساة الذين تمكنوا من استنزاف طاقات الشعب وتسخيره، وتركوه يشقى بتلك الدواهي حيث يقول:
رمتنا صروفُ الدهر منها بسبعة        فما أحد منَّا عن السبع سالمُ:
غلاءٌ وغازانٌ وغزوٌ و غــارةٌ        وغـدرٌ و إغبانٌ وغمٌّ ملازمُ
 
وفي البيتين تصوير للأمراض والشدائد الاجتماعية التي يعاني من جرائها المجتمع العربي في الشام ومصر على السواء، إذ لا فرق لديهم بين الغلاء والغزو وحكم "غازان السلطان الذي كان يحكمهم، فمنه الغدر، والغبن، والغم، والإحباط، والفشل .
ويرصد الإمام البوصيري بعض عيوب المجتمع وبخاصة فئات الموظفين أو المستخدمين كما كان يطلق عليهم ـ وقتئذ ـ كاشفًا مخازيهم، معريًّا أساليبهم في نهب الأموال، وفي ديوانه قصائد عدة يتناول فيها هذه الظاهرة، ونكتفي بقصيدته النونية التي تصور أخلاق المستخدمين وجناياتهم على الناس، يقول البوصيري:
ثكِلْتُ طوائفَ المستخدِمينا      فـلم أر فـيهمُ رجـلاً أميـنا
فخذْ أخبارهم مني شفاهـا      وأَنْـظرني لأخبرك اليقــينا
فقد عاشرتُهم ولبثتُ فيهم      مع التجريبِ من عمري سنينا
 
ثم يمضي البوصيري فيحدثنا عن تلك الطائفة التي حوتها  " بلبيس "، ويصفهم بأنهم بلغوا درجة عالية في اللصوصية والإجرام، ويعدد من أسمائهم فريجيا، والصفي، وأبا يقطون، والنشو، والتي منها نعرف أنها أسماء المستخدمين من المماليك، فيقول:
حوتْ بلْبَيْسُ طائفة لصوصًا        عـدلت  بواحدٍ منهم مئـيـنا
فريجي والصفي وصاحبيه         أبا يقـطون والنشو الـسمـينا
فكتاب الشمالِ همُ جميعـًا         فلا صحبت شـمالهمُ اليـميـنا
 
 
ويصور البوصيري كيف يستحيل هذا المال المنهوب إلى ثياب حريرية وخمور جيدة ومردان ملاح، فيقول:
وجُلُّ النـاس خوَّان ولكـن         أناس منهمُ لا يستـــرونا
ولولا ذاك ما لبسوا حريرًا           ولا شربوا خمور  الأندرينا
ولا ربوا من المردانِ قومًـا         كأغصان يقُمْنَ و ينحنيـنا
 
 
وبين البوصيري كيف أن هؤلاء العمال سدوا على الأحرار  السبيل  لتحصيل أموال إقطاعاتهم، بحيث صار صاحب الإقطاع يبيع إقطاعه لهم بالربع، ولا يجديه ما يقدمه لهم من برطيل ورشوة:
                         ولم ينفعهم البرطيل شيــئا       وما ازدادوا به إلا ديونا
كأنهمُ نساءٌ مات بعــلٌ      له ولد فورثـَّن الثميــنا
وقد تَعِبَتْ خيولُ القوم ممَّا     يطوفون البلاد ويرجعـونا
عذرتهمُ إذا باعوا حـوالا       تهمْ بالربع للمستخدميـنا
وأعطوْهم بها عوضًا فكانوا     لنصف الربع فيه خاسرينا
 
 
*صبري أبوحسين
4 - فبراير - 2008
أدواء المجتمع    كن أول من يقيّم
 
وفي المجتمع المتداعي المأزوم مثل مجتمع عصر المماليك تصبح الرشوة عرفًا سائدًا، وقانونًا لازمًا، ولا غرابة في ذلك مادام المال هو المطلب الأسمى، والقيمة العليا، ويصير الدرهم شفيعًا لا يمكن رده، وبلسمًا شافيًا لكل جرح، على حد تعبير أحد شعراء هذا العصر، وهو أثير الدين أبوحيان، حيث يقول :
أتى بشفيـع ليـس يمكـن ردُّه         دراهـمَ بِيضٍ للجروحِ مراهـمُ
تصيِّر صعبَ الأمرِ أهـونَ ما ترى      وتَقـضي لُبانات الفتى وهو نائم
 
