لعل الخطوة الأولى الممهِّدة لدراسة علمي العروض والقافية، وتيسير تعلمهما تتمثل في التعرف على فوائدهما العديدة وقيَمهما المتنوعة، والاقتناع بسمو مكانتهما بين العلوم، حتى يُوجَد الدافع النفسي العقلي لدى المتلقي دارسًا وباحثًا، لاسيما إذا كان هذان العِلْمان قد نالا جفاءً وسوءَ تقدير من جهابذة أعلام من السلَف والخلَف، على حد سواء!!! إذ توجد في كتب السلف والخلف عبارات تنال من علمي العروض والقافية نيلاً صريحًا أو نيلاً مغلفًا بغلاف كنائي: فمن نماذج النيل الصريح قول الجاحظ(ت255هـ) بأن "العروض علم مولَّد، وأدب مستبرَد، ومذهب مرفوض، وكلام مجهول يستكدُّ العقل بمستفعلن وفعول، من غير فائدة و لا محصول". وقول الشيخ بهاء الدين السبكي(ت771هـ): إذا كنت ذا عقل سليم فلا تملْ لعلم عروض يوقع القلب في الكرب فكل امرئ عانى العروض فإنما تعـرض للتقطيع وانساق للضرب ومن التلميح قول أبي العتاهية-لما قيل له:خرجت على العروض-:أنا أكبر من العروض!!! وقول الشاعر: قد كان شعر الورى صحيحًا من قبل أن يوجد الخليل وتقرير بعض المحدثين عند نقدهم للعروض الخليلي من أنه كالمطرقة والسندان، وأنه علم جاف متحجِّر، لا يغني ولا يسمن من جوع!!! وأن قواعد القافية لا تستحق أن تُدرس كعلم مستقل، وإن القسم الأعظم من هذين العلمين يمكن إهمالهما دون أن نخسر شيئًا، وأن طريقة تدريس العلمين سمجة ممجوجة، تتضمن أخطاء ونواقص متوارثة، فيها الكثير الذي لا طائل من ورائه!!!! وقد تنوقلت هذه النصوص وغيرها في مصادر الدرس العروضي ومراجعه بدون نقد أو مؤاخذة من قبل ناقليها. وخير ردٍّ عليها أن نعدد ونحلل القيم المتنوعة لعلمي العروض والقافية، والتي تتمثل في الآتي: *مساعدة المتلقي على الاعتقاد العقلي- بعد اليقين القلبي- بأن القرآن الكريم ليس بشعر، وبأن الرسول-صلى الله عليه وسلم- ليس بشاعر، وذلك إذا ما طبق مقاييس هذين العلمين على النصين:القرآني الكريم والنبوي الشريف؛ إذ يجدهما يخالفان تلك المقاييس بجلاء. فبهما يتميز الشعر من النثر. *القدرة على تمييز سليم وزن الشعر من مكسوره، ومعرفة ما فيه من تغيير إيقاعي داخلي في أجزائه المختلفة:بدءًا وحشوًا وعروضًا وضربًا، وقافية. *مساعدة اللغوي في تحليله الظواهر اللغوية الموجودة في النص الشعري التراثي صرفيًّا ومعجميًّا ونحويًّا. *مساعدة الناقد في تبيُّن مواطن اللذة الإيقاعية أو مدارك الهبوط الموسيقي في النص الشعري الذي يواجهه تذوقًا وتحليلاً، فيعلم مبلغ اقتدار الشاعر على تصريف الكلام وتنويع الأنغام، فبدونهما لا يستطيع الناقد أن يحيط بعناصر الشعر، أو يحسن التذوق له. *المساعدة على التفطن لما يزدان به الشعر العربي من اتساق في الوزن وانسجام في الموسيقى وتفنن في القوافي. وتربية الإحساس بمدى اطراد الأوزان وانسياب النغم أو الشعور بما يفسد هذا الاتساق والاطراد في البيت الشعري مقروءًا كان أو مسموعًا. و"تلك ميزة يكبرها عشاق الفن وأرباب الذوق السليم. أَفَيرضيك أيها المعرض النافر أن تظل من أرباب الذوق السقيم؟"!![صفوة العروض ص9، أ/عبدالعليم إبراهيم طبع مكتبة غريب بالقاهرة د.ت.] * التأثير في المبدعين من الفحول والناشئة؛ إذ لا غنى لأي متلقٍ شاعر عن معرفة أبرز أسس هذين العلمين قبل إبداعه وأثناءه وبعده؛ حتى لا يقع في خلط بحور الشعر بعضها ببعض، أو يقع في الكسر أو التغيير الزحافي أو العلِّي القبيح، غير الجائز أو عيوب القافية من إيطاء أو إقواء أو سناد أو غيرهما مما هو مفصل في أدبيات هذين العلمين؛ فهو يذكر الفحول دائمًا بالقواعد الموسيقية التي درج العرب على نظم أشعارهم عليها منذ جاهليتهم الأولى حتى آننا هذا. كما أن لهذين العلمين دورًا مؤثرًا في بناء الملكة الشعرية