كما أصبح الدرهم الطريق الأمثل والأسرع إلى قلوب الأمراء وإلى أبوابهم، وانظر إلى هذه السخرية المرة لسراج الدين الوراق، وقد أراد الدخول على أحد الأمراء:
قلـت لبـوَّاب علـى بـابـه          مُـشَوَّه الخِلْـقـةِ والـشكـلِ:
خذ لي عليه الإذن قال: استرح          ذا بابُ "خُذْ منِّي" و لا "خذ لي"
 
وأمر طبيعي أن تنهار كل القيم  والحال على ذلك، فيعتلي المناصب مَن لا يستحقها، ويصبح الناس في سباق محموم يأكل بعضهم لحم بعض، وكل يريد أن يهدم الآخر ليعلو هو فلا وازع من الدين يمنع، ولا تورع عن الحرام يروع، ولعلنا نحس بأصداء هذه المحنة الأخلاقية في قول ابن دقيق العيد:
قـد جـرحـتنا يـد أيامـنا         وليس غير الله من آســــي
فلا ترج الخلق في حاجــة          ليسـوا بأهـل لسـوى اليـاس
ولا تـزد شكوى إليهم فـمـا          معـنى لشكـواك إلى قــاسي
فإن تخـالط منهمُ معشــرًا         هـويـتَ فـي الديـن على الراس
يـأكل بعضهم لحم بعض ولا          يـحسب فـي الغِـيبة من بــاس
لا ورعٌ فـي الدين يحميهـمُ          عـنـها ولا حـشمـة جـــلَّاس
لا يعـدم الآتـي إلى بابهـم          مـن ذلـة الكـلب سـوى الخـاس
فاهربْ من الناس إلى ربـهم         لا خـيـر فـي الخُـلْطـة بالنـاس
 
وفي أبيات أخرى له نحس بآثار هذه المحنة، وكيف استشرى أمرها فاضطربت المعايير، وأصبح لا يُقدَّم إلا صاحب المال، أما أهل العلم فلا مكان لهم في الساحة، يقول:
يقولون لي: هلا نهضت إلى العلا     فـما لـذَّ عيش الصـابر المتقنـِّعِ
وهلا شددتَ العيس حتى تحلَّـها      بمصـرَ إلى ظـلِّ الجناب المـرفَّع
ففيها من الأعيان من فيض  كفه      إذا شـاء روِّى سـيلُه كـلَّ بلقـعِ
وفيها قضاة ليس يخفى عليـهمُ        تعيُّـنُ كـون العلم غيرَ  مضـيَّع
وفيها شيوخ الدين والفضل و الألى     يشـير إليهـم بالعُلا كـلُّ إصـبع
وفيها، وفيـها، والمهـانة  ذلَّـةٌ      فقمْ واسعَ واقصدْ بابَ رزقِك واقرعِ
 فقلت: نعـمْ أسعى إذا شئتُ أن أُرى    ذلـيلًا مُهـانًا مُستَخـفًّا بموضـعي
 وأسعى إذا ما لذَّ ليْ طولُ موقفـي     عـلى بـاب محجوب اللقاء مُمَنَّـعِ
 وأسعى إذا كان النفـاق طريقتـي      أروح وأغـدو في ثيـاب التصنُّـع
وأسعـى إذا لـم يبـقَ فيَّ بقيـَّةٌ       أراعي بهـا حق التُّقَى والتـورُّعِ
      