وتنميتها وتطويرها لدى الناشئة من المبدعين، فهناك عدد كبير من الشعراء وُلِدوا أو صُنِعوا شعريًّا على يد عروضيين ماهرين أخذوا بأيديهم خطوة خطوة، حتى صاروا شعراء. *تنمية القدرة على قراءة الشعر قراءة صحيحة مؤثرة، وتوقي الأخطاء التي يتورط فيها القارئ إذا كان الشعر غير مضبوط بالشكل، أو إذا تسرَّب إليه شيء من الفساد أو التحريف في الرواية أو الطباعة أو نحو ذلك. *مساعدة مَن يشتغلون برواية الشعر ونقده وتحقيق نصوصه المطبوعة والمخطوطة في تقويم المعوج وإصلاح الفاسد من الأبيات، وفي تذوق النصوص وتحليلها، وبيان ما فيها من جوازات أو ضرورات شعرية. * المساعدة في معرفة الاصطلاحات العروضية التي تذكر في النصوص الأدبية المختلفة، مثل قول العربي القديم لما اتهم القرآن أمامه بأنه شعر:" لقد عرفت الشعر ورجزه وهزجه وقريضه فما هو به". وقول الشاعر: وقصيدةٍ قد بتُّ أنظر بينها حتى أقوِّم مـيلَها وسنادها نظرَ المثقِّف في كعوب قناتِه حتـى يـقيمَ ثِقافُه منآدَها وقول الآخر: وشعرٍ قد أرِقْتُ له غريبٌ أجانبه المساند والمحالا الشاعر الأندلسي: يا كاملاً شـوقي إلـيه وافر وبسيط وجدي في هواه عزيز عاملت أسبابي لديك بقطعها والقطع في الأسباب ليس يجوز وقول الأندلسي الآخر: كففت عن الوصال طويل شوقي إليك وأنت للروح الخليل وكـفك للطويل فدتـك نـفسي قبيح ليس يرضاه الخليل ... ومن ثَم كان حرص العلماء قديمًا وحديثًا على تيسير هذين العلمين، وتقديمهما في ثوب قشيب، حسب رؤية كل مؤلف، وطبيعة التوجه الثقافي لعصره. وما أعظم إيجاز العلَّامة الجوهري(ت393هـ) لهذه الفوائد بقوله:"العروض ميزان الشعر، وهي ترجمة عن ذوق الطباع السليمة. وفوائدها ثلاث:إحداها أنه يستعين بها مَن خانَه الذوق. وثانيتها أنه يُعرَف بها مفارقة القرآن للشعر ومباينته له. وثالثتها أنه يُعلَم بها ما يجوز في الشعر مما لا يجوز فيه". وقال ابن جني(ت 392 هـ)مقررًا قيمة العروض:" العروض ميزان الشعر، وبه يُعرف صحيحه من مكسوره، فما وافق أشعار العرب في عدة الحروف والحركات والسكنات، فهو شعر كما أنه شعر. وما خالفه فيما ذكرناهفليس شعرًا، وإن قام ذلك وزنًا عند بعض الناس لم يسمَّ شعرًا حتى يوافقه فيما قدمناه" وصدق العلامة بدر الدين الدماميني(763-837هـ) في قوله:"لا يخفى أن العروض صناعة تقيم لبضاعة الشعر في سوق المحاسن وزنًا، وتجعل تعاطيه بالقسطاس المستقيم سهلاً بعد أن كان حزْنًا"... وغير ذلك من أقوال السلف في قيمة هذين العلمين. ولعل من أبلغ مقولات العروضيين المحدثين في ذلك الشأن مقدمة الأستاذ الحساني حسن عبدالله في تحقيقه لكتاب الكافي في العروض والقوافي، يقول:"إذا أريد لديوان العرب أن يبقى فلا بد أن تبقى أنغام الشعر في آذان العرب. ولهذا سبيلان: الحفاظ على الشعر نفسه، والحفاظ على علم الشعر". وفي مقدمة مفرداته العروض والقافية. إنهما من العلوم الجليلة الفائدة في نواح معرفية شتى، بحيث بات لا يستغني عنهما قطاع كبير من المثقفين، مهما كانت درجة ثقافتهم اتساعًا ومحدوديةً، على النحو الذي اتضح سابقًا، حيث يستعين بهما اللغوي، ودارس البلاغة، والناقد، والمحقق، والمبدع فحلاً كان أو نشئًا، والمصحِّح اللغوي، والمؤدِّي المُلْقِي للشعر...إلخ إن علمي العروض والقافية لهما المقام الأعلى في معاشرة النص الشعري إبداعًا أو تذوقًا أو نقدًا أو قراءة، وإن الاستهانة بهما استهانة بالشعر نفسه، واستهانة بعد هذا بوجدان الأمة وأخلاقها؛ فخطرهما من خطر الشعر، وإن خطر الشعر لعظيم... ومِن ثَمَّ وُجِدت جهود متنوعة في سبيل تيسير تعليم هذين العِلْمين أحاول عرضها وبيان الموقف الحق منها في قادم المقالات والتعليقات، بإذن الله تعالى. د/صبري أبوحسين. |