 أرأيت هذا الانهيار الأخلاقي الذي يتحدث عنه الشاعر ابن دقيق العيد، الذي جسد لنا كيف يكون الاستخفاف بالعلم وأهله، وكيف يكون النفاق والرياء، وتحلل الدين وانفصام عُراه، وما كان كل ذلك إلا لأن المال وُضع على الرأس في قائمة القيم وشغل الناس بالدنيا، وألهتهم المادة يحصلونها بأي وسيلة ومن أي طريق .
ولا نترك ابن دقيق العيد دون أن نورد له هذه الأبيات التي تصور انقلاب الموازين، وتشعرنا بما كان يعانيه الرجل من ألم يحاول أن يتعزى عنه:
أهل المناصب في الدنيا ورفعتها       أهل الفضائل مرذولون بينـــهم
قـد أنـزلونا لأنَّا غير جنسهـم      منازلَ الوحش في الإهمال عنـدهمُ
فـما لهم في تَوَقِّي ضرنا نظـرٌ       ولا لهم في ترقِّي قـدرنـا همـمُ
فليتنا لو قـدرنا أن نـعرِّفَـهـم      مقدارَهم عندنا أو لــو دَرَوْه هُمُ
لهم مريحانِ من جهل وفرط غنًـى      وعنـدنا المتـعبان: العلم والعـدم

وهكذا نرى الألم يعصف بنفس الشاعر، و هو يرى ضياع قيمة العلم ومكانة العلماء، بينما يتقدم الجهلاء ويفوزون برغد العيش .
*صبري أبوحسين
4 - فبراير - 2008
شكوى شاعر     كن أول من يقيّم
 
وتتردد هذه المعاني ومشاعر الأسى واليأس لدى شاعر آخر هو أبوالحسين الجزار، ولكنه يصوغها في سخرية دامعة وإحساس بمرارة الضياع حينما يرى أنه سلك سبيل العلم، فأضاع عمره، ولم يجن من ذلك إلا الخمول وإهمال الذكر:
قرأت النحو تبيانًا وفهـــمًا       إلى أن كِعْتُ منه وضاق صدري
فما استنبطت منه سوى محالٍ       يـحال بـه على زيـد وعمـرو
فكان النصب فيه علي نصبًا        وكـان الرفـع فيـه لغير قـدري
وكان الخفض فيه جُلَّ حظي        وكـان الجـزم فيه لقطع ذكـري
 
تعليق ختامي
وهكذا استحال الشعر أدبًا ملتحمًا بهموم الإنسان العادي وما يعانيه في حياته من كُرُبات ومشاكل، متخذًا أسلوبًا سهلاً، ولغة واضحة قريبة من اللغة المستعملة العامية، وذلك لأن الشعراء ـ وقتئذ ـ راحوا يخاطبون الجمهور من عامة الشعب، أو يخاطبون ذوات أنفسهم يبثُّون أشعارَهم همومهم وآلامهم، عندما يئسوا من الوصول إلى السلاطين والأمراء، إما لأن الأبواب موصدة أمامهم، وإما لانصراف هؤلاء المماليك عن الشعر والشعراء لانشغالهم بالصراعات المستمرة فيما بينهم، أو كان السبب في ذلك عجمة في ألسنتهم لا تمكِّنهم من تذوق الشعر أو فهمه .
وهكذا صار الأدب في هذه المرحلة أدب العامة بعد أن كان في الماضي أدب الخاصة، ولم يعد حبيس الدور والقصور، وإنما خرج من دائرة الخلفاء والسلاطين والوزراء، ومن نطاق البيئة الأرستقراطية التي كان شعراء الماضي يدورون في فلكها إلى نطاق البيئة الشعبية البرجوازية، المختلفة الثقافات والأهواء .
*صبري أبوحسين
4 - فبراير - 2008
شكرا    كن أول من يقيّم
 
مشكور دكتور على هذي المعلومات القيمة وجزاك الله عنا كل الخير  
ثرياء
9 - فبراير - 2008
شكرًا يا ثريا    كن أول من يقيّم
 
ثريا:
أشكركِ على قراءتك هذا الجهد الذي لم يكتملْ بعدُ، ويحتاج جهدك وجهدك أمثالك من الباحثات والباحثين.
أنتظر منك مقالات وبحوث في هذا المساق المظلوم من الجميع: أساتذة وطلابًا، ومعاهد وجامعاتٍ، في وطننا الكبير!!! 
*صبري أبوحسين
10 - فبراير - 2008
تقييم الموضوع    كن أول من يقيّم
 
الشكر الجزير للدكتور صبري أبو الحسين على الجهود الذى بذلها في هذا الموضوع ونتمنى له التوفيق والسداد دائماً!!!!!!!
جعله الله في ميزان حسنته !!!!!!!!
بنت البشر
10 - فبراير - 2008
 1  2  3  4